وبالرغم من أن معجم محمود درويش يختبر الألفاظ بعناية، ويعيد تركيبها في عبارات تختزن مأساته، وتجرب احتمال معناها ضمن رؤية حاكمة للحرمان، إلا أن درويش استطاع في هذا النص أن يضخ حرمانه في سياق يمس المعنى الإنساني بأشد الصيغ خصوصية في تشفير ذلك الحرمان وتأويله: (أطير وليس لي فلك أخير). ............................ (بحارة حولي ولا ميناء) على هذا النحو يندمج سياق التأويل عند درويش مع مأساته في التيمة الإنسانية الكبرى، ويستصحب هذا التأويل في الموت والحياة كذلك. فهو حين يتذكر (لعنته) في ضفاف الأبدية ويستعيدها ليتحصن ضد الثنائيات التي لا تعرف احتمالا؛ يختبر تأويل رؤيته ويلوذ بالمعاني بعيداً عن الثنائيات. ذلك أن تجريد الأشياء والأحداث عن صورها كما هي في العالم، وتأويلها ضمن مجاز في الرؤيا الإنسانية، ينزع عنها حمولات الذاكرة، ويدخلها في تكوين البياض والرؤيا لتتحول إلى دراما آسرة قائمة على التشكيك والاحتمال والمجاز: (تنحلُّ الضمائر كلها «هو»، في «أنا»، في «أنت» .... وتنحل العناصر والمشاعر/ لا أرى جسدي هناك ولا أحس بعنفوان الموت أو بحياتي الأولى/ كأني لست منِّي. من أنا أأنا الفقيد ُ أم الوليد) فالشاعر يتساءل في النص ولادة مشككة بحياة أخرى مفقودة، لكنه في كلا الحالتين لا يريد هذا الشعور من انعدام الوزن، فهو يريد أن يولد مرة أخرى لا كما جاء من الأزل في المرة الأولى، ولكن كما يريد أن يكون في المستقبل. بينما ولادة الحاضر هي ولادة اللغة التي تحقق وجوده الراهن بوجودها قبالة الصمت/الموت: (لم أولد لأعرف أنني سأموت.... كأني عندما أتذكر النسيان تنقذ حاضري لغتي/ كأني حاضرٌ أبدا ً كأني طائرٌ أبدا/ كأني مذ عرفتك أدمنت لغتي هشاشتها على عرباتك البيضاء) ذلك حين يتماهى الصمت مع الموت تأتي اللغة لتعيد الحياة. فمعنى اللغة هنا (يظفر بوجوده المادي) بحسب (ميخائيل باختين). إنه رهان الوجود في مرايا العدم؛ حيث يقين اللغة/ الوجود في المستقبل. ذلك المستقبل الذي يحالف الماضي في الزمن الدرويشي، لا يأتي من قوة السلاح الذي يوسع الكلمات للموتى، أو الجيوش التي تنشئ ممالك النسيان. لذلك تأتي خسارة الأرض من أثر النشيد الملحمي: (الأرض عيد الخاسرين «ونحن منهم» نحن من أثر النشيد الملحمي على المكان كريشة النسر العجوز خيامنا في الريح) إن بقاء المكان تحت مفاتن الأنقاض أهم من السلاح والجيوش. إن البقاء هنا هو صيرورة الوجود المتناسخ إلى الأبد، رغم الخسارة. (لم يمت أحد تماما ً تلك أرواح ٌ تغير شكلها ومقامها) والشاعر هنا راء مشغول بشواهد المكان بين الماضي والمستقبل بحسب رؤياه للوجود التي لا يكاد يراها أحد في الراهن. فمحمود درويش هنا يغني أناشيد الظل والمجاز ليستمع بالكاد إلى همس ما يقول، وليس نبياً يبشر بالقيامة. (مثلما سار المسيح على البحيرة، سرت في رؤياي ولا أبشر بالقيامة. لم أغير غير