هل دقّت ساعة دخول لبنان مرحلة الاستقرار والسلام والأمن والاطمئنان؟ وهل حان أوان انتهاء المحنة التي عاشها هذا البلد الجميل الصغير بحجمه والكبير بدوره وقيمه؟ وهل ما أسفرت عنه الانتخابات النيابية يشكّل بداية للأزمات الجديدة أم نهاية لها؟ هذه الأسئلة وغيرها مطروحة الآن جدياً في صفوف اللبنانيين بعد مرور استحقاق الانتخابات ونتائجه وانعكاساته وتداعياته وبعد تمكّن قوى 14 آذار من الصمود والفوز في ظل ظروف صعبة وتوقعات خطيرة وأجواء خيّمت عليها غيوم الصراعات والتهديدات والاستفزازات والتدخلات. لا أحد يستطيع اليوم أن يجزم بالردّ سلباً أو إيجاباً على هذه التساؤلات ولا أن يحدّد «خريطة الطريق» اللبنانية في المرحلة المقبلة، فالطريق صعب ومعقّد ومزروع بالألغام، والتعقيدات كثيرة ومتشعبة، بعضها سياسي محلي وبعضها طائفي ومذهبي وبعضها الآخر عربي وإقليمي. لكن الأجواء العامة تشير الى بوادر تفاهمات ورغبات بتمرير الاستحقاق وفتح صفحة جديدة تعطي فرصة لالتقاط الأنفاس وإفساح المجال لتجربة أخرى بانتظار إعادة رسم التحالفات المحلية والتعامل مع المتغيرات الإقليمية والعربية والدولية ونتائج الاتصالات الرامية الى فتح أبواب الحوار الأميركي مع سورية وإيران وسياسة الأخيرة بعد مرور استحقاق الرئاسة بإعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد وتأثير كل ذلك في الملف النووي والموقف من الصراعات ودور لبنان في هذا الخضم. لكن الأكيد ان ما أفرزته نتائج الانتخابات اللبنانية أكد بما لا يقبل الشك حقائق كثيرة على أرض الواقع، من بينها على سبيل المثال لا الحصر: * إن تمرير الاستحقاق بسلم وهدوء ما كان ليتم في الشكل الذي أنجز به لولا التوافق على تسهيل المهمة من جانب معظم الأطراف، ولا سيما «حزب الله» وتيار المستقبل. * إن الأجواء الهادئة التي مررت الانتخابات على رغم كل ما كان يقال من عواصف ومواجهات واضطرابات امنية لم تأت من العدم، بل مهّدت لها تفاهمات عربية - عربية وإقليمية ودولية تمكنت من لجم أي جنوح نحو الرفض والعنف وقبول النتائج بطيبة خاطر على رغم الصدمة التي أصيبت بها المعارضة و «الدينامو» المحرك لها، وهو «حزب الله»، الذي كان يجزم من خلال تصريحات قياداته بأنه سيفوز ويكتسح ويحصل على الغالبية وينهي حكم 4 سنوات لفريق 14 آذار (مارس). * إن هناك اتصالات مكثفة تجري حالياً بين الأطراف المعنية لتسهيل مهمة انتخاب رئيس مجلس النواب (نبيه بري) وتشكيل حكومة ائتلافية برئاسة المنتصر الأكبر في الانتخابات وهو السيد سعد الدين الحريري وإزالة العراقيل والخلافات المرتقبة حول البيان الوزاري وتشكيلة الحكومة والثلث المعطل وحصة العماد ميشال عون والقضايا الخلافية الأخرى. * إن النتائج ومعها استطلاعات الرأي العام، أكدت ان الشعب اللبناني راغب بفتح صفحة جديدة لا حروب فيها ولا اضطرابات ولا تهديدات لينعم بالأمن والاطمئنان والاستقرار. فحرام ان يبقى لبنان رهينة للخوف والقلق والرعب من الآتي في اي لحظة كأنه مكتوب عليه ألا يخرج من أزمة إلا ويدخل فيها بأزمات، ولا يحل مشكلة إلا ويجد نفسه امام مشاكل أكبر، ولا تخاض ضده حرب إلا وتدق بعدها طبول حروب أخرى، ولا يتنفس الصعداء لمرور «قطوع» إلا ويجابه بضغوط تكتم أنفاسه