Joe Cleary. Literature, Partition and the Nation State. الأدب والتقسيم والدولة الأمة. Cambridge University Press. 2002. 259 pages. ينجز الباحث الايرلندي جو كليري مهمة مركّبة وشيّقة. فهو، وبجرعة يسارية متخمة وإن ضبطتها الكتابة الأكاديمية، يهجو التقسيم وفكرة الدولتين في ايرلندا وإسرائيل - فلسطين، مبالغاً في التركيز على دور الاستعمار و"المصالح الامبريالية" وخافضاً أهمية العناصر الداخلية للمجتمعات المعنية. لكنه يقدّم اطروحة في سوسيولوجيا الثقافة فيدرس الأدب وموضوعاته السائدة انطلاقاً من عمليتي بناء الدولة الأمة وتقسيمها، أو كما يقول العنوان الفرعي للكتاب "الثقافة والصراع في ايرلندا وإسرائيل وفلسطين". وفكرة الكتاب بدأت في 1989-90 مع انتفاضات أوروبا الشرقية وانهيار سور برلين، وما أثارته عند الكاتب الايرلندي من مقارنات مع بلده. فتلك الأحداث أطلقت سيلاً من الأسئلة حول الأمم والدول وتقسيمها، والأسباب التي تجعل تقسيمات بعض البلدان تنهار فيما تسبغ على أخرى طابع الديمومة، وهل أن تقسيمات الحرب الباردة التي تم تجاوزها، كما في المانيا وفيتنام، وربما كوريا في الغد، غير تقسيمات الحقبة الكولونيالية لايرلندا والهند - باكستان وإسرائيل - فلسطين، وكيف ترافق داخل نطاق الكولونيالية البريطانية نفسها انحسار الاستعمار مع انفجار الكيانات المذكورة، بينما تم تجنّب النتيجة نفسها في بلدان أخرى كجنوب افريقيا على رغم ضغط البيض والزولو للحصول على دولة مستقلة؟ لكن، وعلى عكس ما يذهب إليه البعض من أن موضوعة التقسيم تخصّ المؤرخين وعلماء السياسة وحدهم، فالنقاشات التي عرفتها المانيا مع إعادة توحيدها وتناولت الأدب كما التاريخ، تشير إلى العكس. فكل محاولة جادة للتعاطي مع الديناميات الأعرض لبناء الأمم والدول في سياقات تقسيمية لا بد، بالتالي، أن تتعامل مع السرود الثقافية والتاريخية للبلدان المعنية في نظرتها إلى التقسيم. والحال ان التقسيمات الكبرى للقرن العشرين حصل معظمها في بلدان كانت خاضعة للحكم الكولونيالي. وهذا يصحّ في ايرلندا والهند وفلسطين وقبرص التي كانت بريطانية، كما يصح في كوريا وفيتنام أواخر الحرب الثانية، وكانتا مستعمرتين يابانية وفرنسية. ولئن اختلفت المانيا والصين، إلا أن الكثير من الأراضي الصينية كان قد أُلحق باليابان، أو وُضع تحت الحكم الياباني، في الفترة السابقة على التقسيم، بينما تعرضت المانيا لاحتلال دول أربع. وكقاعدة عامة تبقى التقسيمات احتمالاً راجحاً حيث تفقد المجتمعات، نتيجة الاستعمار أو الاحتلال، السيطرة على مصائرها السياسية. فالانقسامات إن لم تظهر إلى العلن ابان استقرار الحكم الاستعماري، إلا أن "البُنية المعَرْقَنَة" للدولة الكولونيالية تتعهد الانقسامات التجمعية بالرعاية كما تستخدمها لخدمة ديمومتها. وربما كانت إحدى أبرز مشاكل جو كليري غضّ النظر عن كيفية انشاء الدولة في الحقبة الاستعمارية نفسها، والقفز مباشرة لاعتبارها كياناً واحداً وناجزاً ثم تقسيمه. وعن هذا يترتب الرفض المتواصل ل"حجّة أن الأحقاد الطائفية أو الاثنية القومية في ايرلندا والهند وفلسطين كانت من الرسوخ بما جعل التقسيم الحل المرئي الأوحد". فمجرد القول بهذه "المغالطة القومية" يؤدي إلى "التقليل من أهمية العوامل الأخرى، كدور الامبريالية في تشكيل ومأسسة الهويات الاثنية في المستعمرات، أو المضامين الاجتماعية المحتلفة لبرامج وطنية عدة". وهنا، ومرة أخرى، تتصالح الرواية اليسارية المناهضة للامبريالية، والتي تدين "المغالطة القومية"، مصالحة أعمق مع القومية بصفتها أداة لتجميل الشعوب والثقافات المستعمَرة و"البريئة". وبما أن الاستعمار