يتميز شعر محمود درويش - في مرحلته الجديدة، ابتداء من"لا تعتذر عما فعلت"، وپ"لماذا تركت الحصان وحيداً؟"، وپ"سرير الغريبة"، وپ"جدارية محمود درويش"إلى"حالة حصار"وپ"كزهر اللوز أو أبعد"وانتهاء بنص"في حضرة الغياب"- بأنه شعر يلفت الانتباه إلى حضوره الذاتي، قبل أن تجاوزه العين إلى ما يقع وراءه من مشاهد، أو يشير إليه من وقائع وأحداث، فهو شعر وعي لا تجتليه العين القارئة إلا في علاقات الدوال التي تجذب بها القصيدة الانتباه إلى حضورها في أسطر من قبيل: القصيدة"ما بين بين": وفي وسعها أن تضيء الليالي بنهدي فتاة وفي وسعها أن تضيء بتفاحة جسدين وفي وسعها أن تعيد بصرخة غاردينيا وطن. فهي قصيدة تنطلق من مبدأ أنه على قدر حلمك تتسع الأرض، والأرض أمّ المخيلة النازفة، والمخيلة النازفة كالحلم كلاهما لا يعترف بالحدود العملية المنطقية بين الأشياء، ويؤثر الاستعارة على التشبيه، والبصيرة على البصر، والحدس على الاستنباط، وأخيراً يعرف كيف يسوس الصور المتأبّية على المدار المغلق أو النسق المقفول، ولذلك يصف صاحب هذه القصيدة إبداعه بقوله: أمشي على هدى البصيرة، ربما أعطي الحكاية سيرة شخصية، فالمفردات تسوسني وأسوسها، أنا شكلها وهي التجلّي الحر، لكن قبل ما سأقول يسبقني غدٌ ماضٍ. أنا ملك الصدى لا عرش لي إلا الهوامش. والطريق هو الطريقة. ربما نسى الأوائل وصف شيء ما، أحُرِّك فيه ذاكرة وحسّاً. والأسطر تنبئ عن حضور التناص بصفته عنصراً تكوينياً أساسياً، عنصراً يجعلني أفهم عبارات من مثل"أنا ملك الصدى"أو"لا عرش لي إلا الهوامش"على أنها إعلان عن تناص القصيدة، وذلك بالمعنى الذي يجعل التناص تحولاً حراً ما بين أنساق سابقة وحاضرة، فلا يمكن حصره في علاقة أو حتى علاقات وحيدة البعد. إنه حركة مركَّبة في الخيال الخلاق للشاعر والقارئ معاً، حركة تنطوي على التوتر، مولّدة للعلاقات الخلافية التي تسوس الكلمات وتسوسها الكلمات في الوقت نفسه، بعيداً من أحادية الدلالة أو المعنى أو المقصد، فالتناص تخلّق لا حدود لتوليده، كأنه محاكاة لا تنفك ترجع القهقرى، مذكِّرة إيانا بما كتبه الروائي البريطاني الشهير لورنس داريل 1912-1990 عن أن كل كتابته اقتبسها عن الأحياء والأموات، حتى غدا هو نفسه حاشية فوق رسالة، لم تنته أبداً. والمسافة قريبة جداً بين دلالة"الحاشية"- في عبارات لورنس داريل ? وپ"عرش الهوامش"أو مملكة الصدى في قصائد محمود درويش، لكن بالمعنى الذي لا يعلن"موت المؤلف"بل حضوره الفاعل بخياله الذي يتحرك فيه ذاكرة وحساً. ولذلك لا يتردد المؤلف المعلن - محمود درويش - في: خضراء أرض قصيدتي خضراء يحملها الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في خصوبتها. ولي منها: تأمل نرجس في ماء صورته ولي منها وضوح الظل في المترادفات ودقة المعنى. ... ولى منها: حمار الحكمة المنسيّ فوق التل يسخر من خرافتها وواقعها. ولي منها: احتقان الرمز بالأضداد لا التجسيد يرجعها من الذكرى ولا التجريد يرفعها إلى الإشراقة الكبرى. وقد حرصت على نقل المقطع ? على رغم طوله - لأنه دال على إعلان فرحة الشاعر بإبداعه. وهي فرحة لا بد من أن نفهمها في سياق جداريته التي كتبها بعد جراحة وضعته في مواجهة الموت، ومنحته فرصة التحديق في وجه الموت، كما قال الفيلسوف كيركغارد 1813-1855 أو التحديق في عمق الوجود المظلم، والعلاقة وثيقة بين العبارتين اللتين لا تفارقان - على طريقة الخلف - عشق الحياة المقترنة بالخصوبة المتجددة واللون الأخضر الذي يفترش الأرض في الربيع الذي يأتي بعد الشتاء، أقصد إلى عشق الحياة التي يجتلي معها الشاعر صنعه كما يجتلي نرجس صورته المنعكسة على سطح الماء، وذلك في وضوح الظل الذي هو ضوء، ينسرب إلى المترادفات، غير مفارق دقة المعنى، ولكن لا بالدلالة التي تعيدنا إلى صورة الشاعر الرومانطيقي الذي: "هبط الأرض كالشعاع السنيّ/ بعصا ساحر وقلب نبيّ". بل تضعنا في حضرة وعي ساخر لا يفوته"حمار"الحكمة المنسي فوق التل، يفيد الشاعر من حمولته هل هي إشارة إلى قوله تعالى:"كمثل الحمار يحمل أسفاراً"؟! بما يدنيها إلى عالمه الذي هو عالمنا، هازئاً بخرافتها التي يحيلها إلى رمز محتقن بالأضداد، وذلك كله كي يؤسس قصيدة هي"الما بين"الذي يتوسط التجسيد والتجريد، جامعاً بينهما، بما يفر من الماضي الذكرى إلى المستقبل الذي قد يحمل بشارة الإشراقة الكبرى. والإشارة إلى"الما بين"لها صلتها بوضوح الظل في المترادفات ودقة المعنى. وهي صلة تذكِّر بكلمات أبي حيان التوحيدي التي نقلها محمود درويش - في ديوانه"كزهر اللوز أو أبعد"- عن الليلة الخامسة والعشرين في كتابه"الإمتاع والمؤانسة"، حيث قال التوحيدي:"أحسن الكلام ما... قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم". هل يلقي هذا الاقتباس ضوءاً على الحكمة المنسية فوق التل، أو المراوحة بين التجسيد والتجريد؟ أياً كانت الإجابة فإنها تلفت الانتباه إلى مباني القصيدة التي تؤثر السهل الممتنع، وتخاطب صاحبها كأنها النجوى، معتمدة على ضمير المتكلم الذي يغدو ضميراً للمخاطب في تجليات"التجريد"في البلاغة القديمة حيث تزدوج"أنا"المتكلم، فيصبح هو المخاطِب والمخاطَب في آن معاً، كما علَّمونا في تفسير قول الشاعر القديم: "أتصحو أم فؤادك غير صاحٍ/ عشية هَمَّ صحبك بالرواح؟". لكن تجريد محمود درويش لا يشبه التجريد القديم إلا في الشكل الخارجي، لأنه يجاوز التأمل الميتافيزيقي الذي غزا القصائد الأخيرة إلى حال وجود القصيدة الحاضرة كالغياب، أو غيابها الذي لا يفارق حضورها الملتبس، وذلك في مراوغة الدلالات حمّالة الأوجه التي لا تكف عن توليد المعاني وإطلاق سراح الدوال. ويشير الحضور المراوغ لقصيدة الوعي، في هذا السياق، إلى القصيدة التي لا تفتح أبواب المعاني إلا لتغلقها، أو على الأقل تترك فرجة صغرى، لا تشبع منها العين المتقصية للظواهر الواضحة والحقائق المألوفة، أو حتى العين التي تألف التطلع إلى مرايا الشعر في شموسه النهارية، ولكن العين التي تختلس اللمح الذي تغوى به المواربة، خصوصاً من المنظور الغسقي للحظة التي يختلط فيها النور بالظلام، والملاك بالشيطان، حيث ندخل"ما بين"الثنائيات التي تدني بطرفيها إلى حال من الاتحاد، في رؤيا الأنا الصاعدة إلى السماء، حيث مملكتها المتوخاة، وحيث مبدأ الرغبة الذي يدفع هذه الأنا إلى ولوج الغياب الذي يفضي إلى الرؤيا التي تصعد بالقلب إلى قانا الجليل وإشراقة الحضور، مراوحة في"الما بين"حيث تتجاور الأضداد التي تتحول إلى أشباه، حيث نقرأ: في البال أغنية تتأرجح بين الحضور وبين الغياب، ولا تفتح الباب إلا لكي توصد الباب... أغنية من حياة الضباب ولكنها لا تطيع سوى ما نسيت من كلمات. هذه الأغنية القصيدة هي تجسيد للوعي الإبداعي للذات المنشغلة بحضور العالم فيها، قدر انشغالها بتأمل وعيها لذاته، وفي ذاته، وذلك في فعل الانقسام المعرفي الخلاّق الذي يغدو به الوعي ذاتاً ناظرة وذاتاً منظوراً إليها، كأنها الوجه الذي يتأمل حضوره في مرآة، أو كأنها القرين الذي لا يكف عن محاورة، أو مراوغة، قرينه الذي هو إياه، أو الكائن الذي لا يفقد ظله، أو الشبح الذي ينوس في الفضاء، ناسجاً