«هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في 8 أسابيع وسط ارتفاع الدولار    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    الوداد تتوج بذهبية وبرونزية في جوائز تجربة العميل السعودية لعام 2024م    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في stc    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    "محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    عصابات النسَّابة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    المنتخب يخسر الفرج    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    بوبوفيتش يحذر من «الأخضر»    أجواء شتوية    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أياديه البيض غمرت السينما المصرية روايات وسيناريوات وحضوراً . نجيب محفوظ : ... هل ما نراه على الشاشات هو الأدب الحقيقي لصاحب الثلاثية ؟
نشر في الحياة يوم 01 - 06 - 2013

ما هو القاسم المشترك، غير الأدبي، الذي يجمع بين أبرز فائزين بجائزة نوبل للآداب عند نهايات القرن العشرين: نجيب محفوظ وغابريال غارسيا ماركيز؟
نعرف طبعاً ان أدب الاثنين هو من أكثر الآداب شعبية، في بلادهما وفي العالم، الى حد كبير بالنسبة الى ماركيز، والى حد لا بأس به بالنسبة الى محفوظ. ونعرف ان الاثنين ينتميان على عكس معظم فائزي نوبل المعاصرين - الى ما كان يسمى بلدان العالم الثالث. وان الاثنين حكواتيان من الطراز الأول. وان كلاً منهما عاش لأدبه... كما عاش من أدبه. ومع هذا ثمة قاسم مشترك آخر وأساسي يجمع بينهما هو انخراط كل منهما في السينما، مهنياً حتى. فماركيز الذي كتب عن السينما كثيراً، كان خلال زمن رئيس أهم مدرسة سينمائية في كوبا، وكان ابنه من متخرجيها ليصبح مخرجاً بعد ذلك. أما محفوظ فإنه، عدا كتابته السيناريوات السينمائية، وعدا تأثر أدبه بالسينما وفنها البصري، وعدا انكباب أهم مخرجي مصر والمكسيك لاحقاً على تحويل نصوصه الى أفلام، كان لفترة رئيس الهيئة المصرية للسينما، كما اشتغل لفترة أيضاً رقيباً على السينما. ولنضف الى هذا انه اذا كانت السينما، في أميركا اللاتينية وفي مصر، قد استفادت كثيراً من وجود الأديبين الكبيرين، كما من أدبهما، فإن في وسعنا ان نقول ان القاسم المشترك الآخر بينهما في هذا المجال هو انه لئن كانت السينما اقتبست بعض أعمال ماركيز ومعظم أعمال محفوظ، فإن الأعمال الأساسية الكبرى لهذا وذاك، ظلت عصية على الفن السابع: لم يتمكن أحد حتى اليوم، على كثرة المشاريع والتطلعات، من تحويل"مئة عام من العزلة"أو"خريف البطريرك"الى فيلم سينمائي، كما ان السينما ظلت بعيدة عن ثلاثة من أعمال محفوظ الأساسية"الثلاثية"و"الحرافيش"وپ"أولاد حارتنا". نقول هذا طبعاً، ونحن نعرف أن حسن الإمام حاول جهده في ثلاثة أفلام هي"قصر الشوق"وپ"بين القصرين"وپ"السكرية"أجزاء"الثلاثية" كما ان ثمة نصف دزينة، على الأقل من أفلام اقتبست عن فصول"الحرافيش"- بينها تحفة سينمائية هي"الجوع"لعلي بدرخان -، إضافة الى الاستنكاف عن أفلمة"أولاد حارتنا"الذي كان مسألة رقابية - دينية، لا مسألة تقنية. فلم هذا التناقض؟
تكثيف أو لا تكثيف
ببساطة، لأننا نعرف تماماً أن النجاح الذي يحالف السينمائيين حين يقتبسون أعمالاً أدبية، ثانوية الأهمية وحدثية الخلفية، في مسار أصحابها، لا يمكن أن يكون من نصيبهم حين يتصدون لأعمال كبيرة تركيبية المنحى تغوص بين بعد هندسي في عرض الأحداث والشخصيات، وبين عمق التحليل في دراسة وتقديم الشخصيات ورسم العلاقات في ما بينها. من هنا ما نلاحظه، حتى يومنا هذا، من أن الفن السابع لم يدن من"يوليسيس"جيمس جويس وإن دنا من قصة"الموتى" ولا من"البحث عن الزمن الضائع"لبروست - كانت هناك محاولات دائمة أخفقت -، ولا من"سفر الى آخر الليل"لسيلين، ولا من"الرجل البلاسمات"لروبرت موتسيل. وفاسبندر حين أراد أن يؤفلم"برلين الكسندر بلاتنر"لألفريد دوبلن، فضل السرد التلفزيوني التبسيطي في حلقات، على التكثيف السينمائي الذي أدرك انه لا يمكن أن يستجيب لعمق الرواية.
