سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غابة نروجية
نشر في الحياة يوم 04 - 10 - 2011

باعت رواية"غابة نروجية"لهاروكي موراكامي عند صدورها باليابانية سنة 1987 أربعة ملايين نسخة. ننشر هنا الصفحات الأولى من الرواية في الترجمة العربية التي تصدر قريباً بتوقيع الكاتب العراقي سعيد الغانمي عن المركز الثقافي العربي بيروت والدار البيضاء. القراء العرب لم يتعرفوا بعد الى أدب هذا الكاتب الياباني الذي اكتشفه الغرب في تسعينات القرن الماضي: انه يُترجم الى لغات العالم وينتشر، ويتوقع نقاد أن يحصد نوبل الآداب في زمن قريب، لكنه ما زال مجهولاً بين قراء العربية.
كنت في السابعة والثلاثين، مشدوداً إلى مقعدي، والطائرة العملاقة 747 تمخر عباب الغيم الكثيف مقتربة من مطار هامبورغ. كانت أمطار تشرين الثاني نوفمبر البارد قد رشت الأرض وبللتها، مضفية على كل شيء مسحة كئيبة من منظر ألماني: طاقم أرضي في معاطف مطرية، علم يرفرف فوق مبنى المطار، لوحة إعلانات الپ"بي أم دبليو". هكذا وصلنا ألمانيا إذاً مرة أخرى.
ما إن حطت الطائرة على الأرض، حتى بدأت موسيقى ناعمة تنبعث من سماعات السقوف وهي تعزف معزوفة عذبة من معزوفات البيتلز:"غابة نروجية". كان اللحن دائماً يبعث فيَّ رجفة من نوع ما، لكنه هزني هذه المرة أقوى من السابق.
انحنيت إلى الأمام، ورأسي بين يديّ لأحمي جمجمتي من الانشطار. اقتربت مضيفة ألمانية طويلة وسألتني بالإنكليزية ما إذا كنت مريضاً.
قلت:"لا، بل دائخ وحسب".
"هل أنت متأكد؟"
"أجل، متأكد. شكراً".
ابتسمت وغادرت، فتغيرت الموسيقى إلى نغمة بيلي جول. مددت قامتي ونظرت خارج النافذة إلى الغيوم الداكنة المعلقة في بحر الشمال، مفكراً في كل ما ضيعته في مجرى حياتي: أزمنة مضت إلى الأبد، أصدقاء ماتوا أو اختفوا، مشاعر لن أذوقها مرة أخرى.
بلغت الطائرة البوابة. وبدأ الناس بفك أحزمتهم وسحب أمتعتهم من الخزانات العلوية في الطائرة، بينما كنت أنا مستغرقاً في المرج. أستطيع أن أشم رائحة العشب، وأتحسس الريح على وجهي، وأسمع زقزقة الطيور. إنه ربيع 1969، وقريباً سأكون في العشرين من العمر.
جاءت المضيفة لتتأكد من حالتي مرة أخرى. هذه المرة جلست إلى جواري وسألت هل كل شيء على ما يرام. قلت بابتسامة:
"إنني بخير. شكراً. فقط أشعر بشيء من الكآبة".
قالت:"أعرف ما تعنيه. يحدث لي هذا بين الحين والآخر".
نهضت وهي تبتسم ابتسامة محببة:"حسناً، إذاً، رحلة موفقة".