إيقاعي لأسمع نبض قلبي واضحاً ..... هاهنا كنا وكانت نخلتان. فالمنظر البحري والسور المدافع عن خسارتنا يقول ما زلنا هنا حتى لو انفصل الزمان عن المكان). على مدار النص يتأمل درويش مأزقه الوجودي في ضفاف الأبدية بتأويل يستند للغة والماضي والمستقبل، ويواجه الموت محتفلاً بمطلق الحياة، في حميميات إنسانية صغيرة كسلاح في وجه الموت، بالرغم من الرهبة التي تفضح خوفه من العدم. (ولم تلد ولداً يجيئك ضارعاً: أبتي أحبك، وحدك المنفيّ ياملك الملوك ولا مديح لصولجانك .... هزمتك يا موت الفنون جميعها، هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين. مسلة المصريّ، مقبرة الفراعنة النقوش على حجارة معبد هزمتك وانتصرت وأفلت من كمائنك الخلود). تلك الأغاني التي هزمت الموت في آثار الأوائل، هي نفسها أصداء الأناشيد التي يرددها (الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في خصوبتها) التي تنسخ الوجود من العدم، وتطعن السيف بوردة؛ لذلك يحاصرها الغاصب والسَّجان خلف أسوار المدن القديمة حتى لا تنفذ إليها. ربما أفلت درويش من الأبدية ليسترجع هامش الوجود في حياة تنسخ إيقاعها بلغة الحق الأعزل وتنهض بكاملها في مقاومة المحو والعدم من دون ضجيج. وبنشيد ينفذ هسيسه إلى الأرض التي (تنقص بالأغاني أو تزيد)؛ نشيد يحاصر به عدوا يريد أن يحيا على (إيقاع أمريكا وحائط أورشليم). إنه النشيد الذي يربك آلة الفناء. فالموت الذي خاض درويش ضفافه، أحس فيه معنى ما، من معاني حياته الماضية (وكأنني قد مت قبل الآن أعرف هذه الرؤيا). وقبالة الموت يوازي درويش، موت الحياة المجازية التي عاشها سابقاً، فهو وحده أحس بالغربة والوحدة والبعد (وهي مفردات مكثفة في النص بتصاريف عديدة). أحس درويش بكل ذلك، لا ليعبر عن يأسه، ولكن ليعبر عن الرؤيا التي تحكم وجوده بين الماضي والمستقبل. فالحاضر الذي يمتحن وجوده، يكسر نشيد النأي الأزلي بالثنائيات المدمرة. لذلك يرسم درويش، على مدار النص، زمانه الأبيض ووجوده الحق عند حافتي الأزل والأبد، في المطلق، أو الماضي والمستقبل في التاريخ؛ ليهرب من ثنائيات الزمن الراهن وأضداده، أي ليحقق الرؤيا في الوجود الذي يراه لوحده من بعيد، فمدار الزمن في النص ينوس بين الماضي والمستقبل. (جئت قبل وجئت بعد) أو (كنت أو سأكون) (خذ غدي عني وهات الأمس) (لا أحد هنالك في انتظاري جئت قبل وجئت بعد/ فلم أجد أحدا ً يصدق ما أرى أنا من رأى وأنا البعيد أنا البعيد) هكذا رأى درويش ما وراء المنظور لينفذ من التاريخ إلى المطلق، ومن الحاضر إلى المستقبل، ومن الواقع إلى الحقيقة؛ رأى كل ذلك بلغته التي ستبقى شاهدا ً على وجوده الحقيقي: (وحدي أفتش شارد الخطوات عن أبديتي ... الواقعيٌ هو الخياليٌ الأكيد) وإذ يتردد الزمن الدرويشي في الجدارية بين الماضي والمستقبل على ذلك النحو من الاستعادة والتدوير والتحقق، فهو