حنين يحملني كبساط الريح ويلف بي البلاد، وعجز يهتك عظامي ويقعدني، هكذا يلتوي القلب بينهما على ايقاع اللحن الهادر في صعوده وفي هبوطه، نجوم رائعة تتلألأ وقمر منير وليلة صافية وصحراء ممتدة بلا نهاية كالذكريات، فلماذا ينهش الانين جسدي ويدفعني للتوكأ ربما للمرة الأخيرة على العصا وجرجرة قدمي الى خارج الخيمة، انقضي الليل وهبت نسمات باردة على وجهي، كنت كمن وقع في شرك من خيوط الحرير تحيطه في نعومة لكنها تشل حركته، استنشقت النسمات القادمة حتى ملأت رئتي واخرجتها دفعة واحدة، تحسست الجرح في قدمي، كان الدم قد تجمد ورائحة خاصة للتقيح تنتشر، نعم اعلم انه اليوم لا الغد ميعاد التنفيذ، خيوط الفجر الحمراء نذير يتسرب في هدوء كأنه يقصد ان يفاجئنا، يلتف حول السماء ثم ينقض على الارض نور يغشى العينين ويحرق الوجه. اخرجت الناي من كيس القماش ونفخت، صوته فقط يحيل الوحشة الى دفء، والمرارة الى شجن وتحرك قلب اذ اتي صبي يتلفت حوله، وجلس على حافة البئر جذب الحبل فخرج الدلو، شرب ثم بلل يده ووجهه، ارسلت اللحن في الريح حتى خلت الفضاء يردده. دنيا صغيرة قلتها حين لمحته في الطريق فاردى صدره، داخل جلبابه الواسع الذي يخب فيه، وفي يده تعلق ولده الاسمر، لم استطع ساعتها ان اداري عيني عنه. وقف خارج الخيمة ينتظر، لففت الولد جيدا في خرق كثيرة والقمته ثديي حتى يكف عن الصراخ، فتشبث به وهو يمص في سرعة تحسست كف يده الصغير وحين اغفى في النوم، دخل وسحبه من على صدري، فقلت: سمه قال: زيد. نظرته نظرة طويلة ويدي مكورة ومرفوعة كأنني احمله وصدري لا يزال ينز لبنا. ناديت: زيد. انكب على يدي وقبلها، ثم دفس فيها الجنيه، فضحكت ضحكتي المعهودة وتحسست شعر ولده فسحبه من امامي واختفى. عدت في الاصيل فوجدته يجلس على باب الخيمة، وقف حين رآني: - كيف حال ام الرجال؟. - كيف حال ام البنات؟. - صابتها العلة. فخلطت الاعشاب وصحنتها وعبأتها له: - تغليها وتشربها على الريق. لكنه ردها - ما عاد ينفع دواء. سحبني الى داخل الخيمة، شكى البنات والعمر الذي ولى وطمع الاقارب، واين الولد الذي يسند الظهر ويحمي اخواته. قلت: ما دخل الخيمة رجل قبلك. قال: اعرف. خطت جدتي على الرمل بالعصا وقالت اسميتك ام الرجال ليكون لك حظ من اسمك ولكنك قد بلغت الثلاثين دون حتى امل في الزواج، ثم كسرت العصا وقامت من امامي، كانت النار تضطرم داخل الراكية وتمر نسمات الهواء فتزيدها لهيبا واحمرارا، وحدي اجلس امام النار امد يدي حتى احسبها ستحرق، فأري عظام يدي يسرى فيها الاحمرار. ادفس قطع الفحم في النار المشتعلة فأسمع طقطقة النار، احول عيني اليه هل نسيه ابوه، مرت تسعة أشهر واعتصرني الألم، وحدي في الخيمة اجز على اسناني حتى ينزل الولد، وما اخلف ابا موعده من قبل، الكل بعد الاشهر التسعة ينتظر خارج الخيمة، فلماذا تأخر أبوه يوما وليلة، تراه تركه لي كي اكون اما بحق ام تراه تركة لي كي امتع عيني به قبل الفراق، حملت قطع الفحم حين صارت جمرات ووضعتها في المجمرة ونثرت البخور عليها ففاحت الروائح، أأسميه وهل سمح لي من قبل، فقط يأتي الأب ويلقي بالاسم فأصبه داخل قلبي ولا أري صاحبه الا رجلا يمشي في الاسواق، اروح واجيء بالبخور على وجهه النائم، الولد ازرق وهزيل، هل بارت الارض، كانت تهذب البذرة وتنتقي افضل ما فيها وتقوم المعوج منها حتى تصير عودا ثم وتدا لا يميل. الولد ازرق هزيل، أرقيه من عين من رآه، وهل رآه أحد سواي، شيء شق الفضاء ورائي فاستدرت، امرأة تنتفخ بطنها امامها، ازاحت الوشاح فبان وجهها، سألت.. من..