هو المؤسس الفعلي للتقسيم، وما دام يستحيل أن ينجم شيء ايجابي عن عمل الاستعمار، فإن التقسيم لم يُنتج، لا في فلسطين ولا في ايرلندا، حلاً معقولاً للنزاعات المطروحة أو التي أثارتها المطالبات المتعارضة بتقرير المصير. أما على المستوى الثقافي في هذه البلدان، فإن جدلية التقليد - الحداثة، أو الثقافات الشعبية - الثقافة القومية العليا، لا تصدر عن دينامية داخلية، بل تأتي استزراعاً كولونيالياً في بعض الطوائف والجماعات. وهكذا لا يستقلّ طلب الانفصال نفسه عن هذا الاستزراع بل يتوّجه سياسياً. فالبروتستانت الايرلنديون من دعاة الوحدة البريطانية والصهاينة اليهود في فلسطين غالبوا ما حاجّوا بأنهم يمثلون قيماً وعلاقات حديثة لا يجوز دمجها في كتلة أكثرية متأخرة ومناهضة للحداثة. وبهذه النقلة يصار إلى تسييس التراتُب الثقافي الذي أقامه الاستعمار أصلاً داخل الشعوب المستعمَرة تبعاً لمعيار القرب والبعد من الحداثة، كما يعاود هذا التراتُب ترجمة نفسه في الكيانات التي تنشأ لاحقاً. بيد أن من الخطأ، كما يرى كليري، النظر إلى الأدب كمجرد أداة في يد نُخب الدولة المقسّمة. فإذا صحّ اعتباره مولّداً لهويات دولة جديدة ولأنماط ذهنية تقسيمية، فإن في وسعه أيضاً أن يعمل على مقاومتها: فالأدب يسعه أن يؤكد على هويات مشتركة وتجارب تاريخية جامعة، كما على قيم وهموم تعبر الخطوط الحدودية التي يقيمها التقسيم. ففي المانيا لعب الأدب، خلال حقبة التقسيم، دوره في إعادة بناء الحس بوطنية ومواطنية واحدتين، رغم تعرض البلدين لتقسيم جغرافي وسياسي وقانوني عززته الأبلسة المتبادلة للحرب الباردة وانتاج كل من الألمانيتين لهوية المانية ايجابية في مقابل أخرى سلبية تتجسد في البلد الآخر. وفيما كانت الدولتان، في السبعينات والثمانينات، تستكملان ملامح تميزهما، راح الأدب يؤكد على "التلاقي" وعلى وحدة ثقافية عابرة للحدود أريد بها التعويض عن التآكل الفعلي لوحدة الثقافة الألمانية. فإذا استحال على أي أدب أن ينجو من تأثيرات الدولة والتعليم والايديولوجيا الرسمية في حالة المانياالشرقية وعنصر السوق في حالة الغربية، بقي من الممكن رفض التحول أداة في يد السلطة والتمسك بصيغ، ولو طوبوية، في تحدي التقسيم. هكذا نجت الثقافة من الخضوع الصارم لاملاءات الحياة المادية حتى إذا قامت الوحدة أفادت ثقافة الشطر الشرقي من دونيته قياساً بالغربي، بما في ذلك تخلفه في مجال الثقافة الاستهلاكية. وفي هذا الاطار، وهو ما يرسمه الكاتب تطوراً ايجابياً، أمكن اعتبار ثقافة الشرق "مستودعاً مهماً للقيم الألمانية الأقدم عهداً التي يفترض أنها اختفت منذ أمد طويل في الغرب". ومثلما حصل قبلاً في الجنوب الأميركي المهزوم في الحرب الأهلية والمتخلف عن الشمال الصناعي المنتصر، تلعب الثقافة دوراً تعويضياً يعيد تنظيم التوازن بين التقليدي والحديث. أما في ايرلندا التي انقضى على تقسيمها ضعف المدة التي دامها التقسيم الألماني، فاكتملت عناصر التطور المستقل للدولتين، بما في ذلك مسارهما الأدبي. وقد عمل الانفصال في محطات الاذاعة والمجالس الفنية والصناعة السياحية والتراثية على بلورة جماعتين ثقافيتين داخل وعائين حدوديين. لكن في مقابل هاتين الجماعتين "المتخيّلتين" اللتين صارتا واقعيتين، أمكن للأدب أن يتخيل جماعة قومية عابرة للحدود. ففي الرواية الايرلندية المعاصرة والرواية هي الشكل المتفق على كونه الأوثق ارتباطاً ببناء الجماعة الوطنية لا تزال تظهر أعمال ولو قليلة تتعامل، في وقت واحد، مع مجتمعي الشمال والجنوب. الا أن هذا ومعه ظهور بضعة نشاطات فنية وسينمائية مشتركة في السنوات الأخيرة، لا يلغيان الوجهة السائدة