لا تشبه القاهرة مدينة أخرى. 14 مليون نسمة يحيون في أحياء متداخلة ويتنفسون الغبار ودخان العوادم. ملحق "آفاق" فتح قبيل اندلاع الحرب الأفغانية ملف "أدب الرحلات" بعددٍ خاص عن أفغانستان. بعد رحلات نشرناها عن أفغانستان وكردستان واليابان وأميركا، هنا رحلة الى القاهرة. رحلة "مصر للطيران" رقم 725 لم تغادر بيروت مباشرة الى القاهرة كما كان مفترضاً. النقل الجوي متعثر منذ 11 أيلول سبتمبر. في مطار بيروت اندلع شجار بين ركاب وموظفين في شركة الطيران. الرحلة من بيروت الى القاهرة تستغرق ساعة واحدة. لكن كبير الموظفين يؤكد ان الطائرة ستنزل في عمان أولاً ثم تتابع طريقها الى القاهرة. يعني هذا ان الرحلة لن تنتهي قبل ثلاث ساعات. سبب النزول في عمان: التزود بركاب آخرين. أحد الركاب يهدد برفع دعوى على الشركة. عبر زجاج النوافذ الموصدة العالية لصالة الانتظار، يمكن رؤية مطر غزير يهطل منتظماً على دروب المطار المعبدة. أضواء الكهرباء البرتقالية الصفراء تضيء رذاذ المطر. الساعة التاسعة ليلاً. الأحد 25 كانون الثاني يناير 2002. حين حلقت الطائرة مغادرة مطار بيروت عند التاسعة والنصف ظهر نصف قمر أبيض تحت الجناح الأيسر ثم غاب. أحد الركاب كان يعطس مرة كل دقيقة. معظم الركاب من المصريين. الواحد يحس أنه خارج بيروت من قبل أن يغادرها. مطار عمان مبلل بالمطر. أضواء تلون برك الماء المتجمعة وسط المدرجات. أزرق وأبيض وأصفر وأخضر. صورة الملك عبدالله. طائرات تابعة للخطوط الجوية العراقية. سياج حديد يهتز في البعيد البعيد. تهبط الطائرة في مطار القاهرة القديم بعد الواحدة فجراً. "ادخلوا مصر آمنين". تاكسي من شركة "قصر النيل" يحملك الى فندق شبرد بأربعين جنيهاً أقل من عشرة دولارات أميركية. سائق التاكسي محمود أحمد سيد دليلك السياحي الأول في هذه البلاد. ثلاثيني طلق اللسان يشير الى كاتدرائية ضخمة يسار الجسر العريض ويخبرك انها أضخم كاتدرائية في الشرق الأوسط وأن الرئيس عبدالناصر أمر ببنائها قبل ان يروح. هذا جامع النور. هذا كوبري العباسية. هذا تمثال رمسيس. هنا بيوت الضباط. هذه فيلا الرئيس مبارك. انظرْ الحرس. هذه مدينة نصر، فيها تقام المعارض. يقود بسرعة. يجاوز السيارات عابراً شوارع الليل المضاءة بالكهرباء. "هناك برج القاهرة، من عجائب الدنيا، عبدالناصر بناه بمال الأميركان. الأميركان أعطوه مليون دولار رشوة ليبدل سياسته، وهو بنى بالمال هذا البرج لتراه كل طائرة أميركية عابرة في السماء". السائق يتكلم ناظراً الى المرآة من حين الى آخر. حين يظهر النيل، بعد منعطف، يشير بإصبعه: النيل. فندق شبرد يقابل فندق سميراميس. هذه منطقة فنادق تمتد بمحاذاة النيل. وفي الجانب الآخر، وراء النهر، تتعالى فنادق أخرى، بينها الشيراتون. مبنى سميراميس زهري اللون، مرتفع. من شرفة الغرقة 114 في فندق شبرد يمكن رؤية الناس الخارجين من الفندق المقابل، ويمكن رؤية قسم من الشارع، وقطعة من النيل، والكوبري المعلق فوقه. سيارات فيات وبيجو قديمة تعبر الشارع. ورائحة مازوت وغبار. قصر القاهرة في الصباح، من السابعة والنصف صباحاً الى العاشرة، بينما المحال تفتح أبوابها، والشوارع تزدحم بالبشر، يكتشف الغريب الآتي الى هذه المدينة كم هي قديمة. يكتشف ان القاهرة قصر