في الاعوام القليلة الماضية، أصدر الباحث الشاب رامي أبو شهاب مجموعة شعرية، وكتابين نقديين، إضافة إلى دراسات منشورة في مجلات وصحف عربية، وشارك في ندوات ومؤتمرات ثقافية وعلمية. واستناداً إلى خبرته المعمقة في مجال الدراسات النقدية، أنجز أطروحة متميزة في مجال النقد الثقافي نشرت في كتاب بعنوان «الرّسيس والمخاتلة، خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد العربي المعاصر» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت)، حاز عنها أخيراً جائزة الشيخ زايد للكتاب عن فئة المؤلف الشاب. تناول في المقدمة خطاب ما بعد الاستعمار في النقد العربي من خلال المؤلفات التي عالجت هذا الموضوع، وحلّل في دراسته خطاب ما بعد الاستعمار من خلال تحديد المصطلحات الاساسية للخطاب الكولونيالي. وحين ناقش تجليات هذا الخطاب في الاطار العربي، احتل ادوارد سعيد الحيّز الأوسع، إضافة إلى دراسات نقدية عربية لمفهوم ما بعد الاستعمار من خلال نقد الترجمة التي أعدت لكتابيه «الاستشراق» و «الثقافة والامبريالية» في شكل خاص ونقد الخطاب الثقافي الكولونيالي في شكل عام. وخصص حيزاً واسعاً لمناقشة الدراسات العربية التطبيقية لنقد ما بعد الاستعمار في مجالات التجارب المشابهة، والإخضاع الثقافي، وترميم الهويات وتحليل الآليات، والقراءة التقابلية، وتفكيك خطاب الهيمنة، وتحليل مستويات التمثيل، والتكوين اللغوي المقاوم. يحيل عنوان كتاب «الرسيس والمخاتلة» إلى الممارسة الاستعمارية، وما يحيط بها من توصيفات. فكلمة المخاتلة تتجاوز دلالة المخادعة بمعناها المباشر، إلى فعل المراوغة، والمغافلة، في حين يحيل مصطلح الرسيس، على غرابته وطرافته، إلى دلالات متعددة منها: أول الحمى، والعشق، وبقية الشيء، وأثره، وذلك كتعبير عن التداعيات التي نتجت بفعل الاستعمار وما كمن منه في اللاوعي. الكتاب بأكمله بحث في إشكالية الممارسة الاستعمارية وأثرها في تحديد مسار الشعوب التي خضعت للاستعمار منذ القرن الثامن عشر بأنساق مخاتلة، تتكئ على المضمر والمبطّن، وبخاصة في فلسطين التي شكلّت تجسيداً للاستعمار الاستيطاني في شكله السافر. استند الباحث في تحليله للخطاب الكولونيالي، في النظرية والممارسة، إلى مقولات ميشال فوكو، ومقولات المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي استفاد كثيراً من مدارس النقد الغربية لتحليل الظاهرة الكولونيالية. وعالج أيضاً الخطاب الاستشراقي بصفته نصوصاً تنوب عن الظاهرة وتعيد صوغها بما يتلاءم مع القيم الكولونيالية. مما استوجب إعادة قراءة الأرشيف الكولونيالي لرصد تداعياته على شعوب المستعمرات. وأفرد مساحة واسعة لولادة النص المقاوم للظاهرة الكولونيالية بهدف تفكيك منظومة نصوصها والعمل على تقويضها. وعلى رغم اعتماده الثابت على مقولات إدوارد سعيد ذات الطابع الأكاديمي الملائم لمناقشة خطاب ما بعد الكولونيالية، أفرد الكاتب مساحة واسعة لمقولات مثقفي المستعمرات الذين استلهموا مقولات فرانز فانون في كتابه المعروف «معذبو الأرض». بذل الباحث جهوداً كبيرة في دراسة المصادر والمراجع المكتوبة بالإنكليزية، وبخاصة تلك التي ناقشت الخطاب الكولونيالي في مختلف تجلياته، وفي طليعتها «موسوعة دراسات ما بعد الاستعمار»، و«الدراسات النظرية لمرحلة ما بعد الاستعمار»، إضافة إلى دراسات ادوارد سعيد ومناضلي العالم الثالث. تأسست فرضيات الكتاب على مقولات نظرية تستند إلى معالجة واقعية لخطاب ما بعد الكولونيالية وموقعه في الدراسات النقدية على المستوى العالمي، وتحليل أهم التيارات الفكرية والنقدية المعاصرة التي عرت ممارسات الاستعمار البشعة وأبرزت أثرها في تغيير مسار التاريخ العربي. وأثبت المؤلف أن نقد الظاهرة الكولونيالية ساهم في شكل واضح في نشأة تيار نقدي عربي لتعرية تلك الظاهرة وتجلياتها المستمرة في النصوص ومخيال الأدب العربي الحديث الذي ولد في زمن الاستعمار القديم واستمرّ في مرحلة ما بعد الكولونيالية. نجح