Auf Wiedersehen Auf Wiedersehen
مضت ثماني عشرة سنة على ذلك، وما زلت قادراً على استعادة كل تفاصيل ذلك اليوم في المرج. كانت الجبال تكتسي بخضرة عميقة مشرقة، وقد غسلها رذاذ المطر المتساقط من غبار الصيف في النهار. وجعل نسيم تشرين الأول أكتوبر يتمايل بالأوراق البيض لأطراف الأعشاب. مرق شريط طويل جداً من الغيوم المعلقة عبر زرقة القبة الجامدة. من المؤلم النظر إلى تلك السماء المبتعدة. زحفت نفحة ريح عبر المرج وعلى كتفيها قبل أن تنزلق إلى الغابة، لتهيج الأغصان وتعيد لنا صدى متقطعاً من نباح بعيد. صوت غامض بدا وكأنه يصلنا من مشارف عالم آخر. لم نسمع أصواتاً أخرى. ولم نقابل أشخاصاً آخرين. رأينا فقط طيرين أحمرين يقفزان وقد جفلا من منتصف المرج واندفعا إلى الغابة. ونحن نمشي باتجاه الغابة، حدثتني ناوكو عن الآبار.
الذاكرة شيء مضحك. حين كنت في غمرة المشهد، لم أعره اهتماماً يذكر. لم أقف للتفكير فيه وكأنه شيء من شأنه أن يترك انطباعاً يبقى، وبالتأكيد لم أتخيل أبداً أنني سأستعيده بكل تفاصيله بعد ثماني عشرة سنة. لم أعر ذلك المشهد أدنى التفاتة في ذلك اليوم. كنت أفكر بنفسي. فكرت بالفتاة الجميلة التي تمشي إلى جواري. فكرت بكلينا معاً، ثم بنفسي مرة أخرى. كنت في عمر ومرحلة من الحياة يرتد فيها كل مشهد، وكل شعور، وكل خاطرة إلى ذاتي، كأنما لعبة خشب البومبرنغ الارتدادية. والأسوأ أنني كنت عاشقاً. بكل ما في الحب من عقد. كان المشهد آخر شيء علق في ذهني.
أما الآن، فإن مشهد المرج هو أول شيء يخطر على بالي. رائحة العشب، قشعريرة ريح شاحبة، خط التلال، نباح كلب ما: تلك هي الأشياء الأولى، وإنها لتأتي بوضوح مطلق. أشعر وكأنني أستطيع بلوغها واقتفاء أثرها بأناملي. ولكن على رغم وضوح هذا المشهد، فلم يكن ليظهر فيه أحد. لا أحد. ناوكو لم تكن هناك، ولم أكن أنا هناك أيضاً. أين كان بإمكاننا الاختفاء؟ وكيف حدث مثل ذلك الأمر؟ كان يبدو كل شيء مهماً في استعادته حينئذ، ناوكو والذات التي كنتها، والعالم الذي كان بين يدي حينئذ: أين ذهبت هذه كلها؟ حقاً أنني لا أستطيع استدعاء حتى وجهها - في الأقل ليس مباشرة. كل ما بقي لدي هو خلفية، مشهد خالص، ليس في واجهته أحد.
صحيح أنني إذا أعطيت الوقت الكافي فسأتذكر وجهها. أبدأ بتجميع الصور - يدها الصغيرة الباردة، شعرها الأسود المسترسل، الناعم والبارد عند لمسه، قرطها الناعم المستدير، والشامة المجهرية تحته مباشرة، معطفها المصنوع من وبر الجمل الذي كانت ترتديه في الشتاء، عادتها في التطلع بين عيني حين أسألها سؤالاً، والرجفة الخفيفة التي تتخلل صوتها بين الحين والآخر وكأنها تتحدث من تلة عاصفة، وفجأة يحضر وجهها هناك، دائماً بصورة جانبية في البداية، لأننا ناوكو وأنا كنا دائماً نمشي معاً جنباً إلى جنب. ثم تلتفت إليّ وتبتسم، وتميل رأسها قليلاً، وتشرع بالحديث، وتنظر إلى عيني وكأنها تريد الإمساك بصورة سمكة أفلتت في مياه ينبوع شفاف.