عتيق لم يُنظف منذ قرون. المشي على أرصفتها يلطخ الحذاء بالأغبرة. كل شيء مغطى بالغبار. إذا قطفت ورقة من شجرة لطخ السواد أصابع يديك. الأرصفة وسخة، حيطان البنايات وسخة،الشوارع وسخة، السيارات وسخة، وحتى جذوع الأشجار الموزعة بين المباني يعلوها الغبار وطبقات دخان وتراب. كأنك تمشي في مدينة مستقبلية من مدن أدب الخيال العلمي. مدينة خارجة من كوارث لا تحصى. ولكن من دون ان تبلغها الحروب. كل حروب مصر تجري في الصحراء. هذا حظ القاهرة السعيد: أن تبقى أبنيتها القديمة شاهداً على تاريخ طويل وحضارات تتعاقب وأنمطة عيش ومعمار. مدينة قديمة كقصر في حكايات الأخوين غريم الخرافية. أتربة تتجمع على جانب الرصيف وفي مداخل الدكاكين. واجهات الزجاج كأنها غير شفافة. وحدها وكالة جديدة لتأجير السيارات في جوار سميراميس تبدو نظيفة بسجادها الأحمر وزجاجها المغسول. لكن بعد ثلاثة أيام هذه الوكالة أيضاً سوف تعتق. يصيبها ما يصيب هذه المدينة. لعنة الكثافة السكانية والغبار ودخان العوادم وقذارة التاريخ. في أيام تعبر سنوات. شفرة لورد صنع في مصر لا تحلق الذقن بسهولة. شعر الرأس يقسو تحت مياه فاترة. حساسية في الأنف والعينين. عيادات بلافتات لعلاج أمراض الرئة. وتلوث يغطي المدينة ببطانيته في ساعات الظهيرة. من قلعة صلاح الدين تبدو القاهرة ظهراً غارقة في غيمة عملاقة رمادية تضرب الى سواد. ميدان التحرير. شارع سليمان باشا. الجامعة الأميركية في القاهرة. مبنى المحاضرات مكتوب فوق قنطرة مدخله بالأخضر: 1927. وقبالته المجمع العلمي المصري تأسس سنة 1798. سيارات قديمة وباصات أقدم. كلها جمعت في مصر. على لوحات التسجيل أرقام وكلمة "نصر". باصات كوحوش من حديد مزودة محركات مرسيدس، تسرع في الشوارع، وتكاد تتسلق السيارات الصغيرة. زقاق يتفرع من شارع محاط بأبنية حجرية فيكتورية الطراز تعود الى أواخر القرن التاسع عشر. لا يأخذك الزقاق الى حدائق وراء الأبنية التي تشبه أبنية في لندن لولا ما يغطيها من قذارة، بل يأخذك الى عالم آخر: الى أمعاء المدينة، الى صور تشبه ما تثيره في الخيال كلمة الهند أو بومباي أو كلكوتا. مياه تجري في زقاق ترابي، وباعة عن الجانبين، ونساء على الأرض، وأقفاص خيزران تعج بالأرانب والحمام والدجاج، وأكياس نايلون زرقاء اللون منتفخة بمكعبات جبن بلدي، أو ببيض دجاج. فتاة ترفع قفص خيزران كومت فيه أرغفة العيش. ورجال أمن في البذلة السوداء بالربطة الزرقاء حول الزند والخط الأحمر العريض الذي يزين قبة القبعة السوداء، يقفون أمام محل صفت على طاولة أمامه صدور "الكشري" و"الطعمية" ورقاقات البطاطس المقلية والمخللات. بونابرت قصف أبا الهول بالمدافع ولم ينل إلا من أرنبة أنفه. "مدرسة قصر الدوبارة التجريبية لغات". مدرسة ببوابة حديد سوداء، وعلى البوابة سلسلة وقفل يمنع هروب التلاميذ من القصر الفيكتوري المتداعي المغطى بالسخام والغبار. نوافد مخلعة وثقوب في بوابة الحديد. عبر ثقب يمكن رؤية الباحة الملعب أمام القصر المدرسة. وسط الباحة شجرة تجوف جذعها وتدلت أغصانها مثقلة بورق مترب. على الشجرة لافتة كرتون مكتوب عليها: "لا تؤجل عمل اليوم الى غد وذاكر كل يوم بيومه". هذا هو الانطباع الأعمق الذي تخلفه في السائح ساعاته الأولى في القاهرة. خصوصاً