اليوم ينطلق قطار الاستحقاقات الكبرى في لبنان والمنطقة وسط تضارب في الآراء واختلاف في الاتجاهات، وشكوك في وجهات السير وتساؤلات حول المحطة الرئيسة التي سيصل إليها في نهاية المطاف: هل هي محطة بر الأمان وبداية الاطمئنان ام محطة الفوضى والاضطرابات والحروب المتعددة الألوان والغايات والفتن والنتائج المدمرة؟ نعم انها بداية الاستحقاقات من حيث المبدأ والتوقيت والآمال والتمنيات ولكنها بالتأكيد ليست بداية حل الأزمات وإنهاء الصراعات وإحلال السلام. فنهاية الأزمات طريقها طويل ومعقد ومزروع بحقول الألغام والمستنقعات والرمال المتحركة والمفارق الوعرة. قد يقول عاقل إنها تحتاج الى معجزات تجترح الحلول وفرق إطفاء جاهزة للتحرك ومجهزة بالإمكانات والنيات الحسنة، كما تحتاج الى"حكماء"عرب وأجانب ينذرون انفسهم لتحقيق هذه الغاية النبيلة ضناً بالبلاد والعباد ورحمة بالشعوب التي تدفع الثمن الدامي في النهاية. بداية الاستحقاقات تأتي هذه المرة بالجملة لا بالمفرق من لبنان الى فلسطين ومن العراق الى ايران حيث تلوح في الأفق دلائل على سباق محموم على مستوى المنطقة والعالم بين الحل والتأزيم، وبين التهدئة والتصعيد، وبين التحريك والتجميد، وبين الانفراج والانفجار. فكل التحركات والاتصالات والمؤتمرات واللقاءات توحي بتوفر قناعة ثابتة وحاجة ملحة الى فتح الملفات ومعالجة المشاكل ووضع حد لمسيرة الانهيار والتوجه الى حافة الهاوية والمواجهات الدامية، إلا ان الخوف، كل الخوف، أن تأتي المعالجات مبتورة وناقصة ولا تستوفي الشروط المطلوبة لنزع صواعق التفجير ولا تأخذ في الاعتبار كل العوامل والمسببات والأسس والخفايا والأبعاد والمطالب المتعددة والمتناقضة والرغبات الشرعية والمحقة والأخرى الخبيثة والماكرة. أما الاستحقاقات الملحة والضاغطة بسبب حساسيتها وتعقيداتها وانعكاساتها الإقليمية والدولية وارتباطها بتوقيت محدد لا يمكن تجاوزه فهي انتخابات الرئاسة اللبنانية التي يفترض ان تجري حسب الأصول الدستورية قبل انتهاء ولاية الرئيس الحالي في 24 الجاري، ومعها نذر ما يسمى بالشر المستطير والويل والثبور وعظائم الأمور، وما يقرع من طبول حرب وفوضى ومواجهات وعصيان وانقسام وتقسيم وشرعيات متناحرة ومرجعيات متنافرة وشعب يداس تحت أقدام"فيلة"الصراعات والمطامع والعناد والمكابرة والامتدادات الخارجية. وفي حالتي الانتخاب وعدم الانتخاب يمكن الجزم بأن الأمر لا يتعدى نقطة البداية لا النهاية، ففي حال النجاح بمرور الاستحقاق بالتوافق وتجاوز الأزمة بيسر وسهولة وانتخاب رئيس برضى الجميع، والمقصود هنا الجميع الداخلي والخارجي! أو على الأقل برضى القوى الرئيسة واللاعبين الأساسيين، فإن هذا يعني ان لبنان قد خطا الخطوة الأولى على طريق الألف ميل ونزع صاعق التفجير موقتاً حتى يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود وترتسم الصورة الواضحة والحقيقية للمواقف والنيات. فالعبرة في النيات لا في المظاهر، وفي الأعمال لا في الأقوال، فبعد الانتخاب، وهو على ما يبدو يشكل المرحلة الأسهل امام جبل المشاكل والقضايا الخلافية، تأتي لحظة الحقيقة لامتحان النيات ومدى الجدية في البحث عن حلول لها وفك عقدها وتجاوز عقباتها وهي كثيرة أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: 1- شخص رئيس الحكومة وشكل الحكومة الجديدة وحجمها وتوزع الحصص على الأوزان والحقائق وبينها حصص الرئيس العتيد والعماد عون و"القوات اللبنانية"وحزب الكتائب و"حزب الله"وقوى المعارضة وعقدة"الثلث المعطل"التي لا يعرف العالم لها مثيلاً إلا في لبنان المتميز في كل شيء حتى في الأزمات والعصي الكثيرة في دواليب التطور والاستقرار المنشود. 