من إبرة الضوء - كالفراشة - زينة ملهاته، متولِّداً عن كينونته التي ترقص في نار مأساتها: نصف عنقاء، بين ضوء ونار وظلمة، ما بين البين نفسها في ثنائية:"الحضور"وپ"الغياب". والنتيجة هي أولى الخصائص النوعية لهذه القصيدة، حيث العنصر الدلالي، المهيمن والرئيسي، هو حضور الموت الذي تبسط دواله ومدلولاته شبكة حضورها على القصائد، مجسدة التأثير المزلزل للموت الذي كان محمود درويش، المؤلف المعلن، أقرب إليه من حبل الوريد، في عملية القلب المفتوح الحرجة التي خرج منها سالماً، وأرجو له دوام السلامة والعافية، ولكن بعد أن حَدّق في الهاوية المظلمة، متأملاً فيوريات Furies أو إيرينيات Erinyes الموت، محلّقة حوله، محيطة به، وهو يقف على ضفة النهر الذي ينقل ملاحه خارون Charon الفانين إلى حيث هاديس، رب العالم السفلي في الأساطير اليونانية القديمة، زوج برسيفونة، حاملة الميزان الذي يزن الذنوب، ملكة العالم السفلي الذي يأخذ اسمه من مَلِكه: هاديس. هذه التجربة الرهيبة مع المرض تركت أعمق الأثر في وعي محمود درويش الإنسان، واللاوعي الإبداعي لمحمود درويش الشاعر. وقد تجلى التأثير الرهيب لهذه التجربة التي لامست فيها الحياة الموت وكادت تغدو إياه في الدواوين الأخيرة التي تصاعد فيها هاجس الموت دالاً، ملحاحاً، متعدد المستويات والأبعاد، وذلك في توتر إيقاعي، سرعان ما تتحول دواله إلى مدلولات تغدو دوالَّ بدورها، لا تكف عن التكاثر. ولا غرابة - والأمر كذلك - أن تتحول التجربة إلى ديوان شعر كامل هو"جدارية محمود درويش"الذي يدور كله حول الموت المتربص بالحياة التي لا تملك سوى أن تصارعه بالإبداع الذي يهزم الموت، فينبعث الشاعر من بين براثن الموت كالعنقاء التي تتولد من رمادها، مؤكداً ديمومة الإبداع الذي يعني الحياة والتجدد والخصب والنماء. وكما أن الإبداع قرين الحياة في عنفوانها، وفي حضورها الذي ينفي الغياب، فالموت نقيض الحضور قرين الغياب: حيث العدم الكامل اللا هنا واللا زمان واللا وجود كلي الحضور، كأنه البياض المطلق، البياض الذي توحِّدنا النهاية فيه: بياض الكفن. ويؤكد تكرار دال البياض فاعلية التناص التي تجمع ما بين استهلال جدارية محمود درويش، حيث البياض الذي يفترش مبتدى الجدارية، متمثلاً في الممرضة التي ترتدي البياض، والمريض المخدّر الذي يرتدي الأبيض في رقدته على منضدة العمليات البيضاء، يحمله جناح حمامة بيضاء إلى سقف غمامة بيضاء، إلى سماوات الأبيض المطلق. وتكرار دال الأبيض، في هذا السياق الاستهلالي، يستدعي الاستهلال نفسه الذي تبدأ به قصيدة أمل دنقل التي يمضي مفتتحها على النحو الآتي: في غرف العمليات، كان نقاب الأطباء أبيض، لون المعاطف أبيض، تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات، الملاءات، لون الأسرّة، أربطة الشاش والقطن، قرص المنوّم، أنبوبة المصل، كوب اللبن. كل هذا يشيع بقلبي الوهن كل هذا البياض يذكّرني بالكفنْ! وتكرار الدال نفسه بالغ الدلالة في وصله ما بين مفتتح قصيدة أمل دنقل الذي حمله خارون إلى عالم هاديس، حيث اللارجوع من عالم الموت الذي مضى إليه أمل، عليه رحمة الله، ومستهل جدارية محمود درويش التي لم يصل فيها إلى شاطئ هاديس، أو يدخل عالم الموت، إذ إنه جاء قبل الموعد المقدور له أو عليه، فعاد إلى شاطئ الحياة قبل أن يكمل عبور نهر الموت الأخيرون مرتدياً ثوب العافية، ليكمل رحلته إلى المعنى، عبر قصيدته الخضراء: لون الربيع الذي يعود مع شقائق النعمان، علامة آلهة وإلهات الخصب والمعرفة في الأساطير الوثنية القديمة.