لكن وجه ناوكو يستغرق وقتاً لكي يظهر. وبمرور السنين صار الوقت الذي يحتاجه يطول. والحقيقة المحزنة أن ما أتذكره في خمس ثوان، كان يحتاج إلى عشر ثم إلى ثلاثين، ثم إلى دقيقة كاملة، مثل ظلال تطول في ظلمة الغسق. أفترض يوماً ما أن الظلال ستبتلعها الظلمة. لم يكن أمامها من منفذ: فذاكرتي ما برحت تزداد ابتعاداً عن البقعة التي تعودت ناوكو أن تقف فيها، والبقعة التي تعودت ذاتي القديمة أن تقف فيها. ولم يعد يوجد شيء سوى المشهد، منظر ذلك المرج في تشرين الأول، يعاودني المرة تلو المرة مثل مشهد رمزي في فيلم. كل مرة يظهر، يوجه وخزة إلى جزء من ذاكرتي، تقول:"استيقظ. ما زلت هنا. استيقظ وفكر به. فكر لماذا ما زلت هنا". لا تؤلمني وخزته أبداً. فلا ألم لها على الإطلاق. مجرد صوت أجوف يتردد صداه مع كل وخزة. مع ذلك، فإنه محكوم بأن يتلاشى يوماً ما. لكن الوخزات في مطار هامبورغ كانت أطول وأقسى من المعتاد. ولهذا أكتب هذا الكتاب. لكي أفكر. لكي أفهم. تلك هي الطريقة التي تكونت وفقها. يجب أن أكتب الأشياء لكي أحس بأنني ألمّ بها تماماً.
فلنرَ الآن عمّا كانت تتحدث ناوكو ذلك اليوم؟ بالطبع عن"بئر الحقل". لم تكن لديّ فكرة عن وجود مثل ذلك البئر. وربما كان مجرد خاطرة أو علامة وجدت في داخل رأس ناوكو، مثل سائر الأشياء الأخرى التي تعودت أن تغزل وجودها في داخل عقلها تلك الأيام المظلمة. على أنني بمجرد أن وصفته لي ذات مرة لم أعد قادراً على التفكير بمشهد المرج من دون البئر. ومنذ ذلك اليوم فصاعداً، صارت صورة شيء لم تقع عليه عيناي جزءاً لا يتجزأ من مشهد الحقل الفعلي الذي يمتد أمامي. وأستطيع أن أصف البئر بأدق تفاصيله. فهو يقع تماماً على الحدود التي ينتهي عندها المرج وتبدأ عندها الغابة - فتحة مظلمة في الأرض، سعتها ياردة، تغطيها الأعشاب. لا سياج، لا حاجز حجرياً في الأقل ليس من ذلك النوع الذي يرتفع فوق سطح الأرض. لم يكن سوى فتحة، وفم مفتوح على سعته. تلوحت أحجار طوقه وتحول لونها إلى لون أبيض موحل غريب. كانت متصدعة ضاعت كسرها، حتى انزلقت عظاية صغيرة إلى شق مفتوح. تستطيع أن تتمدد عند الحافة وتتطلع إلى الأسفل، فلا ترى شيئاً. كل ما عرفته عن البئر كان عمقه المخيف. كان عميقاً على نحو لا يقاس، محشوراً بالظلمة، كأن كل ما في العالم من ظلمة انصب في كثافته الشديدة. قالت ناوكو وهي تختار كلماتها بعناية:"إنه حقاً، حقاً عميق". كانت أحياناً تتحدث بتلك الطريقة، تبطئ قليلاً في الكلام لتجد الكلمة الدقيقة التي كانت تبحث عنها. أكملت:"لكن لا أحد يعرف أين هو... ما أعرفه يقيناً أنه في مكان ما هنا".
ابتسمت لي، وهي تدس يديها في جيبي سترتها الصوفية وكأنها تقول:"هذا حقيقي".
قلت:"لا بدَّ من أن يكون خطيراً خطراً بالغاً. بئر عميق، ولكن لا أحد يعرف أين هو. يمكن أن تقعي فيه، وستكون تلك نهايتك".
"النهاية. آآآآه ه ه! رشاش ماء. وانتهى الأمر".
