تغري"شمولية اللبنانية"بعضاً من الساسة اللبنانيين، فيستهلون عدداً من خطاباتهم بعبارة: أيها اللبنانيون... خلف هذا التجانس الخطابي، فرضية تحقق انصهار"الشعب"انطلاقاً من مظهر جماهيري معين، أو من"تلاصق سياسي"مناسباتي... وخلفه أيضاً هدف"الزعامة"التي تراودها رغبة القفز السهل من اطار الموقع السياسي الضيق، فئوياً أو سياسياً، الى ميادين الموقع السياسي الأرحب، الذي تسمح به"صورة تجمع سياسي"في ساحة مكانية فسيحة، يجري التوافق على النزول فيها في زمان بعينه، ووفقاً لدفتر مواصفات واضح البنود"التساكنية". ليس سيئاً اجراء تمرين يستكشف أوقات تقدم"اللبنانية"، كما ان من الجائز، استنباط قراءات من واقع تقهقر أزمنة هذه اللبنانية. بين مساحات التقدم والتراجع، تقيم حقائق الاجتماع اللبناني، ومظاهر بنيته وعلاقات"الرسمي والأهلي". وضمن هذا كله، تستوطن تجليات السياسة الصراعية، التي يخفت"هزيمها"أحياناً، ويعلو ليصمّ الخطب ويقفلها أحياناً أخرى. وسط هذا الدوي، يقرأ"الشعب"، إبان أزماته، دلالات حوار الطرشان بين"أهل العيش المشترك"، ويعجب لفرادة الادارة السياسية، لأبناء الصيغة اللبنانية الفريدة! لا ينطق اللبنانيون بلبنانيتهم إلا بإضافتها الى صفة أخرى، أو الى"مضاف"يوضح ويعلل. في مجال الاضافات التوضيحية يتوزع اللبنانيون ويديرون انقساماتهم. لا التقاء حاسماً، بين لبنانية مضافة الى اللبنانية، وبين لبنانية مضافة الى العروبة مثلاً، الديموقراطية، أو الحضارة أو الثقافة، لا تعطي"اللبنانية"معنى الإنجاز، ولا تشكل القاسم المشترك بين"فئات الشعب". المصطلحات إياها موضع قراءات متباينة، لأن كل مصطلح يُرد الى تاريخ ما، ويُربط بنشأة كيانية ما، ويدرج في سيرورة اجتماعية ما. ولأن كل ذلك مختلف، ومُختَلَف عليه، تصير"الاضافة"نصر تناصل لأزمات تعريفات تتقن"الشطارة"اللبنانية التنقل بمهارة في سراديبها. عليه، لا تزال استقلالية اللبنانية عن اضافاتها متعذرة، ولا تزال المسافة التي تفصل"الاستقلاليين"عن الوصول الى لبنانيتهم المستقلة شاسعة. تتفاقم أزمة"السعي الاستقلالي"بسبب من المعطى السياسي اللبناني القائم، وترتفع وتيرة التأزم عندما ينصرف"الاستقلاليون"عن العناوين الاستقلالية الحقيقية، الى عناوين أخرى مموهة، لا ينتهي النقاش فيها إذا انتهى، إلا الى اعادة انتاج البنية اللبنانية المأزومة، على شاكلة نسخ يزداد قبحها، ومع"القبح"تتسع الشقة بين ما تتفتق عنه"ذهنية المتناقشين"وبين الصيغة"اللبنانية"الأولى المسافة هي مسافة وعود"الاستقلال الأولى"، والتأكيد على بعض من آفاق انفتاحه، وذلك في مواجهة حدود المتداول الراهن وسدوده، ومحاصصته الصريحة، واحتمالاته المفتوحة حتى الآن... على الانغلاق! لا يكلّ بعض"الفكر"المشغول باستقرار"اللبنانية"، عن دق أبواب"الحوار بين الأديان"، ولا يتعب من الدعوى الى الإيغال في مواضيع"الحوار"وذلك لاستنبات أرضية"فهم"مشترك، تقرب بين اللبنانيين. في الاتجاه ذاته، يهرع آخرون الى أحضان المرجعيات الروحية، ويقترحون تنظيم"قمم"نقاشية بين أطرافها - للمساهمة في التخفيف من حدة الانقسامات التي تستشري بين اللبنانيين