وليس ما ذكرنا، سوى نماذج على إخفاقات سينمائية كبيرة في مجال التعاطي مع الأدب الكبير. ولعل في إمكاننا أن نستكمل هذا بالإشارة الى أن ما من فنان سينمائي كبير إلا وفي مساره مشاريع لم تتحقق عناوينها"دون كيشوت"أو"الكوميديا الإلهية"أو"قلب الظلمات"لكونراد أو سوى ذلك. هنا قد يقول قائل: ... مع هذا ثمة أفلام ناجحة أخذت من دوستويفسكي وتولستوي وحتى كافكا "المحاكمة"لأورسون ويلز أو"أميركا"لجان ماري شتروب بل إن معظم الأدب العالمي أُفلم دائماً. وهذا صحيح. وصحيح كذلك أن ثمة أفلاماً اقتبست من معظم روايات محفوظ، قبل أن تدخل التلفزة على الخط لتعيد الاقتباس أو تقتبس المتبقي. ولكن يبقى السؤال: ماذا بقي من الأعمال الكبيرة حين أفلمت؟ وما الذي"شاهده"الجمهور العريض من محفوظ على الشاشات؟
الشخصيات شوهدت بالتأكيد. والعلاقات حضرت. وخصوصاً حضرت الأحداث. ولكن، في الحقيقة، بعد أن جرد كل هذا من تلك الروح الداخلية التي ما كان يمكن لشيء غير اللغة أن يعبر عنها ويدخل القارئ في ثناياها. والحقيقة ان نجيب محفوظ كان دائماً أكثر من أي شخص آخر واعياً لهذه الحقيقة. فهو إذا كان أدرك باكراً ان"كل ترجمة هي في نهاية الأمر خيانة في شكل أو آخر"، كان في إمكانه أن يطبق بالأحرى هذه القاعدة، على الترجمة من فن الى آخر. ومن هنا، لئن سمح لنفسه بين حين وآخر ان"يخون"نصوص زملاء روائيين بتحويلها بنفسه الى سيناريوات سينمائية، فإنه ما كان في وسعه أبداً ان يخون نفسه بنفسه. ومن هنا كان - دائماً - رفضه القاطع لأن يكتب أي سيناريو في اقتباس عن عمل أدبي له. ودائماً كانت الاغراءات كبيرة جداً، لكنه رفضها. كان من السهل على محفوظ أن يشتغل في اقتباس على"الوسادة الخالية"أو"أنا حرة"أو"النظارة السوداء"روايات لإحسان عبدالقدوس بناء على طلب صديقه صلاح أبو سيف أو حسام الدين مصطفى... وكان يدرك طبعاً ان مثل هذه الأعمال تعكس صورة ما للمجتمع وتقدم شخصيات من لحم ودم، لكنه كان يعرف أيضاً ان من المستحيل اعتبارها منتمية الى الأدب الكبير، الأدب الذي يغوص عميقاً في بعده الإنساني والذي تلعب فيه اللغة التحليلية، لا السردية، دوراً أساسياً في إقامة العلاقة بين الحدث وشخصياته وبين القارئ. الأحداث والعلاقات في الأدب البسيط، هي المهمة، إضافة الى وصف الأجواء الاجتماعية والخروج في نهاية الأمر بموقف وعظي فيه من"النهايات السعيدة"ما فيه. من هنا حين كان محفوظ يوافق على أن يشتري أحد حقوق رواية له لاقتباسها، كان يعرف مسبقاً، ان في إمكانه أن يعتبر الاشتغال على هذه الرواية أمراً خارجاً عن اهتماماته. هو تنتهي علاقته بنصّه حين يصل الى القارئ. بعد ذلك حرّ من يشاء"إعادة قراءة العمل"على مزاجه كما يريد. محفوظ يملك الرواية. أما المقتبس فإنه يملك قراءته لها، حتى ولو كانت قراءة خاطئة أو مبتسرة. وفي هذا الإطار تحمل دلالتها هذه الحكاية التي رواها لنا محفوظ بنفسه:"ذات يوم جاءني مخرج صديق يعرض علي رؤيته الإخراجية لرواية لي كان اشترى حقوقها، ورفضت كعادتي الاشتغال على سيناريو لها. في الرواية كان المفروض أن تنتهي الأحداث بالقبض على الشخصية الشريرة - بطل الرواية -، لكن رؤية المخرج اتجهت صوب نهاية سعيدة، وقال لي: في النهاية سنجعله يتوب ويتزوج حبيبته ونجعل ختامها مسك. هنا بعد أن استمعت اليه صرخت بهدوء: مسك إيه؟ ده مسكوه مش مسك".