"لا بدّ من أن تحدث أشياء من هذا النوع".
"إنها تحدث بين الحين والآخر. ربما مرة كل سنتين أو ثلاث. يختفي أحدهم فجأة، ولا يجدون له أثراً. فيقول الناس هنا: لقد سقط في بئر الحقل".
قلت:"ليست هذه بالطريقة الجيدة للموت".
قالت ناوكو وهي تنفض عنقوداً من بذور الأعشاب عن سترتها:
"لا، بل هي طريقة مرعبة. أفضل ما فيها أنها قد تكسر رقبتك، ولكن من المحتمل أن تكسر ساقك، ثم لا تستطيع فعل شيء. قد تضج بالصياح من أعماق رئتك، لكن لن يسمعك أحد، ولن تتوقع أن يعثر عليك أحد، وقد تزحف عليك أمهات أربعة وأربعين وعناكب تتراكض نحوك، وعظام من ماتوا قبلك متناثرة حولك، والجو مظلم ورطب، وليس فوق رأسك سوى دائرة صغيرة، صغيرة جداً، من الضوء مثل قمر شتوي. تموت في هذا المكان شيئاً فشيئاً، منفرداً تماماً".
قلت:"يا للرعب، مجرد التفكير به يبعث القشعريرة في جسدي. لا بدّ من أن يجد أحد هذا الشيء ويبني حوله سياجاً".
"لا أحد يستطيع أن يجده. لذلك تأكد من سلامة مسلكك".
"لا تقلقي، لن أضيع".
أخرجت ناوكو يدها من جيبها وضغطت على يدي. قالت:"لا تقلق أنت. ستكون على ما يرام. تستطيع أن تجري هنا في منتصف الليل، ولن تسقط في البئر أبداً. وما دمت لصيقة بك، فلن أقع في البئر أيضاً".
"أبداً؟"
"أبدا!"
"كيف يمكنك التأكد من ذلك؟"
قالت وهي تزيد من قبضتها على يدي وتمشي في صمت:"إنني أعرف ذلك فقط. أعرف هذه الأشياء. وأنا مصيبة تماماً. أشياء لا علاقة لها بالمنطق. أشعرها في داخلي وحسب. مثلاً، حين أكون قربك كما أنا الآن، لن يخالجني شعور بالخوف أبداً. لن يساورني شيء مظلم أو شرير".
قلت:"حسناً. ذلك هو الجواب. كل ما تحتاجينه هو البقاء إلى جانبي مثلما أنت الآن طوال الوقت".
"هل تعني ذلك حقاً؟".
"بالطبع".
توقفت ناوكو قليلاً. فتوقفت أنا أيضاً. وضعت يدها على كتفي، وأمعنت النظر في عيني. التمع سائل أسود ثقيل في بؤبؤي عينيها التماعة غريبة. كانت تلك العينان الجميلتان تغوصان في داخلي زمناً طويلاً. ثم انتصبت بطول قامتها، ولامست بخدها خدي. كانت إيماءة مذهلة، دافئة، أوقفت نبض قلبي للحظة.
"شكراً".
أجبت:"بكل سرور".
قالت بابتسامة حزينة:"أنا سعيدة جداً لقولك هذا. سعيدة حقاً. لكن ذلك مستحيل".
"مستحيل! لماذا؟".
"سيكون خطأ. سيكون مرعباً. سيكون...".
زمت ناوكو شفتيها، وبدأت تمشي ثانية. أستطيع القول إن كل أنواع الأفكار كانت تدور في رأسها، وحتى لا أتطفل عليها بقيت صامتاً ومشيت إلى جوارها. قالت بعد صمت طويل:"سيكون ذلك خطأ، خطأ بالنسبة إلي، وخطأ بالنسبة إليك".
تمتمت:"خطأ. كيف؟".
