تدرك وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أن عليها قيادة عملية السلام على نحو يجنّبها ما حل في كمب ديفيد في العام 2000، حين أوشك المسؤولون الإسرائيليون والفلسطينيون على بلوغ اتفاق لم يلبث أن تناثر وانهار مخلفاً أزمة لم تطو فصولها الى اليوم. ففي معظم المفاوضات، تتمتع الأطراف برؤية واضحة في ما يعود الى مواقفها، ولكنها مبهمة وغامضة في ما يعود الى ختام المفاوضات. ويكاد يكون مؤتمر أنابوليس فريداً في بابه: فهو يشترط على الطرفين الاتفاق على ختام المؤتمر قبل التئامه. وأما قدرة هذا الطرف أو ذاك على إنفاذ بنود الاتفاق فغير معروفة سلفاً ولا ثابتة. وتفترض العملية الراهنة حمل الطرفين على قبول ما يعرف بخطة طابا - وهما ربما قبلاها - قبل نهاية تشرين الثاني نوفمبر. وتنص الخطة هذه على انسحاب إسرائيل الى حدود 1967 مع تعديلات طفيفة، وإقرارها المستوطنات القريبة من القدس وحدها. وتعوَّض الدولة الفلسطينية العتيدة مساحة مكافئة من الأراضي الإسرائيلية، يرجح أن تكون في النقب، حيث السكان قليلون. ويبدو أن تقبل إسرائيل عودة غير مشروطة للاجئين على أن يعودوا الى فلسطين وحدها وليس الى اسرائيل قطعاً. وتقول مصادر موثوقة ان الحكومة الإسرائيلية قد تنزل عن أحياء القدس العربية وهي الى اليوم غير محددة تحديداً دقيقاً. وإذا بلغ الطرفان هذه الحال، جاز القول إنهما أحدثا ثورة في تناولهما خلافاتهما. ويترتب ذلك على فهم الحكومة الإسرائيلية أن أربعة تهديدات نجمت عن الانتفاضة الثانية وعن تفشي الإسلام الجهادي، تتهدد البلد، هي: أولاً، بيئة أمنية مضطربة، مصدر اضطرابها المتفاقم عمليات إرهابية متكررة تنفذها جماعات تنطلق من قواعد غير ثابتة ولا معروفة"ثانياً، التحدي السكاني، وهو يجعل بديل الدولتين دولة واحدة سكانها اليهود أقلية"ثالثاً، تهديد الانتشار النووي المدمر ومصدره الأول إيران"رابعاً، بيئة دولية تحمِّل إسرائيل، وما تراه تعنتاً، المسؤولية عن كراهية العرب للغرب. وفي الأثناء، أدى تبلور الخوف من إيران الى ترتيب الأولويات الاستراتيجية على نحو مختلف. فحل الخطر الذي تنذر به السيطرة الإيرانية محل شاغل الدول العربية المعتدلة الأول. ويفسح تلاقي القلق الأميركي والعربي والإسرائيلي والأوروبي مجالاً للأمل في عقد إسرائيل وجيرانها العرب اتفاقاً يبدد المخاوف المشتركة. ويتوقع من الطرفين، على مثال ديبلوماسي معهود، أن يضطلعا بإنفاذ ما تعهداه في اتفاقهما، وأن يكونا قادرين على الإيفاء بتعهداتهما. والحق أن المتحاورين، في الفصل الديبلوماسي الآتي، يشكوان هشاشة موقعيهما الداخليين. فالرأي العام العربي بعيد من التجانس والتماسك. وفي عداده قلة غير مسموعة الكلمة تؤمن حقاً بالتعايش مع إسرائيل، وغالبية تسعى في تدميرها من طريق مجابهة مزمنة أو بواسطة مفاوضات هي مرحلة من مراحل الحرب المراوغة عليها. فهل تتولى الدول العربية المعتدلة تقوية الجماعة الراغبة فعلاً في التعايش؟ وهل يؤدي الاعتراف بالدولة العبرية الى قطع دابر الحملة الإعلامية، الحكومية والتربوية، التي تصور إسرائيل في صورة دخيل غير مشروع، متسلط وشبه مجرم؟ ولا يبعد أن يفضي الإنجاز الديبلوماسي الى إضعاف الدول المعتدلة التي تولته، والى حملة إيرانية متشددة ابتدأها مرشد الجمهورية. فهل في مستطاع الولاياتالمتحدة مواكبة العملية الى ختامها، ومساندة الدول المعتدلة، على ما ينبغي؟ ومؤتمر أنابوليس، في الأحوال كلها، فاتحة فصل جديد، ونافذة على الأمل، على ان تتعهد الإدارات الأميركية المتعاقبة ثمرته وترعاها، وعلى ألا يربط الفصل هذا بالمسائل الأميركية الداخلية. وحري بالسياسة الأميركية ألا تلقي على عاتق الأصدقاء الإقليميين فوق ما يحتملون، فعلى"الحل"التمهيدي مراعاة هوية الأطراف. فلا يقتصر على المقولات العامة، بل يسعى في صيغ محددة وملموسة تراعي طاقة الأطراف في الظروف الدقيقة التي تحف أفعالها. ولا نغفل عن أن قوة الدول المعتدلة هي رهن مكانة أميركا ودالتها في المنطقة كلها، وليس في شأن فلسطين وحدها، وصورة الانسحاب، من فلسطين أو من العراق، لا تكلل الهامة الأميركية بالغار. وفي ضوء عزيمة أميركا على بلوغ غاياتها تستخرج شعوب المنطقة، الصديقة والمخاصمة، الخلاصات المناسبة. عن هنري كيسينجر وزير الخارجية الأميركي السابق، والفائز بجائزة نوبل للسلام في 1973، "تريبيون ميديا برِس"، 31/10/2007