من الشائع عادة ان حظ غابريال غارسيا ماركيز مع السينما لم يكن عظيماً... وعلى الأقل مقارنة بضخامة قامته الأدبية وتمكّنه من ان يحقق نجاحات جماهيرية ونقدية في الوقت نفسه. ومع هذا لا بد من القول ان اعداد الأعمال السينمائية – والتلفزيونية – التي اقتبست من نصوص ماركيزية تفوق ما قد يمكننا تصوّره. بل ان ثمة واقعاً قد يجهله كثر، وهو ان ماركيز الذي كان لزمن مسؤولاً عن اكاديمية السينما الكوبية، كتب سيناريوات سينمائية بعضها لا علاقة له برواياته... ناهيك بكتابته سيناريوات في المكسيك ذات حقبة من حياته. ومن هنا لا بد ان نلاحظ ان علاقة صاحب «مائة عام من العزلة» بالفن السابع علاقة متينة. ومن هنا يسود سؤال حائر فحواه: لماذا ليس ثمة، إذاً، اعمال سينمائية كبيرة تحمل اسم ماركيز سواء ككاتب سيناريو او صاحب نصّ اصلي؟ لماذا يُعمل النقاد – وحتى الجمهور – تقطيعاً في اي عمل مأخوذ عن ماركيز ما إن يُعرض؟ وأكثر من هذا، لماذا لم يتمكن ايّ سينمائي من تحويل اي نص ماركيزي الى فيلم كبير؟ والحقيقة ان هذا السؤال الشائك راود أذهان كثر قبل سنوات قليلة حين عرض فيلم مارك نيويل المأخوذ عن «الحب في زمن الكوليرا» المعتبرة إحدى اجمل واقوى روايات الكاتب الكولومبي الكبير. ونتذكر ان الفشل الذي كان من نصيب هذا الفيلم – ولو في شكل نسبي – ادى الى تباطؤ مشروع يستهدف تحويل رائعة ماركيز الكبرى «مائة عام من العزلة» الى فيلم سينمائي... من دون ان يؤدي ذلك الى توقف المشروع كلياً. والحقيقة اننا إذا كنا نسوق هنا هذه المقدمة، فما ذلك إلا للإشارة الى ان ثمة، مع ذلك، فيلمين لا بأس بأهميتهما اقتبسا عن نصّين لماركيز قبل سنوات عديدة وجاءا، كلّ على طريقته، الأكثر أمانة لفن هذا الكاتب الروائي – ونقول هذا ببعض الحذر الذي سنفسره بعد قليل -: الفيلم الأول هو «وقائع موت معلن» الذي حققه الإيطالي الكبير فرانشسكو روزي في العام 1987، اما الثاني فهو «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» الذي حققه المكسيكي آرتورو ربشتاين بعد ذلك بسنوات قليلة، علماً أن ربشتاين نفسه كان مخرجاً ومنتجاً على التوالي لفيلمين اقتبسا من روايتين لنجيب محفوظ هما «بداية ونهاية» و «زقاق المدق». مهما يكن، يجمع اهل السينما المهتمون بالأدب على ان فيلمي روزي وربشتاين كانا التجربتين الأكثر نجاحاً في اقتباس السينما لماركيز، مع ارجحية ل «وقائع موت معلن». فإلام يمكن ان يُعزى هذا التفوق؟ ببساطة الى حقيقة تقول لنا ان هاتين الروايتين – او القصتين بالأحرى – كانتا من اكثر نصوص ماركيز ابتعاداً عن تيار الواقعية السحرية، كما عن تيار الوعي ... وهما امران ميزا اعماله الكبيرة، ولا سيما «مائة عام من العزلة» و «الحب في زمن الكوليرا» و «خريف البطريرك» وصولاً الى «عن الحب وشياطين أخرى». وفي كلمات اكثر بساطة نشير الى ان المسألة تتعلق هنا بنصّين خطّيين يغيب عنهما الإستبطان والتفكير الجوّاني والهندسة الأسلوبية، وغيرها من ابعاد تسم عادة الأعمال الكبيرة المنتمية الى الواقعية السحرية وتيار الوعي. والسينما تبدو اكثر قدرة هنا على اقتباس الأعمال الخطية التي تركز على الحدث وتداعياته وتفاعل الشخصيات معه، منها على النهل من نصوص تشتغل على اللغة والذاكرة والتفاعل الأسلوبي. طبعاً لا يمكن هنا التوقف طويلاً عند هذا البعد لأن الخوض فيه يحتاج دراسات وتفاصيل ليس هنا مكانها، لكن المهم بالنسبة الينا هو الإشارة الى ان النصوص البسيطة للكتاب الكبار هي دائماً اكثر ملاءمة لأن تقتبس في فنون اخرى. اما النصوص المركبة فلها حياتها الخاصة، ما يفسر مثلاً عدم تحويل اعمال مثل «يوليس» لجويس او «سفر الى آخر الليل» لسيلين او «البحث عن الزمن الضائع» لبروست او «الرجل البلا سمات» لموزيل الى أفلام مقنعة كبيرة حتى وإن حوّل بعضها بين الحين والآخر. وهنا نكتفي بهذا القدر من الدنو من هذه المسألة لنتوقف عند الرواية الماركيزية التي تبدو لنا الأكثر حظاً حتى الآن من بين أعمال ماركيز مع السينما: «وقائع موت معلن». نشر ماركيز هذه الرواية للمرة الأولى في العام 1981 اي مباشرة في غمرة النجاح المدهش الذي كانت حققته، على الأقل، روايتان كبيرتان له هما «مائة عام من العزلة» و «خريف البطريرك»... ولقد حققت الرواية نجاحاً كبيراً فور نشرها وسرعان ما ترجمت الى العديد من لغات العالم كما الحال مع كلّ أعمال ماركيز منذ ذلك الحين. وعلى رغم نجاحها الفوري، لم تعتبر «وقائع موت معلن» من اعمال ماركيز الكبرى... بل نُظر اليها على انها رواية تشويق بوليسي مع انها لا تنطلق من السؤال المعهود في هذا النوع من الأدب: من ارتكب الجريمة؟ بل من سؤال اقلّ حيرة هو: لماذا ارتكبت الجريمة؟... اما الجريمة المرتكبة هنا فهي جريمة قتل الشاب سانتياغو نصار الذي كان قد قتل قبل عقدين ونصف العقد من الزمن الذي تُروى فيه الحكاية. وهي تُروى على لسان راو لا إسم له تشغله الأحداث التي درى بها ويحيّره سكوت الناس عن الدوافع التي ادت الى قتل الشاب. كان السؤال إذاً: لماذا قُتل سانتياغو نصار؟ وها هو طارح السؤال، الراوي، يعود اليوم الى الديار بحثاً عن الجواب... وهكذا تبدأ الرواية...على لسان هذا الراوي المجهول، ولكن انطلاقاً من اليوم الذي ساد فيه الحداد على نصار... اي اليوم الذي قُتل فيه هذا الشاب على يدي الأخوين التوأم من آل فيكاريو. والحال ان اليوم الذي قَتل فيه التوأمان نصار كان اليوم التالي لعرس اختهما انجيلا على الشاب باياردو سان رومان، الذي كان قَدم الى القرية للبحث عن عروس فاعجب بآنجيلا وخطبها. لكنه في ليلة الدخلة اكتشف انها ليست العذراء التي كان يعتقد. فنبذها امام ذعر العائلة التي – كما سوف يكتشف الراوي بعد كل ذلك الزمن الطويل -، تُقرر الثأر لشرف الفتاة، مفترضة ان المسؤول عما عارها انما هو الشاب سانتياغو ابن إبراهيم نصار، اليتيم الأرستقراطي الذي يعيش مع امه العجوز بعد وفاة أبيه وقد اضحى مسؤولاً عن المزرعة العائلية. وهكذا إذاً، يصدر الحكم العائلي لدى آل فيكاريو بإعدام سانتياغو حتى وإن كان ماركيز لا يؤكد لنا في اي صفحة من صفحات الرواية ان ابن ابراهيم نصار هو الفاعل حقاً. بل ان الأخوين القاتلين لا يبدوان في اية لحظة واثقين من انه هو الفاعل بخاصة ان آنجيلا لا تعترف بمن تسبب في حالها. ولكن «استعادة شرف العائلة» كانت تتطلب مذنباً... والمذنب جاهز لا يحتاج الأمر لا الى اعترافه ولا الى اصدار اي حكم قضائي عليه. ان الحكم سيكون عائلياً مبرماً وما على المجتمع الصغير في القرية إلا الإنصياع. بل اكثر من هذا: التواطؤ... وذلك لأن الرواية تركّز اكثر ما تركز على اليوم الذي يتم فيه تنفيذ «الحكم» حيث سنجد الشاب سانتياغو مطارَداً من مكان الى آخر وقد أُغلقت كل المنافذ في وجهه... ولم تعد حتى امه قادرة على انقاذه. ان القتل، هذا القتل المعلن مسبقاً كما يقول لنا عنوان الرواية، هو قدرٌ لا مفر منه، قدرٌ يتجاوز كل بعد عقلاني... لأن المسألة تتعلق هنا بما يتجاوز العقلانية: «لا يسلم الشرف الرفيع هنا حتى يراق على جوانبه الدم»، كما يقول الشاعر العربي. والدم هنا إن لم «يُرق» ليلة دخلة آنجيلا، لا بد ان يراق في مكان آخر: من جثة سانتياغو. وهو امر عرفته القرية كلها... ورضيت به القرية كلها، وسكتت عنه القرية كلها. وحده الراوي سيأتي بعد سنوات طويلة ليطرح السؤال مندهشاً... وليعرف الجواب وقد بات اكثر اندهاشاً... ولا سيما ان ماركيز يترك النهاية مفتوحة والحيرة اكبر: انه يترك قارئه غير دارٍ بما اذا كان التوأمان قد قتلا الفتى عن قناعة حقيقية منهما، او لأن القرية كانت تريد هذا، تريد قرباناً – ولو بريئاً – على مذبح «الشرف» الجماعي. والحال ان قوة الرواية، التي تخرجها من حدثيّتها و «عاديتها» انما تكمن ها هنا، عند هذه الفرضية التي تحوّل النص من رواية بوليسية تشويقية، الى نص في الإحتجاج الإجتماعي يندد بطقوسية المجتمع وقسوته... وهو يبحث عن اي ضحية لمحو عارٍ مفترض – او حقيقي -. والحال ان غابريال غارسيا ماركيز تمكن في هذه الرواية البسيطة من ان يطرح العديد من الإشكالات الإجتماعية والفكرية، من دون ان يكتب نصاً معقداً مؤسلباً، وهذا ما مكن السينمائي الكبير روزي من ان يستحوذ على النص محوّلاً اياه الى فيلم مميز اتى متماشياً مع سينماه التي كانت دائماً سينما الإحتجاج الإجتماعي. [email protected]