أمه؟. اقتربت ورأته، كانت ترتجف تحت السواء الذي ترتديه، حملته ودارت به فبكى الولد، وضعته في فراشه، اخذت تفكك ازرار ثوبها وتخلعه، فبانت تلك الكومة من الملابس المربوطة بالحبال على وسطها، نزعتها وارتدت ثوبها، ثم حملت الولد واستدارت. هتفت: وأبوه؟. ردت وهي تسرع: مات. جريت وسددت باب الخيمة، قلت: سميه. تطلعت اليه:- منصور.. مثل ابيه منصور. خرجت فقامت بناتها الثلاث المنتظرات، سرن كقافلة صغيرة مبتهجة رغم السواء الذي يلفهن. افرش الملاءة الصغيرة على الرمل الناعم، وارص الزيوت والعطور والاعشاب وانادي: - دواء العليل وحنة الصبايا. فتتجمع البنات حولي ويحدثن جلبة وحولنا يمر الرجال في السوق من كل الانحاء، فأعرف وجوههم وانادي عليهم بالاسم، لم اخطيء مرة كلهم يتوقفون ويبتسمون لي ويخاطبونني. - ما نريد شيئا يا خالة. وبعضهم يدفس الجنيه في يدي ويختفي، اما هو فجاء ووقف امامي كثيرا، فناديته: منصور. اقترب كثيرا حتى خلته سيحتضنني تأملت عينيه الواسعتين الساهرتين، وطوله الفارع رغم حداثة سنه وسماره الواضح، اخرجت الحلوى من جيبي ومددت يدي، لكن امه ظهرت من وراء ظهره خطفته وجرت. اخرج الناي وانفخ وانا مستندة الى الحجر الكبير، ذرات رمل تعلو وترشق الوجه بسبب العاصفة وصوت الناي يتشتت مع الهواء، فأتحسس الجرح في رجلي. كنت قد رويت شجرة الصبار التي زرعتها بجوار الخيمة، منذ اول ولد، والآن صارت بأوراقها المفلطحة والاشواك التي تطل منها كحارس اسطوري، رششت ذرات الماء حولها لو شربت كثيرا لماتت، كأنه الظمأ وانتظار الرواء يحيلانها الى هذا الكائن الصلد المقاوم، تحسستها بعيني وقلت:- مالك يا ام الرجال خابية؟. وكنت حين غرست فسيلتها تمنيت ان تكبر ويصير رجالي بعدد اوراقها، امسكت بالكوز ورفعته الى فمي، مر طائر كبير سمعت صوته الصارخ يعقبه بكاء و ليد، وقع الكوز من يدي وارتج جسدي حتى سقطت على اشواك ساق الصبارة، صرت ازحف بعيدا عنها وانا احاول نزع الاشواك من ساقي وركبتي، هل انتقمت مني لأن الكوز وقع من يدي فرواها الماء لآخر مرة، ام كان صوت الوليد الذي شق صدري. مددت ساقي امامه، ففزع الرجل ودب اصبعه في الجرح الذي ينز من التقيح وقال: - بتر. تأملت وجهه في ضوء الفجرية، فانفتح صدري وخرجت النغمات عالية منادية عليه، تسبح عيني في ا لفضاء الذي يلفنا وتحط على وجهه، ماذا ينتظرك وانت تبعد هكذا في الليل وصرير في القلب يئز، ايها الوجه المؤنس في ظلمة ممتدة، وكنت قد ناديت عليه بنغمات الناي فاستقبل قلبه اللحن، وجاء يتلفت حوله. جلس على حافة البئر وتطلع للسماء، دق قلبه لدقة قلبي، لكنه بعدها تململ وانسحب في هدوء، فهوى اللحن في صدري وعادت النغمات حائرة وحزينة، بينما وجهه يرتسم في القلب وتنبت ورقة جديدة للصبارة ولساني رغما عني يرتفع بالنداء عليه في السوق، فيبتسم الصبي ويدس في يدي الجنيه، ارفع يدي كأنني احمله وصدري لا يزال ينز لبنا.. * كاتبة مصرية.