وتسد امامه منافذ الأوكسجين وأبواب الأمل، ولا يمر استحقاق إلا وتحضر له استحقاقات أشد خطورة، ولا تنجلي غيمة إلا وتتجمع في سمائه الزرقاء غيوم داكنة، ولا يشفى من مرض إلا وتنتشر في جسده فيروسات علل أين منها فيروس انفلونزا الخنازير، ولا يتحرر من ألم ما إلا ويصاب بأوجاع أكثر إيلاماً وأشد مضاضة، خصوصاً عندما يتسبب بها ذوو القربى. ولهذا لا بد من القول إن لبنان دفع الثمن غالياً وآن له ان يرتاح قليلاً، والشعب اللبناني ذاق الأمرّين، وحان وقت تركه يعيش حراً مستقراً مطمئناً الى مستقبل أجياله متحرراً من حالات الرعب الإجباري ونوبات الخوف المتواصلة. فإما ان يشاركه الجميع في ممانعته وصموده وهمومه أو أن يدعوه يعيش ولو لفترة من الزمن بدلاً من تركه في الواجهة كساحة للمواجهة مع إسرائيل ومع ملفات ومطامع الدول وصراعاتها الصغيرة والكبيرة. هذه المطالب المحقة للبنان واللبنانيين تحتم على القيادات اللبنانية مدعومة من الأطراف العربية والإقليمية الإسراع بوضع خطة إنقاذ كاملة تقوم على التهدئة ونسيان الماضي وفتح صفحة جديدة ولو على مراحل تبدأ بهدنة في إطار الخطوات الآتية: * وقف الحملات الإعلامية فوراً في مختلف وسائل الإعلام المحلية والفضائيات العربية وتجنّب نبش ملفات المرحلة السوداء ونبذ إثارة الأحقاد والفتن الطائفية والمذهبية. * مشاركة جميع القيادات والأحزاب في هذا الإنجاز والبعد عن خطابات التصعيد والتخوين وتبادل الاتهامات. * تمرير استحقاق رئاسة المجلس بهدوء وحكمة ومن بعده استحقاق تشكيل الحكومة: فعقدة البيان الوزاري تحل بتبني خطاب القسم لرئيس الجمهورية ميشال سليمان الذي تضمن كل الإيجابيات المطلوبة ولم يغفل أي بند من بنود الخلاف، ولا سيما موضوع المقاومة. * حل مشكلة الثلث المعطل المتنازع عليه بمنحه لرئيس الجمهورية المؤتمن على الدستور والسلام وحماية الوطن بعد أن أثبت جدارته ونجح في إدارة دفة السفينة خلال عام من العواصف والمشاكل وكسب ثقة معظم الأطراف وتلبية دعوته للانفتاح وتأكيد الرغبة في الحوار والتعاون لبدء مسيرة الإصلاح والبناء. * تحويل القضايا المتنازع عليها الى طاولة الحوار على ان يتم وضع حد للإطالة والجدل ووضع جدول زمني وخطة عمل لحل المشاكل العالقة وإتمام وضع استراتيجية دفاعية مقبولة وعملية لا تعرّض أمن لبنان للخطر وتؤكد الاستعداد لمجابهة أي اعتداء إسرائيلي جديد. * حلّ المشاكل العالقة مع سورية وفتح صفحة جديدة تنهي الجدل وتحقق مصالح البلدين الشقيقين بعد إقامة علاقات ديبلوماسية وبدء نشاط السفير السوري الجديد في بيروت السيد علي عبدالكريم العلي وهو مشهود له بالحكمة والتعقل وبالعمل الجاد الصامت من خلال خبرته كصحافي وسفير ناجح في الكويت. * ترك أمر المحكمة الدولية للعدالة وانتظار نتائج التحقيق وبدء أعمالها والاتفاق على قبول حكمها في ضوء ما سيسفر عنه بعيداً من التسييس وتبادل الاتهامات بعد ان أثبتت صدقيتها في بدايات عملها في لاهاي. * حصر عمل الحكومة الجديدة بأولويات طاغية لا مجال للهرب من مواجهتها وتتعلق بالاقتصاد ولقمة عيش المواطن وإيجاد فرص عمل وإعادة بناء البنى التحتية ومحاولة إيجاد حلول جذرية لمشكلة الديون وحاجات المناطق المحرومة، وهذا لن يتحقق إلا بفرض الأمن