ومفادها تضاؤل الرقعة المشتركة. ذاك أن المخيّلة الابداعية عاجزة، في آخر الأمر، عن الفرار الكامل من املاءات الدولة-الأمة والتقسيم. أما الوضع الاسرائيلي - الفلسطيني فيتمتع بسمتين أساسيتين لا يتمتع بهما معظم الأوضاع التقسيمية الأخرى. فهنا يُكتب أدبا التقسيم بلغتين مختلفتين هما العبرية والعربية، كما أن التقسيم نفسه انتج دولة واحدة وشعباً لا يزال بلا دولة. لهذا فأحد أوضح الملامح التي تميز بها الأدب الفلسطيني الحديث انه أقرب الى ابداعات الجماعات المهاجرة في بلدان غريبة وبعيدة. فالموضوعات التي لا تني تتكرر هي عبور حدود الدول، والمواجهات مع موظفيها، وهم غالباً عدوانيون، وأهمية الوثائق الثبوتية، والخوف من التحول أكباش محارق، وغياب الشعور بالأمن، والحنين الى أقارب بعيدين. فهذا الجنس الكنفاني خصوصاً بسبب روايته "رجال في الشمس" يعلن الوزن الطاغي والمدى الساطع لنظام الدولة الحديثة، حتى ليصح القول في الأدب الفلسطيني ما قالته نادين غورديمر، عام 1983، في أدب بلدها: "ان طبيعة الأدب الجنوبأفريقي اليوم كونه حصيلة حالات متعددة من الاغتراب". وما من شك في أن الصلات توطدت، منذ 1967، بين شتى القطاعات الجغرافية المنتجة للأدب الفلسطيني، غير أن هذا لم يواكبه تطور مماثل في ما خص العلاقة بالمجتمع الاسرائيلي. ففي الروايات الفلسطينية بقي استكشاف ذاك المجتمع نادراً يقتصر على الأعمال التي أصدرها الفلسطينيون في اسرائيل: "متشائل" اميل حبيبي و"أرابيسك" انطون شمّاس. والحق ان كلاً من الأدبين الاسرائيلي والفلسطيني يعاني مشكلات خاصة به تماماً، تبعاً لطبيعة القطيعة وحدّة ظروفها. ففي اسرائيل خُلق أدب بالعبرية كان وثيق الصلة بالصعود - السياسي والاقتصادي والثقافي - للاشكناز الأوروبيين، كما واكب التصور الصهيوني عن اسرائيل كمجتمع "غربي" متقدم ومسوّر في وجه عالم عربي "متأخر". ولئن سعت المؤسسة الأدبية الاشكنازية الى فصل أدبها عن أدب المنطقة، كما فعلت مثيلتاها في جنوب افريقيا وايرلندا، فإن المسار الفلسطيني يشبه لحظة يهودية سابقة على انتصار الصهيونية وقيام دولتها. فالفلسطينيون الآن كيهود مطالع القرن العشرين، مفتّتون، ضعفاء، يسعون الى الدولة من خارجها. بيد أن هذا الاشتراك يلزمه الكثير كي يصير شراكة يُبنى عليها. فالأدب الاسرائيلي بتأثيره الضخم الذي لا يُقارَن به تأثير الكتابات والمراجعات التاريخية، توصل مع أموس أوز وآخرين الى ادانة التوسعية الاسرائيلية، غير انه بقي أميناً لاستراتيجية سردية تعتبر التقسيم ثابتاً وهدفاً بذاته. وبأكثر من معنى تتشابه روايات أوز مع روايات ايرلندية شمالية بروتستانتية كونور كروز أوبراين مثلاً كان فيها البطل يتمرد أوديبياً على سلطة دولته، إلا أنه لا يلبث ان يكتشف طابع التدمير الذاتي الكامن في تمرده هذا. ويستخلص الباحث أن تقصي العلاقة بين الأدب والأمة والدولة في بلدان مقسمة يستدعي التحرك على مستويين: مأسسة الآداب الوطنية على يد دول التقسيم كجزء من شبكة أوسع لنظم توليد المعنى، وكيفية استجابة الأعمال الفردية كما الأجناس الكتابية للتقسيم السياسي. ذاك ان التقسيم ليس مجرد واقعة حصلت في الماضي: في 1921 في ايرلندا وفي 1947-48 في فلسطين. انه حادثة لها مترتبات اجتماعية ضخمة تستمر على مدى أجيال وتطاول أصعدة مختلفة للوجودين السياسي والمدني. ولهذا ينبغي، في رأي كليري، ان لا يتم التعامل مع "أدب التقسيم" كجنس كتابي مستقل، بل كجسم عريض من الأعمال التي تتعاطى مع الآثار الكثيرة الملازمة والناجمة عن تقسيم الدولة. ولا يتردد الكاتب في انهاء كتابه بدعوة نضالية تقتفي أثر غسان كنفاني الى انهاء ذاك التقسيم.