إياهم! يحسن الانتباه الى أن العنوان الديني، مثله مثل العنوان"الطوائفي - المرجعي"، مقفل، وهو كفيل بتصريف وقت العاملين فيه، لكنه كفيل دائماً بإيصالهم الى"التفاهم الموصود"، لأن كل شيء من هذا القبيل سينزل من"فضاء"الأفكار، الى حيز المادي الملموس، وسيغادر"الصفاء الروحي"وقداسته الى معطيات الدنيوي ودنسه. لا ينكر على الناشطين في هذا الشأن اعتناقهم لفكرة موجزها: ان استمرار"الوطن"رهن باستمرار تفاهم"عائلاته"، مثلما يجب ألا يستهجن الحكم على هذه الفكرة برأي آخر مغاير ملخصه: إن علّة عدم إنجاز الوطن، والقصور دون بلوغ شاطئ استقراره، كامنان في استمرار ربط تعريف الوطن هذا، باجتهادات"عائلاته"أيضاً... لنلاحظ أن"العائلات"تتضمن"النفي"مسبقاً، وأن"الآخر"يستحضر كخصم، تذلل الخصومة معه"بالحوار أو بغيره"- ولنلاحظ ان الخصومة لا تتعلق"بشعائر دينية"، وأن هذه ممر للاحتشاد خلف المصالح المتنافرة. قد يكون من المفيد القول، ان صوت التناغم"المصلحي"، إذا تحقق، يفرض تراجعاً معيناً على"كورس الشعائر"، وبهذا المعنى، تتقدم"اللبنانية"كتعريف ناجٍ من أثقال إضافاته التي سبق القول انها خلافية. تلبس العصبيات والحزبيات"لبوساً كهنوتياً"، ثم تطلق النداء للدخول"الى الوطن"، ولا يعدم النداء من يأخذه على محمل الاستجابة، أو من ينكفئ عنه، وعن الاستعداد لتحدي نقاشه وتشريحه وعرضه بلا أغلفة أمام أنظار"المواطنين"... طالما ان الجميع يبحث عن وطن. في هذا المعرض، تبدو"النخبة"اللبنانية، الساعية الى"لبنانية عامة"، غائبة، وإذا وجدت فعلى شكل أصوات مفردة"نادرة". أكثر من ذلك، يغلب على"النخبة"من دون الدخول في تعريفاتها منطق التخلي، من خلال الانضمام الى الضجيج السائد، أو بالصمت حيال الأفكار المتداولة، أو بالعجز عن الدعوة الى افتتاح مسار اجتماعي مخالف، أو بعدم الرغبة في الانخراط في كل شؤون"الهمّ اللبناني"... من بواباته السياسية والثقافية والاقتصادية وسواها. الاستنكاف، والامتناع والالتحاق، تيزيد من صعوبة بناء دعائم"اللبنانية"الداخلية، ويرفد تعقيدات تناول إشكالاتها وتعريف"اضافاتها". حاول فريق من اللبنانيين التأسيس لخيار لبناني عروبي داخلي حقيقي، أجمع أركان النظام اللبناني، من الطوائف كافة، على محاصرة ممارساته وأفكاره السياسية والاجتماعية والثقافية - وقد فازت"الطوائف"في هذا الصراع، وهُمشت وعزلت المحاولة"العروبية"... من داخل، ثم"أبيدت"عندما آل أمرها الى مجرد"عروبة خارجية"وافدة! في الوقت اللبناني عينه، حاول فريق لبناني آخر، الاستمرار في"لبنانية"من الذاكرة، تتنقل بين التوازنات، وتبدل لبوسها مع الغلبات الخارجية والاقليمية - واضح، من خلال الراهن، أن الحياة لم تكتب لهذا الخيار ايضاً، وبات أكثر ضعفاً في مواجهة مشكلات نشأته الأصلية، ضمن بيئته وبالاتصال مع محيطه اللبناني الآخر. ما زال لبنان في حاجة الى خيار حداثي، لامس اليسار بعض مفاصله ذات يوم، ملامسة حارة. ولن يقيض لهذا الخيار ان يتولد أو أن يدبّ، أو أن يستوي في"مشيته"، إلا إذا أحسن تعريف"لبنانيته"، لمقارعة اللبنانية السائدة، والتأسيس لتجاوزها في زمن لاحق. * كاتب لبناني.