أيضاً الشاهد الوحيد على ما يراه الشاعر دون الآخرين. فعندما ذكر درويش زمنه الراهن قال: (الوقت صفر)، (الزمن المدور) بينما يتجدد الماضي بحسبانه رؤيا مستقبلية إزاء الوجود الحق. فالماضي هو المستقبل والعكس صحيح في زمن الجدارية أو الزمن الدرويشي. محمود درويش ولهذا يتجه درويش للماضي بنوستالجيا تعكس وجوده في المستقبل الكبير ليقينه بذلك. وينعي درويش من يندبون الماضي في محنة الحاضر، ليتأمل ما هو أجدر من البكاء على الماضي، أي ليتأمل حقيقته في الماضي كما هي في المستقبل أيضاً: (تركت الباب مفتوحا ً لأندلس الغنائيين/ واخترت الوقوف على سياج اللوز والرمان/ أنفض عن عباءة جديَ العالي خيوط العنكبوت/ وكان جيشا ً أجنبيا ً يعبر الطرق القديمة ذاتها/ ويقيس أبعاد الزمان بآلة الحرب القديمة ذاتها) فحين يقيس العدو زمانه بالسلاح، لا بد أن يكون وجوده عابرا ً في نقطة ما، في (الوقت الصفر) بين الماضي والمستقبل، مادام يحمي ذلك الزمن بآلة الحرب. ذلك أن النص هنا يماهي بين العدو والموت تماما ً. يستطيع الموت أن يقضي على الفرد ولكن لا يستطيع أن يقضي على شعب يتسلسل في الوجود إلى يوم القيامة. كما لوكان الموت الذي هزمته الفنون هو نفس العدو الذي يخاطبه درويش: (قلت للسجان عند الشاطئ الغربي هل أنت ابن سجاني القديم؟ نعم فأين أبوك قال أبي توفى من سنين/ أصيب بالإحباط من سأم الحراسة ثم أورثني مهمته ومهنته/ وأوصاني بأن أحمي المدينة من نشيدك) وحين تكون القصيدة وطنا ً يعجز السجان عن حماية الأرض التي (تنقص بالأغاني أو تزيد) من النشيد. ولو جرب آلة الفناء، ولو قتل المُغنِّي، لأن ذلك ليس من اختصاصه تماماً. يقول درويش مخاطباً الموت/ العدو: (الديك وقت لاختبار قصيدتي/ لا ليس هذا الشأن شأنك أنت مسئولٌ عن الطيني في البشري/ لا عن قوله أو فعله) بهذه الرؤيا يؤكد درويش يقينه الوجودي في أمسه كما في غده، فهذا اليقين هو الذي يحرره من الراهن، أي من الزمن المدور إلى الماضي والمستقبل أو العكس. (قد يكون «الآن» أبعد/ قد يكون الأمس أقرب/ والغد الماضي ولكني أشَّدُ «الآن» من يده ليعبر قربي التاريخ/ لا الزمن المدور مثل فوضى الماعز الجبلي) فهذا الحاضر الراهن، إنما هو عارض، وليس للشاعر منه شيء. أما الذي له فهو الماضي والمستقبل: (ما كان لي: أمسي، وما سيكون لي غديَ البعيدُ، وعودة الروح الشريدِ كأنَّ شيئاً لم يَكنُ وكأنَّ شيئاً لم يكن جرحٌ طفيفٌ في ذراع الحاضر العبثي .... والتاريخُ يسخر من ضحاياه ُ ومن أبطاله .... يلقي عليهم نظرة ٌ ويمرُ....) ورغم هذا الامتلاء بيقين الماضي والمستقبل في زمن درويش إلا أن درويش حذف نفسه أيضا في نهاية النص من الحاضر العبثي حين ختم الجدارية: هذا البحرُ ليهذا الهواءُ الرَّطْبُ ليواسمي - وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت - لي، أَما أَنا - وقد امتلأ تُبكُلِّ أَسباب