كان جنوبلبنان، وما زال، مسرح الاشتباكات الإقليمية، ومركز تصدير الاهتزازات الى الداخل، وفوق هذا المسرح ما فتئت تتداخل عوامل دولية يرى أصحابها في البنية اللبنانية صندوق بريد مثالياً لإرسال الرسائل، والتأكد من سلامة وصولها. لم يكن جنوبلبنان حدوداً جغرافية، وتشير كل المعطيات الى انه لن يصير الى هذا التعريف... على"النقيض"من ذلك، استمرت تلك البقعة من لبنان، حدوداً سياسية، يتبدل المشرفون على حراسة تخومها، ولا تتبدل الوظيفة التي باتت لصيقة بها. انقضت حقبة، احتلت الجغرافيا الفلسطينية، خلالها، العنوان الجنوبي، وكما هو معلوم، كانت الفلسطينية السياسية بلا أبواب، بل يمكن القول انها كانت"مدرسة"في خلع الأبواب وتشريعها على العموم... هذا ما كانت تقتضيه سياسة"التثوير"التي كانت عنواناً لمرحلة سياسية، عربية وفلسطينية، طويلة. لا يخفى ما كان لتلك السياسة من مفاعيل على التشكيلة اللبنانية، وفي المدى العربي، مما يترك أمره لمعالجات نقدية، موضوعية وصريحة، تُقرأ في كتاب السياسة وتستعمل نظاراتها، بدل اللجوء الى مهارب تمويهية. بعد الخروج العسكري الفلسطيني من لبنان، صارت حدود جنوبلبنان جغرافيا اهلية، وانتقلت الكتلة الشعبية هناك، من مناوأة العمل الفلسطيني المسلح، الى ممارسة القتال، بالاشتراك مع اطراف لبنانيين آخرين اولاً، وباحتكار"المقاومة"كلها في نهاية المطاف. كان ذلك إيذاناً بتبدل"احكام الجغرافيا"، حيال فلسطين، بعد ان انتقل"شرف الاتصال بها"الى البيئة المحيطة، معرفة بانتمائها الإيديولوجي، وبتأطيرها السكاني، وبموقعها في"الكيانية اللبنانية"... مع هذا الانتقال، تغيرت وظيفة الاتصال بالصراع العربي - الإسرائيلي، لدى ممثلي الكتلة الأهلية الجنوبية وامتداداتها، فبعد ان كان النشاط الصراعي فعل اعتداء على سلاسة يوميات تلك"الكتلة"، صارت"النضالية الأهلية"للكتلة ذاتها، امتداداً طبيعياً لوجودها، وترسيخاً له، ومده بعناصر وازنة، تسهم في بلورة وحدته وفي تصليب تماسكها السياسي والإيديولوجي. تقطف"الشيعية السياسية"اللبنانية، اليوم، ثمار مواسم زرعها الجنوبي، اما الأغلى في معدلها، فهو سلاحها، الذي صار التعبير الأوزن عن ثقل المصالح الداخلية التي تتطلع إليها. لقد زرع أبناء"الشيعية"السياسية بدأب، وعملوا بحماسة، وهم اليوم يصرون على الجني بعناد. لم"ينتبه"أحد في لبنان الى طبيعة حرث"الشيعية السياسية"في الوضع اللبناني، ودائماً من بوابته الجنوبية!! بل لعل الأطراف تواطأت على إيكال أمر إدارة الصراع الى طرف منها، وتوهمت، أن لا ثمن سيدفع لتلك الإدارة المريرة!! ما حصل، ان التعمية الداخلية التي ساهمت في صنعها طبيعة المهمة، الموكلة الى"الشيعية السياسية"، مهمة التحرير، عادت لتنحسر أمام سطوع المطالب"الفئوية"، عندما تقلصت المساحة السياسية أمام إنجاز التحرير، بالترابط مع ضيق المساحة الجغرافية المحتلة، والاختلاف حول سبل استعادتها. وتضافرت تطورات شتى، خصوصاً منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبعد حرب تموز يوليو 2006، لتعظّم دور"سلاح المقاومة"، وتجعله مصدر الأمان الأول لجمهورها وحلفائها... هذه