قوس الاستحقاق الرئاسي اللبناني مشدود وجعبة السهام الانتخابية ما زالت خاوية، لذلك يمارس اللبنانيون عادة حبس الأنفاس، ويعدون العدة لإحصائها، في القادم من الأيام الرئاسية. يكاد خلو الوفاض يعلن أنه الحصيلة الوحيدة، للحركة السياسية الناشطة، داخلياً وخارجياً! أما النقص في النتائج، فعائد إلى تداخل الملفات وتعقيداتها، وليس إلى صحة العزم وصفاء النوايا. هذا الواقع المعقد، يحتم التنبيه من تجارة بيع الأوهام للبنانيين، ومن تسويق أفكار الحلول"الوردية"القادمة في ركاب رئيس الجمهورية الجديد... ودائماً في حال الوصول إلى لحظة إتمام انتخابه. الثابت سياسياً، وبنيوياً، حتى اللحظة، أن الأزمة الرئاسية الحالية، تغرف من مياه الأزمة اللبنانية العامة الموروثة، والتي تحمل في طيات سجلها، وقائع بضع حروب أهلية، ومجلدات عن عناوين وتفاصيل خلافية عامة وعريضة، تطل برأسها دائماً من ثقوب التفاصيل الأهلية الخاصة والضيقة. تأسيساً على ما سلف، يجدر القول، إن اللبنانيين ليسوا في وارد حل أزمتهم الوطنية العامة، في معرض تجاوز محطة الاحتقان السياسي، الحالية... لكن ذلك لا يقلل من أهمية وخطورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يساهم في"تبريد"بيئة إنتاج الحلول، وإن كانت الشكوك تحيط بقدرته على المساهمة في ابتكارها، وعلى المبادرة إلى توليد معطياتها. وتكمن مبررات الشكوك، بعجز أي رئيس جمهورية قادم، في المقدمات السياسية التي يتبارى اللبنانيون في كتابتها، وفي مدونات الشروط الخارجية، التي تتبادل القوى الدولية والإقليمية مناوراتها ومراسلاتها. على صعيد خارجي، ليس في الأفق راهناً، ما يشير إلى حلول تبشر بانفراج ما في الوضع الداخلي اللبناني. استعراض الميادين السياسية، من العراق إلى فلسطين، إلى إيران وجوارها، يقدم صورة واضحة عن فراغ الجعبة الدولية الإقليمية من هدوء مرتجى، أو تهدئة موقتة ممكنة... كل الإدارة السياسية، في هذا المجمع السياسي، ساخنة، وكل الأفكار حارة، وإن كان اللهب ما زال قادراً على الانتظار. هذه الصورة الخارجية مهمة، لبنانياً، للقول إن انتظار نجدة الخارج السريعة، وهم محض، فالخارج يقرر وتيرة السرعة ومنسوب التباطؤ وفق رؤيته هو لمصالحه أولاً، وما دامت"الساحة اللبنانية"، ورقة من أوراق المصالح، فإن بوسع"سماء المدى اللبناني أن تنتظر". أما الداخل، المشدود إلى ناصية الخارج بقوة استثنائية، فمستغرق في التقاذف بالنصوص، وذلك على سبيل الهروب من المسؤوليات. فالدستور، وبنوده، وما يلحق بكل الفقه الخاص بهذا الصعيد، يحتل اليوم المنابر، لكن لا شيء يمنع من انتقال التفسيرات إلى الشارع وأحكامه، عندما تفرغ حقيبة"فقهاء القانون"من الملاحق التفسيرية... عليه قد يعلن"الدستوريون"فراغ محاولتهم، مفسحين في المجال لملء المناطق الشاغرة، بالسياسات الأهلية المناسبة. قد لا يكون الفراغ خياراً لبنانياً عاماً، مثلما قد لا يكون الوصول إليه هدفاً خارجياً قائماً بذاته، بل لعل بعض المعطيات يوحي"بالتوافق"على إمكان تجاوزه... لكن يبقى السؤال: التجاوز في اتجاه أي مسار سياسي؟ تكراراً قد يجد اللبنانيون أنفسهم أمام انتقال من فراغ رئاسي، بمعنى العجز عن احتلال أحدهم لكرسي رئاسة الجمهورية، إلى فراغ سياسي آخر، على معاني القصور عن الاتفاق على مقاربة بنية الأزمة التي تعصف بلبنان، انطلاقاً من عناوين الأزمة أولاً وقبل"التطاول"على الخوض في تفاصيلها الفرعية. الوقائع الدالة في هذا المجال عديدة، والشواهد على"العجز الفراغي"، تحفل بها يوميات أقطاب السياسة الممسكين بنواصي الكتل الأهلية المتنابذة. في مجال العناوين، يحتل عنوان الوفاق"موقعاً سحرياً"لدى الفرقاء المحليين والخارجيين. لكن لدى التدقيق، يصير مضمون الوفاق، عنواناً خلافياً!! هكذا لا يتقدم أحد من"اللاعبين الكبار"بمطالعة تحدد رؤيته للوفاق العتيد، مثلما لا يضمن هذه الورقة، الخطوط العريضة الكبرى، التي يجب أن يسلك الوفاق جادتها. هكذا يعود الكلام"الوفاقي"فارغاً من محتواه، هو الآخر. حتى الآن، لا يستبين المراقب وفاقاً"للمتناحرين"إلا على تبادل الشروط التصعيدية، هذا في العلن، وإلا على استشعار العجز الحقيقي لدى الجميع، هذا في الغرف المغلقة. هل يحتاج المرء إلى إعمال التفكير للوصول إلى استنتاج عجز"الحاكم"عن تطوير صيغة حكمه"الفئوية"إلى صيغة شاملة، بعد المدة الطويلة التي قضاها"الحاكم"هذا، في سدة المسؤولية؟! وفي المقابل، أليس من الواضح عجز"المعارض"عن تعميم"برنامجه الفئوي"بعد كل الحراك الصاخب والباهظ الكلفة، الذي فرضه على مجمل الحياة اللبنانية؟.. لقد بات العجزان واضحين، وآل جمعهما إلى حصيلة وطنية عامة واحدة: الفراغ، الذي باشر الإفراغ المؤسساتي والمجتمعي والسياسي... وهو يهدد باستكمال مسيرته المدمرة للوطن على كل الأصعدة. لقد أوصلت الاستقطابات الطوائفية والمذهبية"البلد"إلى حدود الانغلاق، وهذا، في حد ذاته، أمر مقصود. ذلك أن الاستقواء الفئوي لا يكون إلا بانغلاق كل فئة على ذاتها أولاً، وتحصنها بمقولاتها ثانياً، وبناء حصانتها حيال الآخر ثالثاً! هذه مسيرة قطعها كل فريق لبناني على طريقته، وقد أتت أكلها لدى كثيرين... لكن مذاق"الثمار"كان مراً، لأن السؤال الذي يواجه الآن كل فئة على حدة هو: إلى أين، بعد الفراغ من هندسة الطائفة أو المذهب، سياسياً واجتماعياً؟ هذا يفتح على سؤال البنيان الذي يريده كل مهندس لفئته. هنا لا يصعب القول، إن الحصيلة الخاصة، التي قد تكون باهرة فئوياً، تفقد كل بريقها عندما يراد ضمها إلى الحصائل الأخرى، بل لعله يصير مطلوباً، التخفيف من هذا البريق، وإلا فإن كل خاص يظل مهدداً بالدوران في فراغ فضائه. ينطبق على اللحظة السياسية الحالية، وصف تقابل الفراغات، مثلما يحف بهذا الوصف الخوف المتبادل"والمشترك"من سيادة أحكام الفراغ العام، المفتوح بالضرورة على اهتزاز، وربما تشظي كل فراغ خاص، بما هو استقامة أوضاع كل فئة لبنانية على حدة. لذلك قد لا يكون غريباً أن يصير خوف الفراغ، ناخباً أول، في انتخابات الرئيس القادم، الذي سيكون عليه أن يحاول ضخ المياه إلى آبار الناخبين"الناضبة".