مزدحمة جداً شوارع المدينة هذا المساء. سيول، تحت مطر خفيف يعكس أنوار البنايات البعيدة، من جهة الضفتين، على زفت الشارع، فتبدو موحشة رمادية. نهر هان كانغ، تجثم عليه ظلمة مبكرة، تزيد من ثقل الأجواء. دوك كيم، الستيني، يقود سيارته ببطء مأخوذاً بشجن بعيد. ثمة في الفضاء ما يكفي من الحزن لتذكر حكايا الحروب. كريستين يانغ، تفتح مظلتها عند عتبة"صالون التزيين"النسائي، المشعة أنواره في إحدى ضواحي منطقة"غانغنام"، وتحث الخطى باتجاه سيارتها برشاقة لافتة، مردها لهفة دافئة وحماسة دافقة وأداتها جسد منحوت لعرض الأزياء، كما هي أجساد الشباب الكوري، بغالبه. حبيبها سيحط في المطار بعد قليل. تعرفت اليه الشهر الماضي، من خلال صديق مشترك. حادثته مرة واحدة ثم أمضيا السهرة سوياً. أرسل لها رسالة الكترونية على هاتفها النقال المتطوّر منذ يومين. قال:"أغادر اليابان بعد ثمان واربعين ساعة. لديّ عطلة، اتصل بك من مطار إنشون، حالما اصل". حبيبها ياباني. هي كورية. ووالدها، الستيني، في تلك اللحظة التي كان يقود سيارته على جسر"هان كانغ"يفكر أنه حان وقت زواج الصبية كريستين، ويدوّر في باله الاحتمالات عن عريس كوري ملائم. آباء كوريا كالآباء العرب، يختارون أزواج بناتهم، بسهولة، وهم"يقطعون الجسر خفافاً". "ولدت بعد هزيمة اليابانيين بثلاثة أعوام. لكن الدم كان لا يزال ساخناً. في فقرنا وضيق الحال، ثم تقسيم البلد الى شطرين شمالي وجنوبي، والملايين التي ماتت وتشردت. ثم مجيء الأميركيين. الدم لم ينشف مرة. حكايات أبي وجدي كانت تفيض به. يرويان لي، على ضوء الشتاء الشحيح، كما الليلة، أخبار القتل في زمن الاحتلال الياباني الأول بين العامين 1910 و1945. خمسة وثلاثون عاماً من الاضطهاد والتعذيب. كيف أنسى؟ أسامح؟ ان اراد أحد أبنائي أن يصادق يابانياً لا أمانع. ولكن ان ذهب الحديث الى زواج، فمؤكد لا. أقول: بيننا دم". دوك كيم يقولها بحسم. ينعطف بالحسم نفسه عند نهاية الجسر، فيسمع صوت الفرامل تشدّ قبضتها على الزفت المبلل. " لا اريد أن أحفظ تلك التواريخ. نعم، أعرف الكثير من تلك الرسومات التي يحفظها أبي في درج مكتبه السندياني العتيق. تلك التي تظهر المقاتلين ضد الاحتلال الياباني في 1919، وصوره وهو شاب في طلعته الاولى، في نيسان ابريل من عام 1960، أيام تظاهرات الطلبة ضد الرئيس الكوري سونغ مان. أعرف أنه في جوف ذلك الدرج السندياني، جذور عتيقة لا يريد أن يقطعها. لكنها تواريخه هو، جذوره هو، وأنا، وجيلي، لدينا اليوم آراؤنا المختلفة". تفتح كريستين شاشة هاتفها. تضيء الشاشة تلقائياً. تضغط على زر. تتحرك الصور ويسمع صوت ضحكاتها المسجلة على الهاتف. لقطة من تلك الليلة. تقول بغبطة يمزجها فخر:"أنظر، انه وسيم. اليس كذلك؟". لا يعرف الأب الستيني عن علاقة ابنته بالشاب الياباني. لديه شكوك، لكنه يحاول أن يهرب منها. يشرد مرة أخرى. يذهب الى البعيد، الى قمة جبل بوكهان المطل على شمال المدينة، كشاهد أزلي على كل الحكايات. أسرار العسل هاني بارك. اسمها طريف. الأصدقاء العرب ترجموه فوراً الى"حديقة العسل". البعض ارتأى أن يكون"عسل الحديقة". هناك اجماع على ربط تلك الصبية، التي في نهاية عشريناتها، بالعسل. ضحكتها، عيناها حين تغوران لشدة الفرح من دون أن تختفي اللمعة أو يذوب الوهج عنهما، ذكاؤها وسرعة بديهتها التي تجعلك تظن أنها تفهم تماماً ألاعيب الكلمات في لغتك، والتي لا يقدر فعل الترجمة على اخفائها، ثم تتأكد من ذلك حين يأتي تعليقها على مستوى التبطين والايحاء ذاته. والأهم صدقها، وتلك الهشاشة الجميلة التي تبدو عليها حين تفرط في الشراب، ويعكسها ذلك الانكسار في طرف عينيها. مشروب الرز الساخن، يجعلها تزيح عن وعيها لبعض الوقت، وتبدو كشجرة محملة بالحكايات. حديقة عسل مغروسة في تربة الأسرار:"أنا لست كورية. أنا يابانية، لكني لا ارغب في أن أبوح بالأمر للجميع. زوجي يعرف أصولي الحقيقية. أحبني. لم يعترض. لكنه اشترط عليّ أن أخفي هويتي. يزعجني الأمر مرات، ومرات كثيرة لا أفكر به. أعمل دليلة سياحية حرة. أضطر، أحياناً، أن أشتم اليابانيين. أخجل من نفسي حين يأتي أولئك السياح، متأبطين دليل"لونلي بلانت"يسردون منه التاريخ غير المشرف لبلدي الأصلي. في تلك اللحظة، أشعر أنني كورية ولا اريد أي رابط باليابان". ثم تضحك. لا تقوى على سرد عبارة كاملة من دون ان تضحك. يستفيق فيها حس الفكاهة. تشد بأصابعها على طرف عينيها قائلة:"أنظر، شكلي أيضاً يساعدني. لا أحد يعرف أنني يابانية. كما أنني أفضل الكمشي أكلة كورية شعبية عبارة عن ملفوف متبل بالحر والبهارات على الطريقة الكورية وليس اليابانية". تحتضن كريستين حبيبها في المطار الذي شحت فيه حركة المسافرين في تلك الساعة المتأخرة بعد منتصف الليل. يفتح كيساً حمله من السوق الحرة. شاي ممزوج بنكهة"الجنسينغ"النادرة والغالية. تحب طعمها كثيراً، وهو لم ينس. تقول له، بعد فضّ العناق:"تعال، سأعرفك على صديقتي الكورية هاني. انها لطيفة جداً. ستحبها لا شك. تنتظرنا في السيارة".