لكل في ميدان المواجهة السياسية الدائرة، أن يحدد منطق خياره، وعلى «أبناء المقاومة» أن يكونوا المبادرين في هذا الميدان، طالما أن فعلهم، صار في دائرة الاختلاف، وأن مردود أعمالهم، ينعكس على مجمل المصير الوطني، لجهة استقراره واستئناف مسيرته الطبيعية، أو لجهة اهتزازه وتعليق اطمئنانه على سارية المستقبل المجهول!! عليه، ما المنطق الناظم لخطاب «المقاومين» وما عناصر تماسك أطروحاتهم؟ يحتل التلويح بالخطر الإسرائيلي الدائم على لبنان، محور مرافعة «المقاومة» عن ضرورة استمرار امتلاكها لسلاحها، وتستدل على تجليات العدوان الإسرائيلي الدائم، من الانتهاكات الدورية لقواته، السيادة اللبنانية، على الأرض كما في الأجواء... انتقال النقاش «المقاوم» من حلقة السلاح الضيقة الى رحاب المسؤولية الوطنية العامة عن السلامة اللبنانية، يفتح مقاربة «الأمن الوطني» على متفرعات شتى تتجاوز الشق القتالي، ويطرح مسألة المرجعية الناظمة لشؤون «الأمن». من المنطقي، في هذا المجال، أن تكون «الدولة» هي المرجعية، طالما أن الشأن شأن وطني، ومن المسلّم به أن يناقش «أبناء الدولة» في قدراتها وفي التزاماتها، وفي حيثيات استقامة دورها، وفي ضوابط وضمانات توازنها... بما يؤمن حقاً، بقاء «الدولة» في موقع الضمانة العليا العامة، لكل تعبيرات رعاياها، والحارسة فعلاً، لقواسمهم المشتركة، والضابطة لحدود توترهم، من خلال الاعتراف بمرجعيتها، «كمحتكر» لأدوات القوة، وكمستخدم أوحد لسلطة القانون. تحت سقف مرجعية الدولة، لا بأس من الحديث المستفيض، عن مكامن الخطر التي يختزنها وجود إسرائيل، على حدود لبنان الجنوبية. تتعدّد الاجتهادات في هذا المضمار، ولتعدّدها وثائقه ومستنداته واستشرافه أيضاً. ليس غريبا القول مثلاً، بخطر ثقافي يتهدّد «الوضعية الثقافية» اللبنانية، والجهر بخطر اقتصادي عام يمثله الاقتصاد الإسرائيلي، في منافسته للاقتصاد اللبناني، والإشارة الى خطر «اجتماعي» يستحضره أي تسرع في إقامة «علاقة» مع البنية الإسرائيلية... والبنية اللبنانية على ما هي عليه من هشاشة، في التعريفات وفي البديهيات! ضمن هذه المنظومة من الأخطار، يحتل الخطر الأمني مركزه الطبيعي، وفي هذا المجال لا ضرورة، بل من الضرر، الركون الى مقولة «قوة لبنان في ضعفه»، لكن من غير المفيد، وعلى خط موازٍ، النفخ في «أسطورة القوة اللبنانية»، والاستطراد منها الى مقولات «الردع وتوازن الرعب...»، وما إلى ذلك من مقولات لا تتفق وواقع الحال الاستراتيجي مع العدو. بعيداً من المقولتين، يمكن للنقاش أن يذهب فعلاً الى معالجة شأن حماية الحدود، دفاعياً، وله أن يستفيد من تجارب سابقة على هذا الصعيد، تبدأ من دعم صمود المواطنين في أرضهم، وتمر بوسائل حمايتهم، وتصل إلى كيفية تنظيم مساهمتهم القتالية في الدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم... وتعين آلية إدارة هذه العملية الدفاعية، من ضمن الخطة القتالية العامة المقرّة من جانب «الدولة»، المسؤولة دائماً، عن أمن الوطن والمواطنين. هذا النقاش، الذي يدور على مستوى «تقني»، لا يشكل سوى القشرة الظاهرة من الموضوع، وكان الأمر يسيراً، لو أن المعضلة تقتصر على التقنيات، لكن لبّ الموضوع الخلافي، لبنانياً، كان ولا يزال، موقع «أصحاب كل شعار» في التشكيلة الداخلية، ووزنهم المقرر، أو