السينما داخل السينما
تبدو هذه الحكاية، هنا،"نكتة"من تلك التي اعتاد محفوظ أن يرويها بظرف. لكنها تحمل كل دلالاتها، خصوصاً إذا عرفنا أن كاتبنا الكبير ترك للمخرج حرية رسم النهاية كما يشاء. يومها إذ روى هذا، ولاحظ استغراباً على وجوهنا، قال:"حسناً... إنها رؤيته وتفسيره. أما تفسيري فسيظل باقياً بين صفحتي الكتاب".
إذاً، من المؤكد ان من يريد أن يعيش عوالم نجيب محفوظ حقاً، سيكون من الأفضل له أن يعود الى كتبه، لا الى الأفلام التي اقتبست منها. ومع هذا هناك، دائماً، أفلام كبيرة أخذت عن أعمال محفوظية لا تصل في أهميتها الابداعية الأدبية الى شوامخه. ومن أبرزها طبعاً"القاهرة 30"عن"فضيحة في القاهرة"الاسم الأصلي لپ"القاهرة الجديدة" وپ"بداية ونهاية"لصلاح أبو سيف، وپ"الاختيار"ليوسف شاهين، و"قلب الليل"ثم خصوصاً"الكرنك"وپ"أهل القمة"لعلي بدرخان، علماً أن"أهل القمة"المأخوذ عن قصة قصيرة لمحفوظ، يظل واحداً من أقوى وأجمل الأفلام التي افتتحت ما سمي آخر السبعينات - بداية الثمانينات، من القرن العشرين"الواقعية الجديدة"في السينما المصرية. والحقيقة هي أن معظم بدايات شيء ما... في السينما المصرية ثم في التلفزة - تحمل إما اسم نجيب محفوظ أو بصماته، بدءاً من"مغامرات عنتر وعبلة"حتى مسلسل"حضرة المحترم"... من تسييس التاريخ، الى الواقعية الاجتماعية، الى سينما الجريمة والتشويق من"لك يوم يا ظالم"الى"الطريق"وپ"اللص والكلاب"، الى السينما السياسية العنيفة في انتقادها "ميرامار"وپ"ثرثرة فوق النيل"بين أعمال أخرى، الى سينما سيكولوجية التحليل الجنسي "السراب"لأنور الشناوي، مروراً طبعاً بسينما التأريخ الاجتماعي للشخصية المدينية في مصر "الثلاثية"حتى كما حققها حسن الإمام، وپ"زقاق المدق"وپ"خان الخليلي"... بل يمكننا أن نقول هنا ان الفضل يعود الى محفوظ، حتى، في مجال ولوج السينما المصرية عالم السينما المتحدثة عن السينما وحياتها الخفية "المذنبون"عن قصة قصيرة له، وخصوصاً"الحب تحت المطر". والحقيقة ان هذا كله يضعنا أمام واقع أساسي هو واقع ارتباط بعض أفضل أعمال أهم مخرجي مصر ليس بأدب محفوظ وحده، بل بإطلالته الواعية على فن السينما. ذلك ان الأفلام التي ذكرنا، والتي لم نذكر حملت دائماً تواقيع شاهين وأبو سيف وسعيد مرزوق وحسين كمال وعاطف الطيب خصوصاً في التحفة المقتبسة من"الحب فوق هضبة الهرم" وعلي بدرخان، وعشرات غيرهم سواء أكانوا من مبدعي السينما الذين تعاملوا مع محفوظ مباشرة، أو من الذين دخلوا أجواء أعماله في شكل غير واعٍ.
