يلاحظ بعد حوالي ثلاثة اشهر على أسر الجنود الإسرائيليين الثلاثة في غزة وجنوب لبنان، أن إسرائيل تعيش أزمة حقيقية، وأنها لم تستطع أن تعالج قضية الأسرى بطرق ديبلوماسية أو مفاوضات تعيد إليها جنودها، مقابل الإفراج عن المعتقلين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب، لأن طبيعتها العدوانية غلبت عليها في إدارتها لأزمة الأسرى. وإذا كانت ردود فعل الجيش الإسرائيلي العنيفة على أسر المقاومة الفلسطينية واللبنانية لثلاثة جنود إسرائيليين بهذا الشكل من القتل والتدمير، لاعتقاد إسرائيل أنها تستطيع أن تحرر أسراها بهذه الطريقة، فإن من حق الآخرين أن يعملوا بالطرق التي يريدونها للإفراج عن معتقليهم الذين مضت على اعتقالهم سنوات طويلة. البعض يرى أن إسرائيل كانت تتحين الفرص الملائمة لإعادة احتلال قطاع غزة وذلك لإضعاف الحكومة الفلسطينية بزعامة حركة حماس، وفرض ضغوط شديدة على الفلسطينيين من حصار ومواجهات دموية يومية، وعلى لبنان لإضعاف"حزب الله"وزيادة أعدائه في الداخل تمهيدا لنزع سلاحه كمطلب لبناني بسبب التدمير الذي لحق بلبنان من جراء العدوان الإسرائيلي وتحميل الحزب مسؤولية ذلك. ولكن الصمود الفلسطيني واللبناني قلب المعادلة، ولم تعد إسرائيل قادرة على احتواء أزمة أسر جنودها. ومع أنها تحاول الظهور بمظهر عدم الاهتمام بالخسائر التي لحقت بها، إلا أن ما حدث لها يشكل نقلة نوعية في الصراع وأدواته ضدها. فأسر ثلاثة جنود وقصف الصواريخ من الجنوب والشمال، هو تحد كبير للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي تتباهى بها إسرائيل منذ قيامها. وأن تأتي تلك العمليات من منظمات وأحزاب لا تملك ما يملكه الجيش الإسرائيلي من قوة وعتاد هو ما لا تستطيع اسرائيل السكوت عنه، لأنها لم تهيئ مواطنيها لاحتمال قصف مدنها الرئيسية، وأن تخلو شوارعها من المواطنين الذين اختبأوا في الملاجئ هربا من صواريخ"حزب الله". سقوط قتلى وجرحى من العسكريين والمدنيين الإسرائيليين في المواجهات مع العرب هو ما حاولت الحكومات الإسرائيلية المختلفة أن تبتعد عنه، وأن تحافظ على الصورة الردعية الإسرائيلية التي بنتها طيلة سنوات الصراع مع العرب وأخافت بها الجيوش النظامية العربية. بينما ما يحدث حاليا قلب الصورة، وأصبحت تنظيمات سياسية وأحزاب وطنية خارج السلطة الرسمية العربية تقوم بما عجزت عن القيام به الجيوش العربية ضد إسرائيل. الصراع بين العرب وإسرائيل أخذ أشكالا مختلفة منذ بداية الصراع في المنطقة، وها هو يأخذ الآن منحى جديدا لم يدخل من قبل ضمن الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في مواجهاتها مع العرب. كان الحجر الذي يقذفه الفلسطيني في وجه الاحتلال في الانتفاضة الفلسطينية الأولى هو عنوان مرحلة مهمة من مراحل الصراع، تتطور إلى العمليات الاستشهادية خلال انتفاضة الأقصى. وأصبح الآن أسر الجنود الإسرائيليين وقصف المستوطنات والمدن الإسرائيلية من الجنوب والشمال هو عنوان هذه المرحلة. إسرائيل تحاصر قطاع غزة وجنوب لبنان، ولكنها محاصرة هي الأخرى بسبب عدم قدرتها على حسم الصراع لمصلحتها على الحدود مع لبنان ومع الفلسطينيين. ومن جهة أخرى أصبحت