المستهدف، في هذه اللحظة المصيرية من عمر الوطن اللبناني. عليه، يصير الحديث حديث ضمانات، وإنتاج معادلات، ورفض صيغ سياسية والسعي الى استيلاد صيغ أخرى... الخ. في هذا السياق، لنلاحظ، أن «الخيار المقاوم» يتراجع نفوذه كلما تراجع الى دائرته الأهلية الخاصة، لذلك فإن ضمانته الأولى تقع ضمن دائرة الكتلة الشعبية اللبنانية الأوسع، وسياجه الأهم إعادة إنتاج التوافق حوله. عملية إعادة إنتاج الاتفاق حول حيثيات «المقاومة»، دوراً وخطاباً ومرجعية، لا تعني التسليم المسبق من قبل طرف أهلي لطرف أهلي آخر، لكنها تعني، وبعمق، إدراك التحولات، والسعي للوصول الى تسوية تجنّب «الجمع الأهلي» احتمال «الكسر» الوطني العام. على هذه الخلفية، من حق «المقاومين» أن يظهروا عدم ارتياحهم الى خطب عدد من أفرقاء الداخل، وأن لا يركنوا إلى التاريخ السياسي للبعض منهم. كل ذلك مفهوم، داخلياً، ومفهوم أيضاً، وبعمق، ألا يقدِّم «المقاومون» أوراق قوتهم سلفاً، ومجاناً، بل أن يطلبوا لذلك ثمناً سياسياً، يرونه منسجماً مع جوهر خيارهم، ومتسقاً مع الحد اللازم من دورهم، الذي أسسوا له على رافعة إنجاز التحرير التاريخي، الذي كان مأمولاً من اللبنانيين أن يحولوه إلى مادة استقلالية، تضاف إلى الاستقلال اللبناني الأصلي عام 1943. هذا الحق، «للمقاومين»، الذي يجب أن يكون موضع فهم، يصير غير مفهوم عندما يُستوحى منه الإصرار على مسلك وحيد الجانب، لا يعير انتباهاً الى هواجس «الأطياف» اللبنانية الأخرى، ويضغط في اتجاه نزول هذه الأطياف عند تعريفاته لأدواته، التي لها اسم «لبناني» آخر، هو اسم إدامة التفوق لمجموعة لبنانية على آخرين، على رغم أنف كل التبدل السياسي الواقعي، والوقائعي، المعاند لاستدامة «التفوق المخصوص». عندها ينتقل الأمر من «الخوف على المقاومة»، كما عبّرت غالبية لبنانية ذات يوم، الى الخوف منها، كما تعلن خطب كثيرة هذه الأيام!! ما الذي يستطيعه أهل المقاومة، اليوم، تبديداً للهواجس السياسية، المحقة أو المغرضة، التي يُدلي بها أكثر من طرف «أهلي» لبناني؟! في حوزتهم أكثر من مسألة جدية، يمكن أن يكون لها الأثر الحاسم في إيصالها الى عتبات المعالجات المعقولة، المفتوحة على تسوية عقلانية ممكنة. الإضافة الأهم التي يستطيعها المقاومون، هي التزامهم سقف الدولة، في مقاربة شؤون «المنظومة الدفاعية» عن لبنان، التي صارت موضع تداول، والتي يُرجى أن تنفتح أمامها مسالك «التوازنات الأهلية» القلقة، ليصير ممكناً بالتالي، صياغة أحكامها. أما الإضافة الثانية الهامة، فهي الاضطلاع بدور فاعل لدى الحلفاء الإقليميين، يصب في مصلحة المحصلة اللبنانية العامة، في ميدان العروبة، وفي مجال إدارة العلاقات مع العمق العربي والإقليمي. من دون إطالة، يؤشر هكذا مسلك «مقاوم»، إلى بذل الجهد في ميدان تقديم الضمانات المتبادلة. وعليه يجب أن يكون مفهوماً أن لكل جهد يبذل ثمناً داخلياً، إذن فما هو الثمن الذي يجب أن يقدم الى سلاح «الشيعية السياسية»، وإلى مسعاها وتنازلاتها؟... طالما أن الكل بدأ منذ زمن رحلة البحث عن الأثمان؟! لقد قرأ بعض اللبنانيين في التعرض لسلاح المقاومة رسالة «اطمئنان» إلى إسرائيل، ويعلن الجميع، أن المقصود هو إرساء حصانة لبنانية شاملة، لذلك يظل سؤال: ما السبيل الى ذلك يلح على كل الأذهان؟!. * كاتب لبناني