"الرد بالكتابة في آداب المستعمرات القديمة"كتاب شارك في تأليفه بيل أشكروفت وغاريث غريفيث وهيلين تيفن، ونقلته الى العربية شهرة العالم، وصدر حديثاً ضمن مختارات"المنظمة العربية للترجمة". يبدأ تيرينس هوكس المحرر العام الكتاب بسؤال تمهيدي"ما هي النصوص"؟ ويؤكد تأثير أنماط الاتصال الإلكتروني وبنوك المعلومات التي تسافر بسرعة تفوق سرعة الصوت"بنتف"أو"شظايا"معرفية تعزز جهد القارئ بأفكار غير فلسفية حول"الفلسفة"وأخرى خرقاء حول"ثقافة"بغير مثقف!! لذا جاء"الرد بالكتابة"ليُعنى بمجهول آداب ما بعد الكولونيالية من شعوب استعمرتها بريطانيا ومثلها فرنسا والبرتغال وإسبانيا، ومسخت منها الثقافة الوطنية لتحل محلها ثقافات هجينة تحت قناع البعثات التبشيرية وما يحمله من تعليم ليبرالي!! فبين المستعمِر والمستعمَر يقوم منفى كياني يتغرّب فيه المبدع عن نفسه وهويته ولغته وأرضه وتاريخه، حتى يصير من منفاه كائناً مستعاراً يجاهد للتخلص من الكولونيالي ولغته المستوردة وثقافته المجلوبة وغير المحتملة بكلماتها ومعانيها وأساليبها كمثل المنافي الكثيرة التي عانتها البلدان الافريقية ومعها الهند. فأفريقيا شهدت نقاشاً فظاً بين الكاتب النيجيري وول سوينكا والثلاثي المأخوذ بالتوفيقية وانصهار اللغة الإنكليزية بالمحلية، ومن دعاته: شينويزو وجيمي ومادويويك. وجاء التشديد على تفوق الرؤية النصية ليواجه الامبراطورية الكولونيالية بآدابها وثقافاتها، فكانت بنيوية تزفتان تودوروف وبعده ادوارد سعيد تخوض المواجهات الديالكتيكية بين أوروبا والآخر، هذا إضافة الى تحليلات الماركسيين امثال لويس ألتوسير، وميشيل بيشو وجيمسون التي اكدت اهمية الإيديولوجيا في مواجهة الكولونيالية!! فالتهجين الثقافي اذ يرتبط بلغة الأم وانتمائها الى جذور تتراكم طبقات طبقات، صار محتوماً عليه ان يعتبر استراتيجيات النظرية النسوية الحديثة ونقدها للكولونيالية وما بعد الكولونيالية من تشويهات ماسخة!! وهنا تجدر الإشارة الى ان كلاً من جين ريس ودوريس ليسنغ وتوني موريسون تناظراً في العلاقات بين القوة الامبراطورية والمخيلة الحكائية التي تصقلها الأم بلغة الأسلاف وأغاني حنينهم، وخناجر موتاهم!! وفي هذا يقول سلمان رشدي"إن الصمت الحجري الذي صمته الهنود تحت الاحتلال البريطاني سينفجر بركاناً في مستقبل الأيام الآتية، لأنه لا بد لشعوب المستعمرات القديمة من ان ترد على المركز الأمبراطوري. اما الرد فلا يأتي بزعم الشعوب المستعمَرة لمركزيتها وثقافاتها وأديانها فحسب، وإنما بشك راديكالي يقوض اسس الميتافيزيقيا البريطانية والأوروبية ونسفها!! وفي كتاب"الاستشراق"يقول ادرواد سعيد:"ان دراسة الشرق والشرقيين صارت مرادفاً لانعدام المساواة الوجودية والأنطولوجية بينهم وبين الغربيين. فقد بدأ كثير من هواة الشرق الأوائل بالترحاب بالشرق بوصفه تعطيلاً لعاداتهم الأوروبية العقلية والروحية حتى اضيفت على الشرق قيم مبالغ فيها لإيمانه بوحدة الوجود وروحانيته وثباته وعراقته الزمنية وبدائيته". وعاين شلينغ الاعتقاد الشرقي بتعدد الآلهة باعتباره تمهيداً للوحدانية، بيد ان هذا التقدير الزائد كانت تتلوه، بلا استثناء، ردود فعل مضادة: عاد الشرق فجأة ليبدو وبصورة تستحق الرثاء، عالماً غير نام في إنسانيته، مضاداً للديموقرطية، متخلفاً، بربرياً، وهو ما كرسته مهنة الاستشراق وانحياز المستشرقين التي اقامت شراكة لا متساوية بين شرق وغرب. اما كارل ماركس فقد ميز هوية نظام اقتصادي آسيوي في تحليله عام 1853 للحكم البريطاني في الهند، ثم وضع الى جانب ذلك مباشرة الاستلاب الإنساني الذي أدخله الى هذا النظام التدخل الاستعماري الإنكليزي والجشع، والقسوة الوحشية الصريحة. ثم عاد ماركس بقناعة متنامية الى فكرة ان بريطانيا حتى بتدميرها آسيا، كانت تجعل قيام ثورة اجتماعية حقيقية فيها امراً ممكناً، وهذا يضعنا وجهاً لوجه امام عذابات الشرقيين وذلهم والعنف الضاري الذي مارسه الإنكليزي وحتّم التحولات التاريخية التي قال فيها ماركس:"الآن على رغم الاشمئزاز الذي لا بد من ان تثيره في المشاعر رؤية هذه المئات من التنظيمات الاجتماعية ذات النظام الأبوي، والكادحة التي لا تسبب أذى، يفك وينحل تنظيمها وتقذف الى لجج من المحن، ويفقد افرادها في الوقت نفسه الشكل القديم من الحضارة الذي عرفوه ووسائل تحصيل قوتهم الموروثة، فأية المرارات يتركها عالم قديم يتهاوى في وجداننا وفي تعاطفنا مع بؤس مَن هم مثلنا من البشر؟". جنوب أفريقيا والعنصرية اما في جنوب افريقيا حيث السيطرة على وسائل الاتصال لا تزال في يد السلطة الكولونيالية للدولة العنصرية، فقد وجد كتّاب مع بعد الكولونيالية انفسهم بلا لغة إذ جرى إسكاتهم بفرض اللغة الإنكليزية على عالمهم، فالتزموا الصمت بانتظار ان يهتدوا الى صوت مفارق لهم! وجاء صوت لويس نكوسي عام 1986 مثالاً لإدراك اهمية إقصاء الكولونيالي لكتاب جنوب افريقي بتوكيده التمييز العنصري وتفوق المستعمِر على المستعمَر. وإذ قرر نكوسي الاحتجاج والمجابهة كانت له رواية"تزاوج الطيور"لتصف محنة رجل أسود في جنوب افريقيا يواجه السجن والإعدام لاغتصابه امرأة بيضاء. وقد صور نكوسي الراوي في السجن منتظراً إعدامه، وتركه يربط بين سلسلة الظروف التي قادته الى"الاغتصاب"وكان اهمها غياب التواصل بين رجل أسود وامرأة بيضاء يعبران بالكناية والمجاز عن المسافات الثقافية في اختلافها وعدم ائتلافها! الضرر الذي يخشاه الكولونيالي وما بعد الكولونيالي هو يقظة الشعوب وربطها بين المعرفة والتحرر! لذا صار أدب ما بعد الكولونيالية مفعماً بأسئلة الخوف من المستعمَرين لو استعادوا قوتهم، وهذا ما عبّر عنه حارس السجن في الرواية إذ قال:"الأهالي، اذ تركناهم في ظل بيئتهم القَبَلية، كانوا في حالة الإذعان الطبيعي، وكانت معنوياتهم اعلى من معنويات بعض البيض، غير انهم فسدوا وتمردوا، وصاروا يعتقدون بأنهم تساووا