والحال ان هذا كله يدفعنا الى السؤال عن السبب الحقيقي الذي جعل واحداً من أقرب أصدقاء نجيب محفوظ اليه، وهو الفنان توفيق صالح - والذي كان من شلة"الحرافيش"أسوة بأحمد مظهر - يستنكف عن الاشتغال على نص كبير - أو صغير - من نصوص نجيب محفوظ محولاً إياه الى فيلم. ذلك انه كان، دائماً يُسأل - وكاتب هذه السطور طرح عليه، مرة، هذا السؤال وكنا معاً في سيارة توفيق صالح، ومعنا الأستاذ محفوظ يستمع إلينا من دون تعليق - لماذا لم يكن هو من يشتغل على تحويل"الثلاثية"الى ثلاثة أفلام؟ فيضحك ويجيب: أفعل عندما يقبل الأستاذ أن يكتب السيناريو بنفسه! وكان واضحاً ان جواب توفيق صالح تهرب لا أكثر، لأنه - وأكثر من أي شخص آخر - كان يعرف أن الأستاذ لن يفعل! ومع هذا، نعرف ان واحداً من أكثر أفلام توفيق صالح شعبية - وأقلها جودة في الوقت نفسه - كان"درب المهابيل"هو عن قصة وسيناريو لنجيب محفوظ. فلم كان هذا الانتماء السينمائي لمحفوظ من طريق عمل كوميدي خفيف يمكن نسيانه بسهولة، بينما نعرف ان توفيق صالح اقتبس معظم أفلامه من أعمال أدبية، لا سيما"يوميات نائب في الأرياف"لتوفيق الحكيم؟ مهما يكن الأمر يمكن أن نقول دائماً، ان توفيق صالح الذي كان شديد الاقتراب من عالم نجيب محفوظ، كان يرى في أعماقه نفس ما كان يراه هذا الأخير: عجز السينما الكلي عن اختراق عمق هذا العمل... لا أكثر ولا أقل!
إذاً؟ إذاً، يمكننا ان نختم هذا الكلام هنا بالعودة الى تأكيد ان الإنصاف يقتضي ان نقول ان أهل السينما بذلوا دائماً جهوداً كبيرة - تجاوب معها نجيب محفوظ دائماً - لنقل أدبه الى الشاشة، لكن الواقع يدفعنا الى القول ان هذا الأدب لا يزال عصياً على ذلك. وربما في انتظار أن تُخلق لغة سينمائية جديدة نكون أكثر قدرة على التوغل داخل أدب هو، على الورق بين دفات الكتب، واحداً من أعظم الآداب العربية في القرن العشرين، وفي مكانة متقدمة في الأدب الاجتماعي، في العالم كله.
صلاح أبو سيف : هكذا ولد محفوظ السينمائي
"كان سروري كبيراً حين تعرفت على نجيب محفوظ ذات يوم بعيد الحرب العالمية الثانية، إذ أدركت فوراً ان هذا الرجل سيلعب دوراً كبيراً في تقدم السينما المصرية". كانت هذه الكلمات هي الأولى التي حدثنا بها الراحل صلاح أبو سيف، حين سألناه العام 1992، عن علاقته السينمائية بعميد الرواية العربية. يومها، إذ طلبنا اليه ان يتحدث عن الكيفية التي التقى بها محفوظ وكيف وصل بهما الحديث الى السينما ما أسفر عن تعاون في هذا المجال بينهما دام سنوات، ابتسم أبو سيف مستعيداً شريط الذكريات وقال:"إنني قي الحقيقة أجد في هذا الحديث متعة خاصة. ذلك ان علاقتي مع محفوظ بدأت مع بدايات محفوظ نفسه ككاتب واقعي بعد خروجه من مرحلة الرواية التاريخية. التقيت محفوظ للمرة الأولى في العام 1945 بعدما كنت سمعت باسمه كثيراً من أصدقاء كثر لم يكن الواحد منهم يخفي إعجابه به وبكتاباته. ولقد انضممت بدوري الى نادي المعجبين به حين حصلت على رواياته الأولى وقرأتها. وبعد شهور، حين حدثني الشقيقان الكاتب فؤاد نويرة والموسيقي عبدالحليم نويرة عن ضرورة اللقاء به، تحمست على الفور والتقينا في ذلك العام. منذ لقائنا الأول الذي كان ودياً في شكل مدهش أبلغته إعجابي بأدبه، وقلت له - في طريقي - انني أعتبره فناناً سينمائياً بالسليقة، ذلك لأن كتابته كتابة بصرية بالصور. وسألته فجأة: لماذا لا تكتب للسينما أستاذ نجيب؟ فوجئ الرجل بسؤالي وبدا عليه أن الأمر كله يقف خارج اهتمامه وسألني مستنكراً: كيف أكتب للسينما وأنا لا أفهم شيئاً بالنسبة الى هذه الكتابة؟ قلت له ان مخيلته تبدو وكأنها خلقت للعمل السينمائي. فابتسم وقد اعتقد - كما سيخبرني لاحقاً - بأن الأمر لا يعدو أن يكون حديثاً عابراً. أما أنا فكنت عند كلامي. إذ قررت ألا أترك تلك الإمكانية المتاحة للعثور على كاتب سيناريو حقيقي، تفلت من يدي. وهكذا ما إن التقيت به في المرة الثانية، حتى أعطيته مجموعة من الكتب الأجنبية المتحدثة عن فن كتابة السيناريو".