2- مضمون البيان الوزاري ولا سيما بالنسبة الى القرارات الدولية وبالتحديد القرار 1559 أولاً الذي يدور حوله جدل عقيم، ومن بعده القرار 1701 الذي يتمنى البعض لو يُزال من الوجود وتنتهي مفاعيله. اما الموضوع الأساس في البيان الوزاري والذي يُنتظر ان يتجدد حوله الجدل ويتوقف عنده الفرقاء فقرة فقرة وكلمة كلمة وسطراً سطراً وحرفاً حرفاً نقطة وفاصلة فهو موضوع المقاومة اللبنانية، أي سلاح"حزب الله"ومصيره وقرار السلم والحرب، إضافة الى قرارات لجنة الحوار الوطني حول العلاقات مع سورية والسلاح الفلسطيني خارج المخيمات وداخلها خصوصاً بعد احداث نهر البارد التي زادت من اهمية حسم أمره نهائياً. 3- مصير المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة رئيس الحكومة الأسبق الشهيد رفيق الحريري ومدى الجدية في المضي بها حتى النهاية وفق شكلها الحالي وصلاحياتها وشبح الفصل السابع المخيم على رأسها. 4- في ضوء كل هذه المعطيات تشكل قضية مستقبل العلاقات السورية اللبنانية المحور الأساس للحل والتأزم، مما يستدعي بت هذا الملف الشائك في كل الأحوال، وفي ظل مخاطر التأزم والتصعيد وورقة المحكمة الدولية والعمل على التهدئة ووقف الحملات الإعلامية أولاً ثم التمهيد لفتح طريق بيروت - الشام على اساس الحوار والمصالح والجوار والأخوة وتجاوز مرحلة الصراع والتصعيد وتنفيذ مقررات الحوار الوطني في هذا الشأن. 5- القضايا الخلافية الأخرى وبينها مصير قرارات حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بعد استقالة الوزراء والبت في القرارات المصيرية مثل الخصخصة والتعيينات والتشكيلات القضائية والديبلوماسية ومصير المجلس الدستوري ووضع قانون انتخابات عصري. 6- مواجهة الاستحقاقات الاقتصادية والمعيشية والمالية في ضوء معضلات الديون المتراكمة ونزف الكهرباء وغلاء المعيشة وهجرة الأدمغة والأيدي العاملة وإيجاد فرص العمل لآلاف العاطلين ومعالجة آثار الحرب والأزمات والاعتصامات. وعلى رغم كل ما تقدم فإنه يمكن الجزم بأن هذه العقد الشائكة والمشاكل المرتقبة تشكل الجانب المضيء من الأزمة، أي في حال التفاؤل وحصول التوافق والانتخاب، وإنجاز الاستحقاق الرئاسي بيسر وأمان والانتقال الى مرحلة التسلم والتسليم وإجراء الاستشارات الإلزامية لتشكيل الحكومة العتيدة، اما الجانب المظلم فيتمثل في تفاقم الأزمة وتعثر الحلول والوصول الى مرحلة المواجهة المكشوفة وحرب الأعصاب والعض على الأصابع والتلويح بالحروب والفتن والفوضى والفراغ وازدواجية السلطة وثنائية الحكم وتضارب الشرعيات ودخول القوى الإقليمية والدولية على الساحة اللبنانية في معركة كسر عظم. ففي حالتي الفراغ والانتخاب بالغالبية المطلقة، أي ما يسمى"بالنصف زائداً واحداً"، تبقى الأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات لأن معالجة الخطأ بخطأ أكبر تؤدي الى كارثة لا حدود لها ومعالجة أزمة في شكل منقوص تولد أزمات أكبر وأشد خطورة قد تنهي رئاسة الجمهورية والجمهورية في آن وتمحو