مع البيض ما ان نالوا قدراً ضئيلاً من التعليم"! لذا فإن مساواة السود مع البيض تؤدي الى إفساد الشعوب الأصلية السوداء! هذا"الإفساد"هو الذي دفع بشينوا اتشيبي ان يكتب في العام 1965 مقالاً بعنوان:"الروائي معلماً"ليؤكد ان رواياته"قامت بتعليم قرائه ان ماضيهم الافريقي مع كل نواقصه لم يكن ليلة واحدة طويلة من الهمجية. وأظهر اتشيبي ان ما يميز فناني افريقيا عن فناني أوروبا هو تدوين اساطيرهم وقص حكاياتهم الإنسانية والاعتراف بأفريقية الأدب الموجه الى جمهور عالمي! وأدى الاعتراف بأفريقية الأدب الى مهاجمة أو ذم الكتّاب الأفارقة البارزين الذين ظلوا يكتبون باللغة الإنكليزية بمن فيهم وول سوينكا وجون بيبر كلارك وكريستوفر اوكيغبو لاستخدامهم لغة المستعمر القديمة الطراز، والخشنة وغير الموسيقية، والكثير من الخيال المستورد والغريب عن التقاليد الشعرية الشفاهية الافريقية! وتأتي منطقة الكاريبي بعد الهند وافريقيا لتمسي بوتقة اختبار لأكثر النظريات الأدبية ما بعد الكولونيالية اتساعاً وتحدياً، بخاصة النقاش الذي أداره شينويزو وسوينكا في سؤال"اللغة"وإشكالية الكتابة في مستعمرات المستوطنين، والتجاذب بين الأوروبي المستورد والمحلي الأصيل، وبين الأسلاف وثقافة ماضيهم وبين اللغة والمكان! فالمشروع الأمبراطوري الأوروبي في منطقة الكاريبي اكد تجمع أسوأ ملامح الكولونيالية في العالم إذ قام على الإبادة الدموية لسكان الكاريبي والأراواك الأصليين، الى جانب السلب والنهب والقرصنة الداخلية بين القوى الأوروبية، وأهوال الرق والعبودية وتجارة العبيد المستنبته!! شكل الصدام الثقافي، وتمازج الأعراق، نسيج الحياة الكاريبية الوحشي منذ باكورة عصور العبودية. وأدى تاريخ تجارة العبيد الى استحالة وعي العبيد بالجانب الدال الذي تلعبه اللغة في غربتهم الدائمة عن انفسهم. فالمستعمِرون كانوا يعزلون المجموعات الإنسانية التي تتحدث لغة مشتركة، ويبيعونها"كمجموعات مختلطة"للحد من امكانات تمردها. فعلى مدى جيلين او ثلاثة اصبحت لغة السيد الأوروبية اللغة الوحيدة للتواصل، والتي بها أضاع"المستعبَدون"صوتهم، وصاروا موضوعاً لاغتراب مأسوي مذ انقطعوا عن لغتهم وجذورهم وتغربوا في اوطانهم. يوضح تاريخ الكاريبي ان العرق وسلسلة الأنساب صارا من اهم القضايا التي يتعذر مجابهتها فلربما بالمجابهة تصبح الجزر"وطناً"!! هذا الوطن النائي اذ تحدث عنه الشاعر والناقذ ادوارد كاماو براثويت قال فيه:"ان النموذج الكريولي"يدفعنا الى نظرية دينامية زمانية، مكانية في تهجين ثقافة الأصيل وماضيه ومناطقه الخلفية. ويرى براثويت ان العملية الكريولية هي فعل ثقافي أنتجه المستعمِر كرد فعل وحافز تعبّر به الجماعات السوداء عن"جمالياتها الشمسية"داخل المجموعات البيضاء! اما في مقالات دينيس ويليامز فإن"رد الفعل والحافز"في استراليا وكندا ونيوزيلندا يتحولان الى علاقة"طوباوية"وپ"مثالية"بين"أب كريم الأصل"، هو المستعمِر