كانت تلك إذاً، وبرواية صلاح أبو سيف نفسه - والتي أكدها لنا نجيب محفوظ غير مرة بعد ذلك في حوارات كان المخرج الكبير توفيق صالح، شاهداً على معظمها - بداية علاقة نجيب محفوظ بالسينما. بل ان محفوظ ضحك مرة قائلاً لنا، إذ أتينا على ذكر هذا الأمر، انه"اكتشف"منذ تلك اللحظة انه سينمائي"فقط على طريقة المسيو جوردان في"المثري النبيل"لموليير، إذ اكتشف انه يتكلم نثراً. يومها، إذ قال محفوظ هذا أردف: على أي حال إذا كان"عملي"في السينما لا يعجبكم عليكم أن تلقوا اللوم على صلاح أبو سيف. اللوم؟ هنا علينا أن نتذكر ان بعض أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية قد حمل توقيع نجيب محفوظ، كصاحب القصة، أو كاتب السيناريو والحوار، أو غير ذلك... كما نرى في مكان آخر من هذه الصفحة.
المهم هنا مواصلة حكاية صلاح أبو سيف مع"اكتشافه"الجديد الذي كان عنوانه نجيب محفوظ سينمائياً. وأبو سيف يواصل الحكاية بنفسه:"خلال الشهور التالية راح نجيب محفوظ يقرأ الكتب التي أعطيته إياها بنهم، كما ازداد ارتياده الصالات السينمائية". وهو ما أكده لنا محفوظ دائماً متحدثاً بفرح عن تلك الثقافة الجديدة التي اكتسبها بفضل أبو سيف. غير أن المسألة لم تقف عند ذلك البعد النظري، كما نعرف، ذلك ان أبو سيف سرعان ما انتقل لپ"يورط"محفوظ في العمل السينمائي فكان أول تعاون بينهما، انضم اليه الراحل سيد بدير، في فيلم"مغامرات عنتر وعبلة"، الذي صور بين 1945 و1947، لكنه لم يعرض إلا في العام 1948، ويقول ابو سيف عن هذا الفيلم انه يبدو له محملاً بالأبعاد السياسية باكراً، وجعلته المصادفة يعرض في عام ضياع فلسطين"ومن هنا كان يحمل رسالة سياسية، خصوصاً أنه، على رغم كونه يروي حكاية غرام تاريخية، نادت حوارات كثيرة فيه بالشعارات نفسها التي ستنادي بها ثورة تموز يوليو بعد سنوات، مثل"نسالم من يسالمنا نعادي من يعادينا". كما انه من الطريف انا وضعنا لشخصية اليهودي في الفيلم عصبة سوداء على عينه، قبل سنوات من ظهور موشي دايان وعصبة عينه السوداء التي سرعان ما تحولت رمزاً...".
هكذا، إذاً، بدأ التعاون السينمائي بين محفوظ وأبو سيف، وهو تعاون سيتواصل عقوداً طويلة تالية من السنين، إذ لو قلبنا في فيلموغرافيا أبو سيف، سنجد عدداً كبيراً من الأفلام يحمل توقيع محفوظ، أما ككاتب السيناريو والحوار، أو كصاحب رواية اقتبسها أبو سيف للسينما، أو كأفكار تشارك محفوظ وأبو سيف في التقاطها ومن ثم تحويلها الى أفلام مثل"بين السماء والأرض"وپ"مجرم في إجازة"، وإما كاقتباس من الأدب العالمي مثل"لك يوم يا ظالم"عن إميل زولا، أو اقتباس عن أحداث واقعية كما في"الوحش"وپ"ريا وسكينة" أو كإعادة اشتغال على أفكار لآخرين كما الحال مع"شباب امرأة"التي كانت فكرة أمين يوسف غراب، فاقتبسها محفوظ للسينما ليعود غراب بعد ذلك ويحولها رواية مطبوعة.