الخلاصة، كانت نتيجة متوقعة، بسبب حدة الانقسام اللبناني. وحال الاصطفاف الطائفي والمذهبي، وبالتالي عدم اعتراف اطراف التشكيلة اللبنانية، بتضخم دور طائفة ما، على حساب الآخرين، من دون إنكار ضخامة دورها الحقيقي. بين ضخامة الدور وتضخيمه، تدور معركة المحاصصة اللبنانية، مختبئة خلف شعارات شتى من نوع"السيادة والاستقلال ورفض الوصاية والعروبة والتصدي للمشاريع الأجنبية... وما شابه"... ضمن هذا المناخ من عدم الثقة الوطنية العام، ارتفعت منزلة السلاح المقاوم الى"مرتبة القداسة". هذا الارتفاع بالوصف، لحال أهلية معينة، يفتح باب النقاش، ولا يقفله، وينقل السجال، ذا الجدوى، الى مطارح جديدة. في النظر الى الواقع اللبناني وتوازناته، ليس جدياً رفع شعار نزع سلاح المقاومة، بل الأجدى والأصوب المناداة بمطلب استيعابه، هذا يعادل وضع بند استيعاب الكتلة الأهلية، الممسكة بهذا السلاح، على جدول الأعمال. ولا يخفى ان الاستيعاب سياسي، ومساره طويل ومتعرج، وله ارتباطه المباشر بنوع التسوية الداخلية التي يقدم على ابتكارها اللبنانيون. السياق السياسي الآخر، الذي يجب ان يسلكه الوضع اللبناني، هو الكفيل بنزع فتائل التوتر، وبتقديم الضمانات المتبادلة، وبالاتفاق على كيفية إدارة الشؤون الوطنية، ومنها شأن حماية"الجغرافيا السياسية والأهلية"في مواجهة إسرائيل. عليه، تصير الخلاصة كالآتي: يتبدل وضع سلاح المقاومة بناء على ارتفاع مداميك جديدة، لليوميات السياسية اللبنانية، وعلى حضور متنام"للعامّ"الذي هو الدولة، على حساب كل ما هو خاص، من أسلحة الطوائف المتبادلة. إلا ان"الساحة الجنوبية"والداخل اللبناني، لا يعملان، فقط، وفق وتيرة محلية بحتة،"فالدولي"الحاضر، سياسة، بات اليوم موجوداً على صعيد مادي ملموس، من خلال قرارات مجلس الأمن الدولي، ومن خلال التشكيلات القتالية، العاملة تحت مظلة"اليونيفيل". بالانشداد دائماً الى الجغرافيا الجنوبية، يعادل وجود القوات الدولية، مسألة صوغ العلاقة بين"الشيعية السياسية"النضالية، وبين مفهوم التدويل، لجهة تعديله، أو إزاحته عن مهمته الأصلية، أو التصدي لمفاعيله بالجملة، على خلفية اجتهادات متنوعة. حتى الآن، الأقرب الى الصواب القول، ان موقف"الشيعية المقاومة"تدرج من القبول بالوجود الدولي، الى مهادنته، فالتنسيق الضروري معه، فالتطلع الى استيعاب اهداف ايفاده... في الظرف الراهن، لا يمكن الادعاء أن"المقاومة"في صدد التسليم بالدور الدولي، فلذلك شروط محلية وخارجية أخرى، لكن من غير الجائز الإشارة، الى ان المقاومة إياها، في صدد قلب الطاولة في وجه"المجتمع الدولي". ضمن حدود القبول، ولو الاضطراري، يمكن الطموح الى ان تلعب"اليونيفيل"في الساحة الجنوبية، وامتدادها الوطني استطراداً، دوراً يصب في خانة التوازن الإيجابي. أما شروط ذلك الدور، فكثيرة، لكن أهمها يتلخص في عدم الاصطدام بالبيئة الأهلية التي تحتضن الجنود الدوليين، والتزامها بنود تكليفها، خصوصاً بند"إنهاء الأعمال العدائية الإسرائيلية"ضد لبنان. يتنامى عامل الثقة، مع شعور الجنوبيين، بأن الوجود الدولي واحد من عناصر حمايتهم، وليس ممارسة