لم تترك عصابات التسول المحترفة مجالاً للناس للتعاطف والبذل للفقراء، طردت العملة المزيفة العملة الحقيقية، وتوارت الأخيرة خلف الأسوار إن وجدت. ومنذ بداية تضخم ظاهرة التسول التي أصبحت أمراً عادياً حذرت بأكثر من مقال، ومعي غيري من الزملاء، كان عنوان واحد منها:"مهرجان التسول"... حذرت من الأثر بل الشرخ الاجتماعي الذي تحدثه هذه الظاهرة وتحولها إلى مهنة رديئة. الآن لو التقيت بجائع حقيقي في الشارع يطلب لقمة لن تصدقه حتى لو فتح بطنه أمامك! تفننت عصابات التسول باستخدام الأطفال والعجزة والمشوهين، واستقدمت منهم كثيرين من طريق التسلل من الحدود أو العمرة والحج، واستوطن بعضهم مراكز الجذب، سلاحهم الاستجداء بتنشيف الريق والأيمان لاستدرار عطف الناس، وما زالت المساجد في العشر الأواخر تستقبل أمثال هؤلاء بعد كل صلاة. هذا السيل المنهمر من المتسولين يحد من وصول الصدقات والزكوات للمستحقين الحقيقيين، والوصول إلى هؤلاء والتأكد من أوضاعهم ليس بالأمر السهل، خصوصاً في المدن الكبيرة. أحد الإخوة الموسرين خصص أياماً من شهر رمضان للبحث والتحري عن الفقراء، فراح يتجول مع صديقه لصرف الزكاة، بعد أن يسألا إمام مسجد أو أحداً من أهل الخير. قال لي كنا في السابق نستحي من سؤال أهل المنزل عن أحوالهم، وبعد التجربة أصبحوا يطلبون من صاحبه الدخول للتأكد من استحقاق الساكنين، والسبب كثرة المزيفين وأولئك الذين يستأجرون منازل قديمة في موسم رمضان طمعاً بجولات الموسرين. ومما لاحظه الرجل أن نسبة من الفقراء الذين طرق أبوابهم متزوجون أكثر من زوجة ولديهم أولاد وبنات كثر من عشرة فما فوق، ما يشير إلى خلل اجتماعي وندرة في التوعية، ومن الملاحظات أن بعض الأحياء التي تعتبر متوسطة من حيث نوعية المباني والشوارع نشأ فيها فقراء جدد بعد مطاحن الأسهم والقروض مع موجة ارتفاع الأسعار. وغبطت الرجل وصديقه على قدرتهما وتحملهما مثل هذا الجهد والمشقة، فهما يذرعان أحياء الرياض من الشرق إلى الجنوب، ولا يكتفي الواحد منهم بطرق الأبواب، بل يسأل عن الدخل وعدد أفراد الأسرة وحال ولي أمرها، وهل هو قادر على العمل، وعمر أكبر الأبناء. والحقيقة أنني تساءلت بيني وبين نفسي هل هو مبالغ في التقصي أم نحن مفرطون؟ والفقر مع المشكلات الاقتصادية التي حلّت بالبلاد ازداد، والانتعاش أو الطفرة متوافرة في عناوين بعض الصحف لا غير. الفقر لم يعد حكراً على القرى والمحافظات النائية، مع انه هناك أكثر ادقاعاً، مع كل هذا لا تجد تطوراً يذكر في أداء الجمعيات الخيرية، فهي ما زالت محدودة الأدوات والأساليب، ومصابة بالجمود، تكتفي بإعلان في شهر رمضان، ولا تكشف موازناتها للملأ، وهو أمر مطلوب في عهد الشفافية. من المهم إعادة النظر في أداء هذه الجمعيات بحثاً عن التطوير والتحسين، وربطها إلكترونياً بوزارة الشؤون الاجتماعية، ونشر موازناتها للعموم، حتى تستطيع أداء مهماتها المتزايدة. في مثل هذا فتح قنوات إضافية للتبرعات وطمأنة المزكين والمتصدقين أكثر فأكثر، وفيه أيضاً حد من ظاهرة التسوّل، والله المستعان. [email protected]