هنا، لا بد من إشارة الى أمر في غاية الأهمية وهو أن التعاون السينمائي بين محفوظ وأبو سيف، توقف تماماً منذ اللحظة التي قرر فيها أبو سيف اقتباس رواية لمحفوظ في فيلم. قبل ذلك كان العمل بينهما متواصلاً من حول أفكار ونصوص لآخرين. ولكن في العام 1961، أعلن أبو سيف لصديقه نيته أفلمة"بداية ونهاية". على الفور وافق محفوظ لكنه رفض رفضاً قاطعاً كتابة السيناريو لها بنفسه. ومنذ ذلك الحين، وكان محفوظ قد أضحى متورطاً أكثر وأكثر في العمل السينمائي لم يكتب أي سيناريو لا لأبو سيف ولا لغيره، على رغم ان عشرات النصوص لمحفوظ حولت أفلاماً على يد أبو سيف كما على يد غيره. واللافت هنا هو ما يرويه أبو سيف عن أنه، أصلاً، ومنذ العام 1946 كان يريد تحويل"القاهرة الجديدة"وكان اسمها"فضيحة في القاهرة" الى فيلم لكن الرقابة رفضتها، وظلت ترفضها بعد الثورة، مرات ومرات. بل في إحدى هذه المرات كان محفوظ نفسه رئيساً للرقابة، فرفضها رفضاً قاطعاً! طبعاً نعرف انها تحققت بعد ذلك، ولكن فقط بعد أن صار عنوان الفيلم "القاهرة 30" !
* لتفاصيل أكثر حول علاقة محفوظ بأبو سيف، يمكن مراجعة الفصل المخصص لهذا الأخير في كتاب إبراهيم العريس "سينما الإنسان" الصادر عن "المؤسسة العامة للسينما" في سورية.
"بداية ونهاية" وپ"زقاق المدق" على الطريقة المكسيكية
على رغم أن السينما في مختلف البلدان العربية بدت دائماً مفتقرة الى نصوص أدبية جيدة تبني عليها موضوعاتها، لم يدن أي سينمائي عربي من نص لمحفوظ يقتبسه. وربما كان ذلك لأن السينمائيين العرب اعتقدوا بأن أدب محفوظ، في قاهريته المطلقة، أدب محلي يعبر عن مكانه وزمانه المحددين بحيث يصعب نقله الى أماكن أخرى، حتى وإن كان الواقع يقول أموراً مختلفة: يقول خصوصاً ان الحس المديني، وتصوير صعود الطبقة الوسطى وهبوطها، وارتباط المجتمع في واقعيته بالمسائل الأخلاقية والسياسية، والتأزم الجنسي ، والموقف من شؤون الأرض والسماء، والبحث عن تقدم في المجتمعات لا يتنافى مع أصالتها وعمق إيمانها، وهذه كلها من السمات الرئيسة في أدب محفوظ عموماً، إضافة الى تعبيره العقلاني عن قضايا السلطة والدين وقضية المرأة، أمور تجعل أدبه أدباً شاملاً كونياً، وهو ما"اكتشفه"، محكمو جائزة نوبل ذات يوم.