أخرى تضاف الى ممارسات العدوان الإسرائيلي، وأن الإجحاف الدولي العام، بحق العرب، وبالتالي اللبنانيين، يجب ان تتكرر نسخته فوق الأرض اللبنانية. يبدو، من استعراض المشهد السياسي العام، أن قوات اليونيفيل، مدركة حدود دورها، وواعية مسالك نجاحها. في المقابل، تبدو المقاومة عارفة شروط ظروفها العملانية الجديدة، وهي، وإن تمسكت بخطابها التعبوي العالي، في مواجهة إسرائيل، فإنها لا تستطيع إلا ان تعلن رغبة التعاون مع"النجدة الدولية". نفترض ان التشويش على المهمة الدولية في لبنان، إسرائيلي أولاً، بدليل الاعتداءات المستمرة والخروق التي لا تتوقف، هذا ليس غريباً على المنطق الإسرائيلي، الذي يحاول دائماً تفسير القرارات الدولية وفقاً لقراءته الخاصة، مستفيداً من التغطية الملائمة التي يحصل عليها من جانب غير طرف دولي. لكن التشويش الإسرائيلي هذا، المعرقل لاستقامة الحياة اللبنانية، ولتنفيذ الأساسي من مطالب المجتمع الدولي، لا يثير حساسية كل اللبنانيين!! بسبب غياب البديهيات الوطنية، التي حوّلت كل أمر داخلي حساس الى وجهة نظر! بل انه من المرير القول، ان المسلك السياسي السوري حيال الوضع اللبناني، جعل ذلك المسلك بنداً أول في محفل الخصومات الداخلية اللبنانية. هذا الأمر، أعاد فرز الحدود الجغرافية اللبنانية واقتسم الاهتمامات والأولويات حيالها... لعله ليس افتئاتاً القول، ان الحدود اللبنانية مع سورية اكتسبت، لدى البعض، خطورة الحدود اللبنانية مع إسرائيل!! بالتأسيس على ما تقدم، يصير مطلوباً الوصول الى خلاصات، هي أقرب الى التوقعات الطموحة التي يسمح بها الراهن اللبناني، وما يتراءى في المستقبل غير البعيد، لمجمل الحراك الداخلي وتقاطعاته الخارجية. أولاً، لا تشهد الوقائع أي نزق في الأداء الدولي فوق البقعة الجنوبية، ولا تشي باحتمال انفلات"آلته العسكرية"... هذا لأن"الوجود الأجنبي"هنا، مرتبط بكل الارتباك السياسي الدولي خارج لبنان. ثانياً، ليس ثمة في الأفق ما يدل على تهور"المقاومة"وسعيها الى قلب الطاولة اللبنانية، بل يمكن القول، ان هذه تخطئ في الحسابات حرب تموز مثلاً، لكنها لا تفرّط بالوضعية اللبنانية... وكما ورد حيال الدولي، يمكن القول ان اللاعبين الإقليمي والعربي إيران وسورية ليسا في صدد إطاحة الداخل اللبناني، بقدر ما هما في صدد استخدامه... وفق شروط صعبة في مكان، وشديدة القسوة في مكان آخر. كل ذلك لا يسقط. ثالثاً، اهمية الإشارة الى إسرائيل، بصفتها مصدر الخطر الدائم على لبنان، وعلى استقرار المنطقة عموماً... فهذه ليست في موقع صناعة الحلول وتنفيس الاحتقان وتسريب شحنات التوتر، بل هي دائماً في وارد فرض الشروط المستحيلة، التي تغري بها راهناً حال الوهن العربي وعجزه عن الخروج من سياق السياسة الانحدارية. اما رابعاً، فيجدر القول، ان اللبنانيين اثبتوا، انهم غير قلقين من سلاح المقاومة، بل قلقهم كامن في احتكار قرار تحريك هذا السلاح من فوق الرؤوس اللبنانية كلها، لذلك وجب تقييد استخدامه، وتنظيم استعماله... ودائماً من بوابة الحوار الوطني، التي ما زالت موصدة حتى... وفاق لبناني مأمول. * كاتب لبناني.