إسرائيل مأزومة في عدوانها على قطاع غزةولبنان، بسبب الانقسامات الحادة والتخبط في القرارات بين المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم وكذلك بين وسائل الإعلام الإسرائيلية. ويتمحور الخلاف بسبب فشل الجيش الإسرائيلي في كسب الحرب وعدم قدرته على تحقيق الهدف الذي ادعى أنه يريد تحقيقه، وهو القضاء على حزب الله ونزع سلاحه، واحتلال شريط حدودي يصل إلى نهر الليطاني، وبسبب ضخامة الخسائر غير المتوقعة التي لحقت به. ويرى بعض المعلقين الإسرائيليين أنه كان الأجدى شن عملية عسكرية محدودة في الجنوب اللبناني، لممارسة ضغط على الحكومة اللبنانية و"حزب الله"، بعد أسر الجنديين الإسرائيليين، بدلا من القيام بحرب شاملة في لبنان، راح ضحيتها المدنيون اللبنانيون وتم فيها تدمير البنية التحتية اللبنانية من طرق وجسور. ومع ذلك لم يتحقق الهدف المعلن من قبل الجيش الاسرائيلي، والمتمثل بالسيطرة على شريط حدودي بعرض ستة كيلومترات لمنع وصول قوات"حزب الله"إلى الحدود مع إسرائيل والإفراج عن الجنديين الإسرائيليين . ويعترف زئيف شيف أحد أهم المعلقين العسكريين الإسرائيليين في صحيفة"هآرتس"أن الخطأ الذي ارتكبته إسرائيل أنها لم تبدأ الهجمات البرية بالتوازي مع الهجمات الجوية. ويدعي أنه لو جرى توسيع الهجوم البري، فإن"حزب الله"سيسحب بعضا من صواريخه ويتقلص مداها وتقل فاعليتها على المدن والمستوطنات الإسرائيلية في الشمال. كما انتقدت وسائل الإعلام الرئيسية إدارة الحرب منذ بدايتها، وكتبت"هآرتس"تقول إن كل المسؤولين الإسرائيليين لم يكونوا مستعدين لهجوم مكثف يقوم به"حزب الله"ويشل الحياة في شمال إسرائيل. وتبين أن المباني العامة الحيوية في إسرائيل غير محصنة، والملاجئ لم تعد صالحة لاستقبال الإسرائيليين ساعات طويلة. وكذلك الأمر مع إدارات تزويد الكهرباء والمياه والغذاء والمواصلات، لم تكن مستعدة لسقوط صواريخ"حزب الله"وحرب استنزاف طويلة. النخب السياسية الإسرائيلية مشغولة حاليا في تعداد الخسائر التي تلقاها الجيش الإسرائيلي على يد المقاومة اللبنانية وفي المدن والمستوطنات الإسرائيلية. وتزداد لهجة الانتقادات لمن خطط لها وقادها، خاصة مع عدم تحقيق الهدف الذي من أجله شنت فيه إسرائيل العدوان على لبنان. ويفرض ذلك عليها التفاوض مع"حزب الله"للإفراج عن الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين والعرب مقابل الإفراج عن الجنديين الإسرائيليين، وهو ما كان على إسرائيل أن تقوم به منذ اللحظات الأولى للعدوان على لبنان، ومن دون أن تحسب العواقب التي ستنتظرها عند انتهاء الحرب. إسرائيل في أزمة حقيقية، ولا توجد دولة في العالم لم تستطع أن تنعم بالاستقرار والأمن بعد أكثر من نصف قرن على وجودها سوى إسرائيل، التي ما زالت تعيش في حالة حرب وصراع في الداخل والخارج، وهناك رفض شامل لوجودها. هل يستطيع الإسرائيليون والمؤسسة العسكرية الإسرائيلية الإجابة عن هذا السؤال؟ لماذا لم تستطع إسرائيل، مثلها مثل بقية الدول التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، الحصول على الاستقرار والأمن وإنهاء الصراع الذي سببه وجودها في المنطقة؟ * اكاديمي اردني