"ألا ترى؟ لا يمكن شخصاً أن يعتني بآخر أبداً مدى الحياة. أعني افترض أننا تزوجنا. حينئذ لا بد من أن تجد عملاً خلال النهار. من سيعتني بي حينما تكون بعيداً عني؟ أو إذا ذهبت في رحلة عمل، من سيعتني بي حينئذ؟ هل يمكن أن ألتصق بك في كل دقيقة من حياتنا؟ أي نوع من المساواة سيكون في ذلك؟ أي نوع من العلاقة ستكون تلك؟ عاجلاً أو آجلاً ستجزع مني. ستتساءل عما كنت تفعله بحياتك، ولماذا تقضي وقتك كله وأنت ترعى هذه المرأة. لن أستطيع احتمال ذلك. ولن يحل هذا الأمر أياً من مشاكلي".
قلت وأنا ألمس ظهرها:"لكن مشاكلك لن تستمر طوال حياتك. ستنتهي ذات يوم. وحين تنتهي، ستتوقفين وتفكرين كيف تمضين من هناك. ربما سيكون من الواجب عليك مساعدتي. لن تديري حياتنا وفق تقرير حسابي. استخدميني إذا احتجتني. ألا ترين؟ لماذا تكونين صارمة إلى هذا الحد؟ استرخي، وضعي عنك هذه الدفاعات. أنت متوترة جداً، ولذلك تتوقعين الأسوأ دائماً. أريحي جسدك، وسيضيء الباقي فيك".
قالت بصوت مفرغ من الإحساس:
"كيف تقول ذلك؟".
أشعرني صوت ناوكو باحتمال أنني قلت ما لا ينبغي قوله. قالت وهي تحدق في الأرض تحت قدميها:
"قل لي كيف يمكنك قول شيء كهذا. أنت لا تقول شيئاً لا أعرفه أصلاً. أريحي جسدك وسيضيء الباقي فيك. ما العبرة في قول هذا؟ إذا أرحت جسدي فقد أتداعى. لقد عشت دائماً على هذا النحو، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي أعرفها في الاستمرار في العيش. لو أنني استرخيت لحظة، فلن أجد طريق عودتي مرة أخرى. سأتبعثر قطعاً، وتتطاير هذه القطع متفرقة. لماذا لا ترى ذلك؟ كيف يمكنك الحديث عن رعايتي وأنت لا ترى ذلك؟".
لم أقل شيئاً.
"إنني مرتبكة، فعلاً مرتبكة. والأمر أعمق مما تتصور. أعمق وأظلم وأبرد. لكن قل لي شيئاً كيف تمكنت من النوم معي تلك المرة؟ كيف فعلت مثل ذلك الشيء؟ لماذا لم تتركني وحدي؟".
كنا الآن نمشي عبر الصمت المخيف لغابة الصنوبر. كانت أشلاء الزيز المتناثرة التي ماتت عند نهاية الصيف تلتمع على سطح الطريق، وتتكسر تحت أحذيتنا. وكأننا كنا نبحث عن شيء فقدناه، واصلنا ناوكو وأنا سلوك الطريق ببطء.
قالت وهي تأخذ ذراعي وتهز رأسها:
"آسفة. لم أقصد أن أجرحك. حاول أن تتجاهل ما قلته. آسفة، فعلاً. كنت فقط غاضبة من نفسي".
قلت:"أعتقد أنني لم أفهمك حقاً حتى الآن. لست بالذكاء الذي تتصورين. فهم الأشياء يحتاج مني إلى بعض الوقت. ولكن إذا ما أتيح لي الوقت، فسأفهمك - أفضل من أي شخص آخر في العالم".
توقفنا عن المشي، ووقفنا نصغي إلى الغابة الصامتة. قلبت بقدمي مخروطات الصنوبر وأصداف الزيز، ثم تطلعت إلى قطع السماء التي تطل من خلال أغصان الصنوبر. وقفت ناوكو تفكر، ويداها في جيوبها، من دون أن تركز عيناها على شيء محدد.
