نشر جزء من كتابات الكتّاب والمثقفين في العصر الاستعماري أو ما يسمى "الأرشيف الكولونيالي" أفكاراً ناهضت الاستعمار والسيطرة الاستعمارية على البلدان المستعمرة. وأحد الأمثلة على الحال هذه كتاب توماس باين،"الحس المشترك"1776. فهذا الكتيب شاعت قراءته في أوساط المتعلمين بكالكوتا طوال القرن التاسع عشر، وألهم قراء الدعوة الى التحرر. ولا شك في أن نصوصاً كثيرة استلهمت تراث"التنوير"وتقاليده، وألهمت بدورها الشعوب المستعمرة. وبينما كان الرق لا يزال قائماً في بعض بلدان العالم الغربي، عمد بعض الكتّاب الغربيين، الى نقد الرق والتنديد به. وعلى هذا، فليس"الأرشيف الكولونيالي"متجانساً. وثمة شطر منه يضرب بجذوره في تقاليد"التنوير"، ويدعو الى الحرية والمساواة. وهذا الشطر قرينة على أن تقاليد"التنوير"الليبرالية يناقض بعضها بعضاً، وقد تستعمل بعض مبادئه في تسويغ الرق والاستعمار. وهذه النصوص كانت ذائعة الصيت في العالم المستعمَر، وفي الهند على وجه التخصيص. والشعوب المستعمَرة، أو نخبها، تنبهت على أن بعض الكتابات، على رغم استشراقها الأيديولوجي على معنى إدوارد سعيد للمفهوم، لا تخلو من الفائدة، وهي عون على فهم ثقافاتها ومجتمعاتها. ويقال أن البريطانيين مدوا شبكة سكك حديد في الهند لا نظير لها، وهذا قول حق. والى الشبكة هذه، استقدموا باحثين في الحفريات الأثرية والاناسة واللغويات الهندية. ولم تغفل الشعوب المستعمَرة عن الأمور المستجدة هذه، ولا عن عائدها في باب المعرفة عليها. والحق ان الشعوب المقهورة حملتها أحوالها على تأويل الكتابات الكولونيالية أو الاستعمارية تأويلاً ذكياً وبارعاً. فاستحسنت نخبها مقالات جون ستيوارت ميل وجيريمي بينثام. فهي كانت تلتمس مبادئ وأصولاً ليبرالية تخولها نقد سياسات المستعمِرين وخططهم، وتسوغ لها القول: إذا كانت ثقافتكم هي ثقافة مواطنة مواطنية وحرية وحقوق، فكيف تستحلون قهرنا وتجوزونه؟ فالشعوب المستعمرة كانت على بيِّنة من غنى ثقافة المستعمرين وتقاليدهم الثقافية. ولعل المهاتما غاندي حجة قوية على قولي. فنشدانه استقلال الهند توسل بمصادر متفرقة مثل توماس جيفرسون، الرئيس والمفكر الأميركي، وجون ستيوارت ميل، والتوراة، وجملة التراث الغربي ومفكريه المتحررين. وكان النص الاستعماري، مرات كثيرة، مصدر الرد على السلطة المستعمِرة، والطعن في قهرها الحرية والمواطنة على خلاف أصولها. ولم يقتصر زعم السلطة المستعمرة على مخاطبة الشعوب المستعمَرة بالقول:"أنتم مختلفون عنا". ولهذا القول تتمة هي:"يسعكم أن تكونوا مثلنا على هذا القدر أو ذاك، ولكن لن يسعكم أن تكونوا مثلنا تماماً". واستمال هذا الركن بعض المستعمَرين. فهم لم يكونوا كلهم مناهضين للاستعمار، ولا منكرين تسلطه. فبعضهم رأوا فيه ذريعة الى التحرر. والحق أن السلطة الاستعمارية أنشأت نوى سلطة محلية وأهلية، وأتاحت للمحليين الاستيلاء والبناء عليها. ولكن السلطة هذه أبقت معظم المستعمَرين في منزلة غامضة، ولم تلب رغباتهم ومطامحهم. وأنا أزعم أن التباس المقالات الاستعمارية تشق الطريق الى التهجين أو التوليد الثقافي. والتوليد ليس مزيجاً، ولا يقتصر عليه، على خلاف ظن غالب. فهو طريقة في الاحتيال على إلزامات المقالات الكولونيالية وعلى أوامرها ونواهيها "كونوا مثلنا". وظاهر الطريقة هو المحاكاة والتقليد، ولكن المحاكاة الظاهرة تبطن فرقاً، وتنقلب الى تخفٍ ومناورة، فعلى سبيل المثال، يقبل بعض الهنود على التنصر حماية لمعتقداتهم. فالتوليد، والحال هذه، هو مفاوضة مع السلطة الكولونيالية غايتها إنشاء سلطة هي نقيض السلطة الغالبة والقاهرة. وأزعم أن السبب في رواج الدراسات ما بعد الاستعمارية هو مناهجها في فهم الثقافة، وتأويلها، وتناولها تناولاً سياسياً وأخلاقياً، على خلاف الدراسات الدولية ودوائرها الجغرافية الدراسات الهندية، الافريقية.... وعمدة الدراسات ما بعد الاستعمارية هي التنبيه الى أن أوروبا كانت، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تشيد الأمم والمواطنين وحقوق الإنسان، من وجه، بينما كانت، من وجه آخر، تنشئ معارف استشراقية، وأنماطاً مكررة، و"وطنيين محليين"، وأفراداً تنكر عليهم مواطنتهم. فهي كانت ترفع، في آن، المدنية والكولونيالية. والتناقض العميق هذا هو في صلب الحداثة، ولا تنفك العولمة من آثاره ومن وسمه. عن هومي ك. بهابها أستاذ في جامعة هارفرد، "سيانس أومان"، 6/2007