الكتاب في توسيع الأبعاد النقدية العربية عبر رفدها بمنهج تحليلي نقدي للظاهرة الكولونيالية، من خلال نقد الترجمات التي قدمتها إلى المثقفين العرب، والمصطلحات والمفاهيم النظرية التي أطلقتها، وتحليل نظام القيم المعرفية، والمناهج العلمية العصرية، واختبار الممارسة في التطبيق العملي لنقد الآليات والاستراتيجيات. وخلص الباحث إلى القول بأن استقبال النقد العربي للخطاب ما بعد الكولونيالي ومفرداته جاء بفعل الترجمة، لا سيما ترجمة كمال أبو ديب لكتاب الاستشراق، وما استتبعه من ترجمات أخرى. غير أن تلك الترجمات لم تكن كافية لتأسيس وعي نقدي للخطاب الكولونيالي. ولا بد من ترجمة أعمال أخرى لبلورة مشروع متكامل لتيار نقدي عربي واضح المعالم، يقدم مقولات نظرية معمقة، ويبحث في مفاهيم الفكر الكولونيالي ومصطلحاته، وقضاياه، واستراتيجيته، وآلياته النقدية. لعلّ أهم ما يميز هذا الكتاب أنه قدم دراسة تفصيلية جامعة للخطاب الكولونيالي من حيث تحليل مفاهيمه، ومرجعياته، وممارساته النقدية. فبات مرجعاً مهماً باللغة العربية لخطاب ما بعد الكولونيالية وفق رؤية شمولية، وشكّل إضافة نوعية باللغة العربية في مجال نقد الظاهرة الكولونيالية. فغالبية الكتابات السابقة في هذا المجال كانت مشاريع فردية قام بها جابر عصفور، وعبدالله إبراهيم، وصبحي حديدي، ورضوى عاشور، وفيصل دراج، وغيرهم. وعلى رغم القيمة العلمية لتلك الدراسات وعمق بعض مقولاتها النظرية، إلا أن أثرها الثقافي بقي محدوداً لأنها دراسات متباعدة، ولم تكن لديها القدرة على بلورة تيار نقدي جامع يبرز خصوصية المقولات الثقافية العربية في نقدها للظاهرة الكولونيالية. نشير هنا إلى أن مقاربة ادوارد سعيد للظاهرة الكولونيالية في كتابه «الاستشراق» شكلت منطلقاً لدراسات علمية عالمية لا تنظر الى ثقافة الشعوب من خلال رؤية استشراقية، بل ساندت الشعوب في تحرير إراداتها وثقافاتها. ولعب الكتاب دوراً بارزاً في توليد تيار ثقافي نقدي في اليابان لا ينظر إلى الثقافة العربية بعيون استشراقية وإنما بعيون يابانية منصفة. ومع أن ثقافة الكولونيالية ما زالت سائدة بكثافة في الدراسات النقدية العربية، فإن بعض الباحثين العرب ناقشوا مقولات إدوارد سعيد وانتقدوا الكثير من فرضياتها، وبخاصة كتاب صادق جلال العظم «الاستشراق والاستشراق معكوساً»، وكتاب مهدي عامل «ماركس في استشراق إدوارد سعيد، هل القلب للشرق والعقل للغرب؟». قد يؤخذ على هذا المؤلف الشاب أنه أغفل بعض الدراسات العربية الأساسية التي انتقدت فرضيات إدوارد سعيد عن الاستشراق، إلا مقارنة كتابه مع الدراسات السابقة التي تناولت الظاهرة الكولونيالية توثيقاً وتحليلاً تظهر بوضوح مدى طليعيته وتمايزه عنها. فقدم رؤية نقدية معمقة في معالجة خطاب ما بعد الاستعمار، وإضافة إلى مناقشة المقولات النظرية الأساسية للظاهرة الكولونيالية، قدم فصلاً تطبيقياً أظهر قدرته على الجمع بين تحليل المقولات النظرية النقدية ومدى صدقيتها في الممارسة العملية. وانطلق من مقولات ادوارد سعيد في مسار نقدي يتجاوز ثقافة المستعمر وممارساته إلى نقد ظاهرة ما بعد الكولونيالية منظوراً إليها بعيون الشعوب المتحررة وثقافاتها. وطالب بتوسيع دائرة النقد المضاد لها في الدراسات العربية، وتوليد مقولات جديدة لتجاوز عملية التغريب والاستيلاب المستمرة في العالم العربي. ختاماً، كتاب عربي مهم استحق جائزة الشيخ زايد للكتاب بجدارة، خصوصاً أنه حلّل نقد الظاهرة الكولونيالية بوجهيها النظري والتطبيقي، وعالج هذا الموضوع بكفاءة عالية، وبشمولية قلّ نظيرها باللغة العربية، فجمع بين العرض الشمولي لتاريخ النقد الغربي ومذاهبه من جهة، ولتطور النقد العربي الحديث عنها بتأثير غربي من جهة أخرى. لقد رصد أبرز ما كتب باللغة العربية في نقد الظاهرة الكولونيالية، واستفاد من مقولات ادوارد سعيد ليوسع دائرة النظر نحو آفاق منهجية شمولية لنقد الخطاب الكولونيالي في مرحلة ما بعد الكولونيالية.