وتحقيق الاستقرار والكف عن تأجيج النفوس وإثارة الفتن وافتعال المشاكل الأمنية. * بدء حوار مواز بين مختلف القيادات لحل المشاكل والخلافات ونزع فتيل وصواعق الفتن الطائفية والمذهبية ولا سيما بين السنّة والشيعة والانطلاق نحو تنفيذ بنود اتفاق الطائف وإجراء الإصلاحات اللازمة وقطع دابر الشكاوى والنواقص وسد الثغرات. * الاعتراف بالآخر وبدوره وحجم تمثيله واحترام مواقفه وتطلعاته بعد أن أثبتت التطورات ان البلد منقسم بالتساوي أو بنسب مختلف على حجمها وأن لكل فريق جمهوره وقوته وإمكاناته، وهذا ما تكرس في الانتخابات الأخيرة في شكل واضح وجازم. ولهذا لا بد من الإقلاع عن التحديات والاعتراف بالواقع والتحلي بالحكمة والموضوعية والمصارحة تمهيداً للمصالحة بعد ان صبّ اللبنانيون تطلعاتهم في صناديق الاقتراع وعبّروا عن إرادتهم في انتخابات حضارية نزيهة وشفافة، ثم في التعبير عن مواقف حضارية من جانب القيادات الرئيسة في الاعتراف بالنتائج ومدّ اليد لفتح صفحة جديدة وتأكيد الرغبة بالتعاون والحوار. ولا بد من الاقتناع بحقيقة لا مجال للهرب منها وهي ان العنف يولد العنف والتحدي يجابه بتحد أكبر وأن الدم يجر الدم. الحوار وحده هو السبيل، والمحبة هي الدواء الشافي، والتضامن هو السلاح الأمضى في كل الحروب والمواجهات، والوفاق هو المدماك الأفعل لبناء الأوطان. ولا بد من التخلي عن أسلوب فرض الرأي بالقوة وإجبار الآخر على تبني مواقف لا تنسجم مع تطلعاته وطموحاته. فالحل الوسط هو كلمة السر السحرية التي يلجأ إليها العالم كله، ولنا في تجربة الاتحاد الأوروبي المثل والقدوة: 27 دولة و500 مليون إنسان تمكنوا من الوصول الى تفاهمات واتفاقات ودستور بتقديم تنازلات متبادلة وصولاً الى حلول وسطى لكل قضية جرى بحثها. ومن محاسن الصدف ان انتخابات البرلمان الأوروبي أُجريت في اليوم نفسه الذي أُجريت فيه انتخابات لبنان، فكانت قدوة في الحضارة والهدوء والرويّة والرغبة بالوحدة والرخاء والاستقرار. والأمل كبير بأن يستوعب الجميع الدروس من تجاربهم المريرة ومن تجارب الآخرين، خصوصاً ان امام لبنان مستقبلاً واعداً في كل المجالات في حال تغليب الحكمة والتخلي عن الأساليب البالية والمواقف المتشنجة. يكفي ان يعطى فرصة ينعم بها بالهدوء والاستقرار والأمن حتى يستعيد دوره السياسي والاقتصادي والعلمي والثقافي والإعلامي ويسترجع أسطورة «المعجزة اللبنانية». هذا ما يطمح إليه كل لبناني، وكل محب للبنان، وكل من فتح له صدره وقلبه ورحّب به وحماه وأعطاه الكثير من القيم والحب والأمن. موسم الاصطياف على الأبواب، فليجرّب اللبنانيون هذه الفرصة الأولى ليبنوا عليها ويدركوا كم فاتهم من المكاسب والإنجازات خلال اكثر من 35 عاماً من الحروب والأزمات والمواجهات والفتن والخلافات، ومن بعدها فليتخذوا القرارات الحكيمة وليحددوا أي لبنان يختارون، وأي مصير يريدون الوصول إليه وأي مستقبل لأبنائهم وأحفادهم. إنه يوم القرار، ويوم الحساب، ويوم تحديد المصير. نعم، إنه يوم يقف فيه لبنان امام مفترق طرق، فإما الانطلاق الى النمو والازدهار وإما العودة الى قاع الأزمات والخراب والدمار، قاع لا نجاة منه ولا صمود بعد اليوم في حال إضاعة هذه الفرصة الذهبية، لا قدّر الله. * كاتب عربي