لبنان الواحد الحر والمستقل والسيد من الخريطة لا سمح الله. وما ينطبق اليوم على لبنان يمكن تعميمه على فلسطينوالعراق وإيران. فمؤتمر انابوليس الذي ستدعو إليه الولاياتالمتحدة في اواخر هذا الشهر، إذا لم ينسف في اللحظة الأخيرة، تحول الى مجرد لقاء دولي وربما الى لقاء عابر، وحتى لو عُقد بزخم اميركي ظاهر ليتوج عهد الرئيس بوش في شهوره الأخيرة، فإن استحقاقه سيبقى ناقصاً ونتائجه مهما قيل عن إيجابيتها ستبقى مجرد بداية حل وليس نهاية أزمة لاعتبارات عديدة أهمها: * غياب المرجعية والجدول الزمني وجدول الأعمال وعدم القدرة على وضع وثيقة مشتركة يقرها اللقاء ويكرس شرعيتها في مجلس الأمن. * تناقض الآمال والرغبات والأهداف، فالسلطة الفلسطينية تريد التزامات اسرائيلية وأميركية ودولية بقضايا الحل النهائي، أي الدولة المستقلة والقدس واللاجئين وفق جدول زمني ومرجعيات القرارات الدولية وأوسلو وخريطة الطريق، بينما إسرائيل لا تريد تقديم أي التزام وتدعي أن الأمن يجب ان يأتي قبل الدولة مع انها تعرف، والكل يعرف، أن الأمن لن يتحقق إلا بقيام الدولة المسؤولة وحل جميع القضايا المرتبطة بشروط السلام العادل والشامل والدائم. ويبدو ان اسرائيل تريد فقط كسب الوقت لتمرير ما تبقى من عهد بوش إذ أكدت على لسان وزيرة خارجيتها تسيبي ليفني ان الحل يمكن ان يتحقق في نهاية عام 2008. * غياب قوى إقليمية فاعلة مثل سورية التي لن تحضر إلا إذا وضع بند الجولان على جدول الأعمال فيما يدعي أولمرت انه سيرحب بمشاركة سورية من دون طرح هذا الموضوع الحيوي، وربما يؤدي هذا الغياب الى عرقلة تنفيذ أي اتفاق لما لسورية من علاقات متشابكة ومترابطة مع عدد من الفصائل الفلسطينية مثل"حماس"التي سيشكل غيابها ايضاً مشاكل مماثلة بعد سيطرتها على قطاع غزة. * عدم ظهور دلائل على وجود قرار اميركي أو حتى دولي بالضغط على اسرائيل للوصول الى حلول دائمة أو على الأقل إحياء مسيرة السلام ومرجعية مدريد وإعادتهما الى الطريق القويم. * كل هذه العوامل ستدفع قوى إقليمية رئيسية مثل المملكة العربية السعودية على التريث وعدم قبول الدعوة إلا في حال توافر الجدية اللازمة في تلبية المطالب العربية والفلسطينية والقبول بمبادرة السلام العربية كما صرح الملك عبدالله بن عبدالعزيز خلال جولته الأوروبية. وما ينطبق على لبنانوفلسطين ينطبق ايضاً على العراق وإيران، فأي حل لا يكون جذرياً سينتهي الى الفشل، وأي استحقاق مهما بلغ مداه سيبقى بداية وليس نهاية للأزمات وأي تأخير في حسم كل هذه الملفات وتوفر النيات والرغبات والإدارة والقدرة من جميع فرقاء النزاعات سيفتح ابواب جهنم على المنطقة بأسرها وعلى العالم كله. ولهذا لا بد من البدء فوراً بأداء الاستحقاقات في مواقيتها وبسرعة لمنع انزلاق المنطقة نحو الفوضى المدمرة والتطرف الأعمى، ولا بد من خطوات عملية جدية وفاعلة حتى ولو كانت بداية الحل لا نهاية الأزمات... فالمطلوب اولاً نزع صواعق التفجير ثم تفكيك مفاعيل المتفجرات والأزمات. اليوم يبدأ العد العكسي لمسيرة نحو طريق في اتجاهين لا ثالث لهما: طريق السلامة والأمان والانفراج، وطريق المخاطر والفتن والانفجار، وما على اصحاب الحل والربط سوى الاختيار بينهما عسى ان تتغلب الحكمة وتنتفض الضمائر ضناً بأرواح الأبرياء وحفظاً للعباد والبلاد... ويا أمان الخائفين!! * كاتب عربي