وبين"ابن"خانه يفاخر بشعوره بالأمان. فدينيس ويليامز إذ يتجاوز مؤسسات العالم القديم التي افتقدها الأبناء والتي كانت تنبع من توحد اسلافهم مع آلهة التراب وخصبه، يرى ان المستعمِر وحده كان له فضل تحفيز شعوب العالم القديم للبحث عن سلالاتها حتى ولو ان المبدع في مجتمع ما بعد الكولونيالية لم يعد يملك أي ضمان سوى الحاضر. هذه الفوقية التي تحدث بها ويليامز هي التي انتهت مع جاك ستيفن الكسيس في العام 1956 الى الارتياب بمفهوم العالمية، والأدوات النقدية الأوروبية المهيمنة في تعيين"الثقافات الأعلى والأدنى"! وبعد الكسيس جاء ويلسون هاريس يدعو للتجدد الثقافي، بعد الإبادات الجماعية وكوارث الرق والعبودية فقال:"يمكن استعادة ما قد يبدو انه ضاع الى الأبد، لأن بذور الإبداع تكمن في الطاقة نفسها التي تمارس افعال العنف والتدمير. فمن السهل تفكيك الكراهية العنصرية واعتبار ان الأسلاف أي البشر الأصليين هم أسلاف الجميع". هذه الإنسانية"المزيفة"التي يتبناها ويلسون هاريس بعد مجاز الإبادة، وظلاميات الاستعمار، وهمجيات العبودية، هي انسانية تلغي التاريخ، والهوية، والفردية، والاختلاف في الطقوس، والعبادات والأساطير التي كانت للأمم في مهودها البدائية وقبل ان تحبو! يعتبر ويلسون هاريس أن الرواية هي الفن الذي بدأ يحمل وعداً بالحوار المتواصل بين الأنا والآخر بغية تذويب نبض ما بعد الكولونيالية، وبعد ان أيقن المبدعون ان الامبريالية اللغوية التي حملها المستعمِر الكولونيالي للتهجين والتدمير، قدرها ان تتوارى خلف أقنعة الحدس الخيال والحلم والجنون. تعتبر أعمال ويلسون هاريس اكثر التجارب راديكالية في ثقافات ما بعد الكولونيالية إذ تدعو لإعادة كتابة"اللغة"وپ"التاريخ"من خلال القصص الخيالية لأنه لا يوجد نص مكتوب في شكل نهائي. فأي نص نقدي او إبداعي ينبني على نص سابق له ويجاوره في المفارقة والاختلاف! اخيراً يتنبه مؤلفو"الرد بالكتابة"من بيل اشكروفت الى غاريت غريفيث وهيلين تيفن الى تصدع المركزية الأوروبية في كتابات ما بعد الكولونيالية وعودة المبدعين الى مصادر الإلهام التقليدية، كالأداء الشفهي والملحمة الدينية في الرواية الهندية فضلاً عن الحكايات والأمثال المتوارثة في غرب افريقيا، ومثلها حكايات المغامرات في سرديات استراليا! لذا يبدو ان الأشكال الاصلية التقليدية ما قبل الكولونيالية، حافظت على دفئها وحنينها الى ماضي الأسلاف مما حدا بالشاعر والروائي الغاني كوني اوونور ان يدعو الى إحياء الترانيم الجنائزية وأغاني الإساءة والهجاء، فلربما اعادت هذه الأشكال التقليدية شيئاً من الهدوء والسكينة الى ارواح من رحلوا، ثم الى أرواح من أبدعوا وما زالوا مقيمين! هذا وتبقى التقنية الشفاهية منحوتة في شظايا النصوص المدونة كما يؤكد سلمان رشدي الذي يعتبر ان الأدب الشفاهي الهندي هو الأصل الذي يعمق السرد الهندي ويفضح تطرف التهجين وديكتاتورية الثقافة الكولونيالية!