تذبذبت في عينيها حيرة وشيء تود أن تقوله.. قدمت لها فنجان القهوة بكلتا يدي وأنا أقول: "الآن تصالح الزمن معك" هزت رأسها وابتسمت ابتسامة الألم والأمل معاً قائلة: بعد أن صبرت حتى رأيت الحياة وجهاً آخر غير الذي كنت أراه فكان الصبر القوة التي واجهت بها قسوة التجربة، الآن انتهى كل شيء لكن لا بأس أن تتناثر أوراق ذاكرتي أمامك.. أود التحدث أضناني الصمت، تعاودني الذكريات كأحداث جديدة جديرة بالاستماع. قلت لها: كما تودين.. ومرت بذاكرتي صورتها زميلة الفصل الدراسي، نحيلة، حنطية، تذكرت كم كان اليوم الدراسي يستحيل برفقتها الى ساعات من الأنس كم أحببت أحاديثها عن كل شيء، "هيا" لم أنس اسمها مثلما ننسى كثيراً من الأسماء، انقطعت عنها سنوات منذ أن سمعت انها تزوجت بسرعة وسافرت.. الأسبوع المنصرم رأيتها فجأة في حفل زواج بهيج، هتفت حينها مسرورة: "هيا أي ريح طيبة أتت بك؟" تبادلنا السلام وجلسنا نتذكر معاً الزمن الجميل.. الماضي وأيامه الحلوة عندما كنا نحتفي بالحياة في البيت والمدرسة والوطن.. سألتها عن أحوالها فبادرت هي بطلب هذا اللقاء وحددت يومه وساعته. كانت الخامسة مساءً عندما استقبلتها مرحبةً: أهلاً بك وسهلاً، أضأت البيت، كيف أنت الآن؟. قالت: الحمد لله على كل شيء، أقضي معظم ساعات النهار بالعمل، في المساء أجلس مع والدي.. أو أهاتف ابني وأكرر له قولي: "كن حذراً يا سلمان" حياة تتوفر بها طمأنينة النفس على أية حال بعد أن قضيت سنوات من العمر لا أجد لحظة الشعور بالسلام، اكتشفت خلالها أن كل ما أملكه زائف حتى الأفكار والتصورات التي أملكها ماهي إلا وهم وخيال كلها تلاشت أمام حتمية الواقع وبقي الصبر وحده.. ستة عشر عاما قضيتها وأنا كمن هو مستنفر صامد في جبهة.. وصمتت، وشُغِلت أنا عنها بتفاصيل الضيافة، وحين جلست نظرت إليٌ قائلة: جئتك لرغبتي في أن أراك أولاً، وثانياً لحاجتي للتحدث إليك، لا تتاح للإنسان في هذه الحياة فرصة أن يقول ما عنده كل يوم..!. قلت: أشكر لك حسن ظنك بي. قالت: لا أود إزعاجك.. لكن الرغبة في التخلص مما يثقل الكاهل... رنوت إليها بنظرة عاتبة وأنا أقول: ما يضيرني استماعي إليك؟. فأخذت هي بزمام حديث طويل مفاجئ قائلة: تعلمين أنني تزوجت على حين غرة، (رضوخاً لرغبة والدتي) فسارت الأمور سيراً حسناً زهاء عام واحد حيث اقتنعت في بادئ الأمر بشخصيته الواثقة وعزمه.. ومع الأيام بدأت أنظر أبعد.. بدأت أحلل وأفهم.. تصرفاته، أحاديثه، إشاراته، تقليله من شأن المرأة، لاحظته مبتعداً عن إخوته وأهله، قلت له مرة مازحة: "هل أنت عدو للبشر؟" ثم جاء ابني سلمان بعد انقضاء عام.. فأخذ يزداد سوءا يوماً بعد يوم ويجتاحه العطب..! يثور لأوهى الأسباب تقوده عصبيته ومزاجه.. لا يسمع شيئاً مما يقال له، وقد يحطم ما حوله، لا يتوانى عن إلحاق الأذى.. كنت أفكر