قالت:"قل لي شيئاً، تورو، هل تحبني؟".
"أنت تعرفين أنني أحبك".
"هل يمكن أن تقدم لي معروفين؟".
"مدام، تستطيعين طلب ثلاث رغبات".
ابتسمت ناوكو وهزت رأسها:"كلا، تكفي اثنتان. إحداهما من أجلك، أن تدرك كم أنا ممتنة لأنك جئت لتراني هنا. أتمنى أن تفهم مقدار السعادة التي جلبتها لي. أعرف أنها ستنقذني، إذا كان لشيء أن ينقذني. قد لا أكشف عنها. ولكنها حقيقية".
قلت:"سأجيء لأراك مرة أخرى. فما الرغبة الثانية؟".
"أريدك دائماً أن تتذكرني. هل ستتذكر أنني كنت موجودة، وأنني وقفت إلى جوارك كما هو الحال الآن؟".
قلت:"دائماً. سأتذكرك دائماً".
مشت من دون أن تتكلم. ترنحت أضواء الخريف التي تطل من خلال الأغصان فوق كتافتي سترتها. نبح كلب مرة أخرى، أقرب من المرة السابقة. تسلقت ناوكو تلاً صغيراً، وتمشت خارج الغابة، واندفعت نازلة من منحدر خفيف. تبعتها بخطوتين أو ثلاث وراءها.
ناديت خلف ظهرها:"تمهلي هنا. قد يكون البئر في مكان ما هنا".
توقفت ناوكو وابتسمت وأخذت ذراعي. وتمشينا بقية الطريق جنباً إلى جنب. سألت بشبه همس قريب:
"هل تعد حقاً أنك لن تنساني أبداً؟".
قلت:"لن أنساك أبداً، ولن أستطيع أن أنساك أبداً".
لكن ذاكرتي تزداد سقوطاً في العتمة، ولقد نسيت عدداً من الأمور. حين أكتب من الذاكرة على هذا النحو، أشعر غالباً بغصة الرهبة. ماذا لو كان ما نسيته أهم الأشياء؟ ماذا لو كان في داخلي برزخ مظلم تتراكم فيه الذكريات المهمة حقاً وتتحول ببطء إلى وحول؟
مهما تكن الحال، فهذه هي الطريقة الوحيدة للعمل بها. كابحاً هذه الذكريات الناقصة، الشاحبة، في صدري، أستمر في كتابة هذا الكتاب بتوتر يائس لإنسان جائع ينهش عظماً. هذه الطريقة الوحيدة التي أعرفها للحفاظ على الوعد الذي أطلقته لناوكو.
مرة، منذ وقت طويل، حين كنت شاباً، وكانت الذكريات أكثر حيوية مما هي عليه الآن، حاولت مراراً أن أكتب عنها. لكنني لم أدون سطراً واحداً. كنت أعرف أنني إذا كتبت السطر الأول، فستنهمر السطور الباقية على الصفحة، لكنني لم أتمكن من جعل ذلك يحدث. كان كل شيء حاداً وواضحاً، ولذلك لم أعرف من أين أبدأ. وقد يكون الطريق الذي تدل عليه الخريطة أحياناً غير ذي جدوى. لكنني أدرك الآن أن كل ما أضعه في هذا الوعاء الناقص من الكتابة هو ذكريات شاحبة وخواطر غير كافية. وكلما تلاشت ذكريات ناوكو في داخلي، ازددت قدرة على التعمق في فهمها. أعرف أيضاً لماذا طلبت مني ألا أنساها. وكانت ناوكو تعرف بالطبع. كانت تعرف أن ذكرياتي عنها قد تتلاشى. وهذا هو السبب في أنها توسلت إليَّ ألا أنساها أبداً، وأن أتذكر أنها كانت موجودة.
تكاد تملأني الأفكار بحزن لا يطاق تقريباً، لأن ناوكو لم تحبني أبداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.