الرحيل - فلستُ لي، أَنا لَستُ ليأَنا لَستُ لي ... إنه امتلاك المجاز واليقين في عين الوقت الذي ينوس بين الماضي والمستقبل (لي أمسي ولي غدي البعيد) وإذ ينفي درويش تحقق الكينونة في الحاضر العبثي بنفيه امتلاك ذاته المتحققة فإن ذلك يستدعي بالضرورة الرحيل في الوجود والإقامة في الغياب إذ الامتلاء بأسباب الرحيل هو عين العدم في عين الوجود. إن درويش هنا يختبر علاقة مركبة للمجاز والطبيعة والذات بطريقة لا تخلو من دلاله المزدوجة، ولكنها في الوقت نفسه تضعنا باستمرار أمام سؤال المعنى حيال تلك الحال الفريدة التي يكتب درويش من خلالها الشعر. فدرويش الذي قال (وحدي أفتش شارد الخطوات عن أبديتي) ربما كان إلى جانب المتنبي أحد شاعرين في العربية امتلكا القدرة على تحويل اللغة إلى طاقة لامعة في الكلمات، وهي قدرة عبقرية تمنح الشعر انزياحا حرا متجاوزا لموضوعاته ومندمجا في الحياة بوصفها فضاءً شعريا يخترق الخاص والعام والذاتي والموضوعي والتجريد والتجسيد؛ فتغيب الأغراض ويبقى الشعر ساطعا يمس الكلمات والأشياء فيحولها إلى كائنات شعرية منفكة عن حيثياتها في اللغة والعالم، وإزاء قدرة تعبيرية نادرة كهذه لا تنفك قيمة المعنى عن الإبداع، ذلك أن درويش الذي كتب هذا النص بمجاز قارب التخوم الصافية للشعر، وبهذه الفرادة الشعرية التي جعلت من مأساته جرحا للضمير الإنساني في العالم، كان لابد أن يستفز تناقضاته القصوى ليعبر عن موقعه المتحقق في الماضي والمستقبل والمحذوف من الحاضر في سياق المعنى المتصل بسؤال الحقيقة والإبداع حيال هوية الأنا، فهو هنا في هذا النص لا يكتب مجازا محضا، ولا يحذف المعنى، بل يجد نفسه كينونة منشطرة بضغط التاريخ؛ كينونة ينعكس عليها الزمان منفكا عن سياقه المنسجم مع تلك الأنا في الماضي والمستقبل، ليصدمها بفجوة الحاضر العبثي؛ حاضر الاحتلال والاقتلاع. وتعبيرا عن هذه الحالة يتمثل درويش مأزقه الوجودي كشاعر كبير معني بالإفصاح عن هويته المتصلة بوجوده في التاريخ؛ تلك الهوية التي لا وجود لها في الواقع؛ إذ إن وجودها في هذا الحاضر هو الوجه الآخر للعدم إنها جدلية الوجود والعدم التي حين تنعكس على الوجود تحذف الذات منه فلا تبقى إلا طيفا متناسخا في سماء المكان لأن وجودها موجود بالقوة وغائب بالفعل. إن النفي المكرر في اللازمة: (أنا لست لي) يأتي تفسيرا لتلك الغربة والوحدة والبعد عن الزمن الحاضر في النص. ولهذا حين قال درويش: (واسمي - وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت – لي) كان يشير إلى خطأ المكان بوصفه انعكاسا للعدم الذي سيأتي منه على التابوت؛ فهو مكان ليس مكانه؛ إذ لا يقع فيه درويش على نفسه الغريبة؛ فالمكان هنا انعكاس للخطيئة (المكان خطيئتي) لذلك ينعكس خطأ المكان خطئاً في نطق الاسم لتجديد المعنى في دلالته المتصلة بالغربة والوحدة والبعد، في الحاضر، وحتى بعد الموت.