وعلى خطى أهل نوبل، اكتشف هذا كله سينمائي، لكنه آت من بعد ألوف الكيلومترات من العالم العربي، هو المكسيكي أرتورو ربشتاين، الذي حين عثر ذات يوم على ترجمة لرواية"بداية ونهاية"لنجيب محفوظ، صرخ كما قال لنا مرة"وجدتها"ثم راح حتى من دون أن يتصل مسبقاً بالروائي المصري الكبير يحولها الى فيلم سينمائي بعدما نقل أحداثها الى المكسيك. ربشتاين أبقى للرواية على عنوانها نفسه، ليصبح الفيلم منذ عروضه الأولى وتحقيقه نجاحات لا بأس بها في المهرجانات العالمية واحداً من أشهر أفلام ربشتاين، الذي اشتهر دائماً بأفلامه الميلودرامية التي تغوص عميقاً في نفسية الشخصيات وتتحدث خصوصاً عن ذلك الارتباط الوثيق بين الحياة الخارجية والحياة الداخلية للبشر. لقد أبقى ربشتاين على الأحداث نفسها وعلى الشخصيات نفسها ولسوف يقول انه لكثرة ما رأى المكسيك من خلال نص محفوظ لم يجد أي صعوبة في تحويل النص الى سيناريو. نذكر هنا ان المخرج الذي قابل محفوظ في القاهرة بعد ذلك أرسل اليه شريط فيديو للفيلم. وشاهده محفوظ بلهفة لم تكن معتادة لديه. وشاءت المصادفة ان نلتقيه في كازينو"قصر النيل"، حيث كانت لقاءاتنا معه، كلما زرنا القاهرة في ذلك الحين. ويومها، فور اللقاء راح يحدثنا عن الفيلم باستفاضة. صحيح انه بدأ حديثه شاجباً ما وضعه المخرج في الفيلم من"مشاهد إباحية"بحسب تعبير محفوظ"ما كانت لتخطر لي في بال"، لكنه استطرد بعد ذلك إذ سألناه عن رأيه في الفيلم، قائلاً ان في كل لحظة من لحظات الفيلم، شعر بذلك"التضافر"استعمل هذه الكلمة تحديداً بين المكسيك والقاهرة، وشعر وكأنه هو نفسه كتب الرواية عن... المكسيك. وما لمح اليه محفوظ، من دون أن يقوله صراحة، هو انه للأسف وجد ان هذا الفنان المكسيكي، أي ربشتاين فهم أدبه، سينمائياً، أفضل مما فعل أي سينمائي عربي. تهذيب محفوظ الفائق منعه من قول هذا، ولكنه إذ راح يتحدث عن الفيلم مطولاً ويتوقف عند لقطات ومشاهد فيه، كان واضحاً مقارنة بما كان محفوظ يفعله خلال حديثه عن أفلامه الأخرى في مناسبات سابقة، إذ يفضل دائماً عدم الخوض فيها.
لم نعرف بعد ذلك رأي محفوظ في الفيلم الثاني الذي اقتبسته السينما المكسيكية عن رواية"زقاق المدق"هذه المرة محملة إياه العنوان الذي حملته الترجمات الفرنسية والإسبانية وهو"زقاق المعجزات"، لكننا علمنا، بالتواتر، ان سروره كان أقل... وفقط لأن مقدار الإباحية في الفيلم الثاني كان أكبر! ومع هذا يمكننا ان نفترض ان الفيلم أشاع الرضى والسرور، لدى محفوظ، لأن"زقاق المعجزات"لم يبد أقل مكسيكية من"بداية ونهاية"، بل إن الحس الاجتماعي هنا كان أكبر، مع تراجع في البعد السيكولوجي لمصلحة البعد الاجتماعي... علماً أن"زقاق المعجزات"لم يقدم تلك الصورة البانورامية التي تسم"زقاق المدق"كرواية، بل اختار بعض اللوحات والنماذج المعبّرة، كما ان الفيلم لم يصور طبقة معدمة، كما حال الرواية، بل فئات قد تكون هامشية، لكن أوضاعها الاقتصادية ليست العامل الحاسم في بناء مصيرها.
"زقاق المعجزات"لم يكن، مثل"بداية ونهاية"من إخراج ارتورو ربشتاين، بل من انتاجه فقط، أما الاخراج فعهد به، هذه المرة، الى خورخي فونس، مع فارق أساسي، هو أن شركة ربشتاين اتصلت هذه المرة مسبقاً بكاتبنا المصري الكبير متفقة معه على انتاج الفيلم وتحويل أحداثه الى أحداث مكسيكية. ولقد قيل يومها ان ربشتاين، كمنتج سأل محفوظ عما إذا كان يود المشاركة في كتابة السيناريو، لكن هذا الأخير رفض، قائلاً ما اعتاد دائماً أن يقوله في كل مرة يُطلب اليه أن يكتب بنفسه سيناريو لعمل له، أي ما يفيد انه يرى دائماً ان كل علاقة له بأي عمل من أعماله، تنتهي ما إن يخط السطر الأخير فيه، منتقلاً الى عمل تال.
* لمزيد من المعلومات والتحليل حول فيلمي نجيب محفوظ المكسيكيين، يمكن مراجعة كتاب د. حسن عطية "نجيب محفوظ في السينما المكسيكية" الصادر عن مكتبة الاسكندرية في مصر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.