تشن اسرائيل حرب إبادة على لبنان من دون اهتمام بالسكان المدنيين، بغية القضاء على"حزب الله"، تماماً كما تحاول منذ ستة شهور القضاء على"حماس"في الأراضي الفلسطينية المحتلة. انها تريد اقتلاع الحركتين من جذورهما. ويبدو أن استراتيجيتها تقوم على إخلاء الجنوب اللبناني من سكانه وطرد الشيعة من موطنهم التقليدي الذي يعيشون فيه منذ قرون، تماماً كما تتابع هجومها الهمجي على غزة. وقد أدى العدوان في لبنان حتى الآن الى تهجير 600 ألف من أهل الجنوب والى ترويع البلاد بأسرها وخنقها. لماذا هذه الوحشية الاسرائيلية؟ شكل خطف ثلاثة جنود اسرائيليين بغارات قام بها"حزب الله"و"حماس"إهانة للجيش الاسرائيلي واعترافاً بقدرته الردعية، الأمر الذي لا يمكن في نظر الاسرائيليين إلا أن يعاقب. ولذا فالجيش مصمم على إفهام العرب في ديارهم أي ثمن باهظ يدفعونه اذا ما تجرأوا على مهاجمة اسرائيل. وللجيش الاسرائيلي حساب قديم مع"حزب الله"الذي أدت عملياته المرهقة الى طرده من لبنان في عام 2000 وانهاء احتلال الجنوب الذي دام 22 عاماً. وبهذا النجاح برهن"حزب الله"للعالم العربي بأسره - وللفلسطينيين بوجه خاص - أن اسرائيل ليست معصومة من الهزيمة. وهذا ما يدفع اسرائيل اليوم الى تصفية حسابها مع"حزب الله". ولا شك أن بعض الصقور الاسرائيليين، من أمثال رئيس الأركان دان حلوتس، نادمون على مغادرة لبنان عام 1982 قبل"إكمال المهمة"، إذ انهم بعد قتل 1700 لبناني وفلسطيني أخفقوا في إخضاع البلاد وادخالها في الفلك الاسرائيلي. ولعل الأمر كذلك هذه المرة إذ قد تدرك اسرائيل بأن هدفها القضاء على"حزب الله"و"حماس"بعيد المنال. فهاتان الحركتان شعبيتان وتتمتعان بتأييد جماهيري كبير، وحتى اذا هزمتا على المدى القريب فلا بد أن تبعثا وتنشدا الثأر من جديد. لذلك تعتقد اسرائيل انها اذا شاءت الانتصار الفعلي فلا بد أن تقتل مئات الآلاف من الناس لا المئات فحسب. لطالما كرر زعيم"حزب الله"الشيخ حسن نصر الله، عدو اسرائيل الأول، انذاره لاسرائيل بأن تتوقع"المفاجآت". وجاء ضرب الصاروخ على حيفا، المدينة الثالثة في اسرائيل، وعطب احدى أحدث البوارج الاسرائيلية مثالاً أليماً لهذه المفاجآت، اذ نقل الحرب الى الأراضي الاسرائيلية متحدياً الاستراتيجية الاسرائيلية التي قامت دائماً على خوض الحروب على الأراضي العربية. ولعل المفاجأة الأكبر التي يعدها"حزب الله"هي أن يجتاز الأزمة الحالية الدامية من دون ان يرضخ. وكلما صمد"حزب الله"تنامت مشاكل اسرائيل مع المجتمع الدولي وازداد ضغط الرأي العام العربي على الأنظمة التي تقف بخجل موقف المتفرج. ولطالما اعتمدت اسرائيل على الاستخدام الوحشي للقوة كي تضمن أمنها. فهي منذ انشائها عام 1948 تسعى الى الهيمنة على المنطقة بالوسائل العسكرية. وتقوم هذه السياسة على الاعتقاد بأن العرب لن يملكوا يوماً القوة أو القدرة الكافيتين على تحديها. وهذا في أساسه موقف عنصري واضح. غير أن وراء هذا التهور الاسرائيلي وعرض العضلات تكمن عقدة اضطهاد عميقة وعقدة الأمن، وكلتاهما تصدران عن اقتناع يسود الكثيرين في اسرائيل بأن العرب يريدون قتلهم وبأنهم يواجهون تهديداً دائماً لوجودهم، ولذا يتصورون ان لا خيار أمامهم سوى أن يَقتلوا أو يُقتلوا. وهذه النظرة المظلمة لمحيطهم وبيئتهم هي التي تفسر طبيعة هجمات اسرائيل المبالغ في وحشيتها وعدم تناسبها وعدم اكتراثها بالشرعية الدولية أو أي مبادئ أخلاقية. واذا كانت اسرائيل تستطيع ان تتصرف بهذه الصورة فلأنها حصلت على حصانة استثنائية من جانب أميركا. فما يثير الدهشة في هذه الأزمة هو في الواقع التأييد الأميركي السياسي والديبلوماسي والاستراتيجي لاسرائيل، الى حد منحها ما قيمته 300 مليون دولار من الوقود اللازم لطيرانها كي يستمر في تدمير لبنان. وهذا الانحياز الأميركي الفاضح هو الذي شل مجلس الأمن وقمة الثمانية والاتحاد الأوروبي، اذ كان الضغط الأميركي على هذه الهيئات الثلاث من الشدة بحيث لم تستطع أي واحدة منها ان تلح على ضرورة الوقف الفوري للهجمات الاسرائيلية الشرسة. فبريطانيا رددت كما هو معهود ما تقوله واشنطن"يحق لاسرائيل ان تدافع عن نفسها"، في حين أن فرنسا نفسها، الحامي التقليدي للبنان، اتجهت نحو ادانة"حزب الله"بدلاً من اسرائيل على التدمير الشامل وإزهاق الأرواح. وإذا كان الارهاب يعرّف بأنه القتل العشوائي للمدنيين من أجل تحقيق أهداف سياسية، أفليس هذا بالضبط ما تفعله اسرائيل في لبنان وفلسطين؟ فهي تقتل العديد من المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين من أجل تحقيق هدفها بالقضاء على"حزب الله"و"حماس"، فهي بكل المعايير الموضوعية انما تدان بتهمة ارهاب الدولة. لكن قتل العرب بهذه الصورة الجنونية وتدمير بلادهم لا بد أن يؤديا الى عواقب سلبية على أمن اسرائيل ذاتها. فتصرفاتها الارهابية تجعل ارهاب أعدائها مشروعاً ومبرراً. كذلك الأمر بالنسبة الى اميركا التي سيؤدي تأييدها المطلق لاسرائيل الى تبرير الارهاب ضدها. ذلك ما كان عليه الأمر في 11 سبتمبر، وعلى رغم ذلك لم تطرح اميركا السؤال عن سبب تعرضها للهجمات. ان اميركا واسرائيل تزرعان الرياح وسوف تحصدان العاصفة. وهذا التأييد الأميركي غير المشروط لاسرائيل يدل الى ان ما يدور الآن ليس مجرد حرب ضد"حزب الله"ولبنان لأن سعي اسرائيل الى إخضاع لبنان انما يقصد منه توجيه ضربة لمحور ايران - سورية - حزب الله الذي يتحدى الهيمنة الأميركية - الاسرائيلية على المنطقة. والسؤال الأساسي هو أي ارادة ستسود في هذه المنطقة الحساسة من العالم. فلو كان النزاع محلياً فقط لكان يمكن لاسرائيل أن توافق على تبادل الأسرى كما يطالب بذلك"حزب الله"و"حماس"، وكما حصل ذلك مراراً في الماضي. فهناك 10 آلاف سجين فلسطيني واطلاق سراحهم هو هدف فلسطيني أساسي. غير أن للحرب أبعاداً أوسع، لذلك رأينا أميركا تطلق يد اسرائيل لأنها تواجه احتمال حصول أمرين يبعثان على القلق: ايران مسلحة نووياً وهزيمة مهينة في العراق. لذلك فهي بحاجة الى استرداد زمام المبادرة في الشرق الأوسط، وقد أقنعت نفسها أو أقنعها أصدقاء اسرائيل داخل الادارة وخارجها بأن اسرائيل تستطيع مساعدتها. ولقد شاهدنا المحافظين الجدد يبشرون بأن انتصار اسرائيل في لبنان هو انتصار لأميركا، وهزيمتها هزيمة لأميركا. تلك هي الخلفية الجوهرية لحرب اسرائيل التي جرى التخطيط لها منذ أمد بعيد بمشاركة أميركا، وبتشجيع من بعض المتطرفين المسيحيين في لبنان الذين لا يزعجهم أن يروا اسرائيل"تقوم بالمهمة القذرة"، أي تحطيم"حزب الله". وما يعقد الموقف وجه آخر من أوجه النزاع، وهو أن الدول العربية في الخليج قلقة من اختلال ميزان القوى الاقليمي. فهي تخشى هيمنة ايران واشتداد بأس الشيعة. لكن الأثر التفجيري الذي تحدثه الحرب في لبنان واستشهاد الفلسطينيين على الرأي العام العربي لا يمكن إهماله، خصوصاً مع التغطية الاعلامية المصورة للجرائم الاسرائيلية. ويخشى ان تؤدي اللامبالاة الاسرائيلية لإزهاق الأرواح العربية الى إقناع الشباب العربي بأن التعايش مع اسرائيل على المدى البعيد يصعب ان يتحقق. فالمثقفون العرب يعبرون بإلحاح عن وجهة النظر القائلة ان اسرائيل دولة استعمارية لا بد لها ان تزول كما زالت الامبراطوريات الكولونيالية الأوروبية من قبل. لقد سبق للدول العربية أن أعلنت في قمة بيروت عام 2002 عن استعدادها لإقامة علاقات طبيعية مع اسرائيل في حدودها عام 1967. لكن اسرائيل التي تنوي توسيع حدودها رفضت هذا العرض. ولا بد أن يحين الوقت لاسرائيل كي تعيد النظر في موقفها هذا، فالعرض ما زال على الطاولة. ولن تعيش اسرائيل بسلام إلا إذا انسحبت من الأراضي الفلسطينية واحترمت السيادة اللبنانية وأعادت الجولان الى سورية. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.