دائماً "كيف يتبدل إنسان بهذه الطريقة؟!" أيقنت حينها أني وقعت في مأزق وليس أصعب من أن يقرع رأسك ندم! (صوتها بنبرة أسى). تستطرد: ألمحت لأمي قائلة: إن أساليبه في الحديث والتعامل غاية في الابتذال والقسوة فطالبتني بالصبر، قلت حينها باستسلام: سأصبر من أجل سلمان.. هذا الطفل الذي لا يشتكي ولا يقاوم.. كان خوفي عليه يملأ وجداني يشاغل كل حواسي، يجعلني رهن استنفار دائم.. كانت التحديات تركلني وغبار المدينة يملأ حلقي.. فوجدت أن الخيار الوحيد أمامي هو أن أبقى من أجل ابني عوضاً عن أني لا أتصور العيش بدونه، مشاعر أمومة تستبد بي إلى حد الوجع !. تواصل حديثها: قلت لنفسي مهما كان الواقع أليماً نستطيع أن نتعامل معه و كل شيء قابل للتغيير.. - ماذا كان بعد ذلك؟. - حاولت التغيير في شخصيته.. وفشلت.. حاولت التغيير.. لم أدخر وسعي.. تفهمت سلوكه.. جلست في حوارات معه.. لم أجد لديه بادرة للتفاهم أو التعاطف.. كررت محاولاتي حتى يئست تماماً وحتى قال لي في لحظة صفاء وهو ينفث دخان سيجارته: "أعلم أنني شخص يصعب العيش معي أحياناً". كنت لا أعرف ماذا أفعل، كلما فكرت بالعودة إلى بيت أبي كان الخوف على ابني يغتال تفكيري.. ثم لا ألبث أن يأتيني صوته مهدداً بأخذه.. بانتزاعه مني.. فتتداعى على ذهني المخاطر المحدقة به في هذا السن وأنا بعيدة عنه: إيذاؤه معنوياً وجسدياً، ضياعه،.. لم أكن لآمنه عليه.. حتى توصلت إلى أنه علي أن أصبر حتى يكبر سلمان شيئاً ما.. ليدافع عن نفسه.. حتى يستطيع أن يقول لا.. فوجدت نفسي أصمد وأواظب على توفير أسباب العيش والراحة في ذلك البيت وأروض نفسي على الصبر والحفاظ على الأجواء التي أريدها والذوق الذي يعجبني في كل شؤون الحياة، أنفقت على ذلك بلا حساب.. قمت بدقة بكل ما يخص الشؤون المنزلية ما ساعد على مرور أعوام عديدة.. كان سلمان كورقة جميلة الاخضرار كان طفلاً عذباً ذكياً يفهم من نظراتي ما أريد قوله، ابتسامته تنسيني همومي لكن من يعرف قيمته؟. ومضت قائلة: حين التحق سلمان بالمدرسة كانت أساليبه معه بدأت تأخذ منحى التوبيخ الشديد، المقاطعة عند الكلام، الحرمان المادي، الضرب أحياناً، نعم الضرب هذا الذي لا أغفره له أبداً!. توضح: كان يمسكه من كتفه يقربه من وجهه، يصرخ به ليسمعه كلمات ظل يرددها على مسامعنا كل يوم، كان يشتمه، يشتمنا جميعاً.. ثم يشتم كل خلق الله، لم أنس كلماته! كثيراً ما كانت كلماته تطن في أذني، تتقلب في عقلي.. الكلمات لا قيمة لها عنده.. لا قيمة لشيئٍ عنده.. يلمحه متجهاً لغرفته ليذاكر أو ينام يصرخ به: تعال إلى هنا يا غبي! ماذا فعلت اليوم بالمدرسة؟ وقد يصفعه صفعة يسري ألمها في خلايا جسدي، يتكرر هذا المشهد بين يوم وآخر.. وقد يأتي متوتراً غاضباً يريد أن يحطم شيئاً ما.. سلمان هو الضحية السهلة الميسرة.. كان صغيراً ضئيلاً أمامه. كانت تريد أن تقول كل شيء وبدت غاضبة متأملة، وقد زايلها ذلك المرح.. وتداعت عليها ذكريات قاسية نابية فقالت: كان عائداً من خارج المنزل غاضباً بلا سبب واضح كانت الأيام الأولى من رمضان، كنا صائمين، عندما انفجر به: تعال إلى هنا! كانت لحظات حادة قاسية مليئة بالعذاب حينما أغمض سلمان عينيه لتأتي الصفعة على خده بلا سبب.. ثم يلتفت الي ليكرر ذات التهديدات بلهجة أشد ضراوة نظرت إليه حينها باستغراب قائلة: "لا شيء في هذه الحياة يستحق أن تجشم نفسك هذا الغضب كله..!" حتى انتهيت بقولي له: "أتظن أن يستمر الحال على هذا المنوال؟." تساقطت من عيني ابني دموع صغيرة صامتة، أخذته من يده غسلت وجهه وأنا نهب عذاب لا يوصف والبيت معزول والنوافذ مغلقة على الصمت و الغبار.. خرج كعادته بعد كل هجوم ليعود هادئاً غامضاً.. ليعود يراودني التفكير بالعودة إلى بيت أبي لكن كالعادة خوفي على ابني يغتال تفكيري، أعرف انه لن يتوانى عن انتزاعه –الورقة التي لعب بها كثيراً – كنت لا أعرف ماذا أفعل؟ لم أكن أتصور أن في الحياة خيبة أمل بهذا الحجم!. كانت تستعيد مواقف بعينها وكأنها تقرأ نصاً مكتوباً كانت تتحدث بمرارة تعبر بلسانها ويديها.. تواصل حديثها: قلت لنفسي علي أن أصبر حتى ينهي دراسته الابتدائية والمتوسطة عندئذ لن يكون سهلاً انتزاعه والتحكم به.. إذ لم يعد طفلاً.. اتخذت قراري بمواصلة الصبر والتحمل، بذلت جهوداً مضاعفة لإحداث توازن لإخراجه من إحباطه كنت في كل مرة أقول له بحزم (دروسك واجباتك) كنت أتصرف بفطرتي وحدسي كأم أملأ رأسه بالأفكار الإيجابية أحاول أزرع ثقته بنفسه أمسح على رأسه قائلة: (لا عليك أنت رجل وهذا أبوك) لكن ما يكاد ينسى حتى ينفجر به من جديد قائلاً وهو يبتلع دخان سيجارته: (حرام النقود التي تصرفها عليك أمك)، فأحزن من جديد وأصمت وتضيع مني الكلمات. تتابع: لكني عدت لأستلهم الصبر وأقول لنفسي: "سلمان طفل في طور التنشئة يحتاج لأن يأكل ويذاكر ويلعب وينام بهدوء، يذهب الى المدرسة ويعود بانتظام بأمان، وعلي أن أصمد الى جانبه". حين زرت أهلي في نهاية الأسبوع وأثناء حديثي مع أمي كان سلمان يريها بقعاً بنفسجية اللون وآثار خدش في كتفه وضعت عليها كمادات من الثلج وهي تقول لي: (يكبر وينسى). قلت لها: لكن الذاكرة الأولى للطفل هي التي تبنى عليها شخصيته.. صمتت لحظة، ثم تابعت قائلة: أصبح العمل بالنسبة لي والمدرسة لسلمان هما المتنفس.. هما ميدان الحياة.. أسندت يدي على يد المقعد كنت في حالة إنصات.. امتلأت روحي بالخيبة شاغلني سؤال حاد "أب يعنف ابنه؟ من يحب من إذن؟!". قالت وهي تتنهد: لا أدري. وأطرقت أفكر "إذا كان من يعنفه أبوه صاحب الولاية...؟ "لكني آثرت الإنصات إليها حتى النهاية.. قلت لها: ماذا فعلت حيال ذلك؟ قالت: وقفت في وجهه مراراً.. واجهته بكل كلمة قالها جرحتني وكل لطمة على وجه ابني عذبتني وكل تصرف منه أدماني وكل كلمة (لا) رفعها في وجهي حتى ملأني اليأس من إصلاحه.، ثم قالت بتسليم: الآن انتهى كل شيء، لكني أتحدث لأرتاح.. المشاركة الإنسانية التي تخصيني بها كفيلة بزحزحة الحنق الجاثم في صدري، لعلها المرة الوحيدة التي أتحدث بها.. كان من الممكن أن أستمر في صمتي لولا أن التقيتك، ولأنك انسانة ولأنك صاحبة قلب، تتعاملين معي بشهامة كما عهدتك وتعطينني أذناً صاغية، تفهمينني بسهولة تحدثت إليك. قلت لها: هذا واجب انساني. واستطردت: هكذا ظل الحال حتى أتاني بشهادة الكفاءة المتوسطة كحلم بهيج، فأعددت حقائب الرحيل وحزمت أمري ومضيت به الى بيت أبي.. حينها ثار واتصل بأبي مطالباً بابنه، بل حاول انتزاعه لكن سلمان قد تجاوز الخامسة عشر من عمره فلم يعد طفلاً بل صبي نضج قبل أوانه. هكذا عدت به الى بيت أبي وقد كبر بعض الشيء.. عندما غادرت بابني لم أكن في حالة فرح، كان الفرح بعيداً عني، كنت في حالة ارتياح، لكني أحسست بيد أبي تربت على كتفي.. في بيت أبي قضى سلمان ثلاث سنوات يدرس المرحلة الثانوية، ثلاث سنوات بأيامها ولياليها تخللتها كثير من المشاحنات والمضايقات من جهة أبيه.. كان يريد استرجاعه رغم أنه لن يوفر له شيئاً من أسباب الحياة.. استمرت المضايقات التي قابلها سلمان بكثير من الهدوء فقد أصبح يستطيع قول (لا). للإقامة معه، هكذا حتى أنهى دراسته الثانوية ثم يسر الله أمره فذهب في بعثة دراسية إلى دولة أوروبية لمواصلة دراسته الجامعية.. عندئذ تنفست الصعداء ودعوت الله أن يعود قوياً واثقاً مسلحاً بالعلم.. وقطع حديثها رنين خاص من هاتفها النقال لترد بسرعة ابنها على الجانب الآخر - صوتها يشوبه أمل - "أنا بخير أنتظر عودتك" تركتها تتحدث معه ومضيت الى المطبخ.. حين عدت كانت تنهي المكالمة بقولها : "كن حذراً يا سلمان" ثم تلتفت إلي قائلة: لقد ضحيت من أجله، سأقرأ عليك رسالة الواتس أب التي أرسلها إلي منذ يومين وراحت تقرأ رسالته: (بالأمس و أنا بالحافلة في طريقي الى الجامعة كانت امرأة في الأربعينات تجلس في مقعد ليس ببعيد عني تشبهك في بعض ملامحها يا أماه.. نظرت إليها بعفوية ثم انصرفت مسحت عيني بكلتا يدي كطفل يغالبه النعاس تذكرتك كم أفتقدك يا أماه وسط متاعب الوحدة.. وأتذكر عندما كنت تلميذاً صغيراً كنت أرسمك وأخبئ أوراقي في الدرج عن أبي.. حين عدت من الجامعة الى مسكني صليت على سجادتك التي أصطحبها، مهما تعلمت ما من شيء جيد أعرفه الا أعزوه إليك.. كم أدين لك بكل شيء). أغلقت جهازها النقال، تنهدت وكأنها تستريح من الكلام.. ثم ختمت حديثها قائلة: هذا ما حدث لا أدري إن كنت أصبت أم ... قلت لها: الحزن لا يليق بك سيدة الصبر لقد ضحيت بعمرك من أجل ابنك لا تريدين بعد ذلك شيئاً .. "هيا" اشربي قهوتك الآن ...