قاهرة النهار والضوء الطبيعي. لكن كل شناعة في المدينة يغطيها الليل ويغفرها ضوء الكهرباء. ابراهيم أصلان يقول ان على الواحد تقدير الأشياء القديمة. جابر عصفور يقول ان هذا انطباع أول وحسب عند القادمين الى القاهرة: انها قذرة. لكن هذه المدينة كالغول. تحتاج الى الوقت كي تفهمها. في الليل تتبدل. قاهرة الليل غير قاهرة النهار. حتى برج القاهرة، هذا البرج الهائل المصنوع من اسمنت بشع متقاطع، يتحول ليلاً الى برج أبيض وأسود يلقي ظلالاً شفافة على صفحة النيل المتوهجة بانعكاسات الأنوار تماماً كما في لوحة فان غوخ. برج بمطعم دوار في أعلاه. دليلك الى ضخامته انه مزود ستة مصاعد. والبعض ينتحر من شرفته أحياناً. النيل العريض يجري وئيداً بين الفنادق. كأنه لا يجري. الشيراتون والهيلتون وسميراميس. ابراهيم اصلان يتذكر سميراميس القديم بأعمدة الرخام والباحة الفسيحة. هدموه أواخر السبعينات. الفتاة التي تغني أمام مكبر الصوت وحيدة في المطعم أسفل فندق شبرد تصفق مع كلمات الأغاني. فيروز حيناً. ويتني هيوستن حيناً آخر. لا أحد يسمعها إلا عازف بيانو الكتريك يقف خلفها. في الزاوية رجل أنيق الهندام أمامه صحن سلطة نيسواز وصحن زيتون أسود. قربه نافذة قديمة تطل على الكوبري وعلى النيل وعلى أضواء برج القاهرة. أسس هذا الفندق قبل 150 سنة. عند افتتاح قناة السويس عام 1869 استقبل شخصيات عالمية آتية من أوروبا. تبدل موقعه عبر السنين. بعد حريق القاهرة عام 1952 أعادت "الشركة المصرية المحدودة للفنادق" بناء شبرد في هذا الموقع المشرف على النيل. نجيب محفوظ يأتي الى هنا كل أحد. هذا الفندق استقبل في مناسبات منسية الملك فؤاد، وتيودور روزفلت، ونحاس باشا، وسعد زغلول. لكن النوم فيه صعب. ضجة الشارع تزعج. الأسرّة القديمة أيضاً. وصخب سائقي سيارات التاكسي عند مدخله. ابن بطوطة عبر القاهرة سنة 1325 ميلادية. كتب: "أم البلاد... تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم على سعة مكانها وإمكانها... ولها خصوصية النيل... فيها ثلاثون ألف مكار، وبنيلها من المراكب ستة وثلاثون ألفاً...". تخرج من شبرد وتقطع الشارع بعد جهد لأن السيارات لا تتوقف لأحد. تقف على الرصيف ولا تضع يدك على درابزين الحديد وتنظر الى النيل تحتك. بحارة في عباءات صعيدية يشعلون ناراً ويستدفئون ويصنعون شاياً. صفوف العشاق على الرصيف على الكورنيش وعلى الكوبري. أزواج لا تحصى. تمشي وأعدادهم تتكرر كأنك تمشي في مكانك. هذا كورنيش المنارة في بيروت مضاعفاً ألف مرة. كل هذا الحب في هذه المدينة الملوثة نهاراً. تحصي سبعين شاباً مع سبعين شابة ثم تضجر. عوامات ومراكب تضج بالأضواء والموسيقى والأغاني المصرية. أسماء غريبة للمراكب: الهرم، سيدي عبدالرحيم، ماجدة، زغلول، نزهة، أم علي... "قصر الباشا" مطعم عائم على النيل. تزين القاعة في بطنه مرايا قديمة وألواح خشب بنية - حمراء. كأنك في جوف سفينة. نوافذه منخفضة تطل على مياه وغربان ولسان تراب وسط النهر. غربان مصر ليست غربان اليابان أو أميركا. غربان مصر تشبه الغربان والحمام في آنٍ معاً. لونها أبيض وأسود وليست كبيرة. مرايا "قصر الباشا" مبقعة. على المقاعد، أعلى ظهورها، قضبان رفيعة بلون الذهب. على طاولة مجاورة وفد فرنسي يفاوض وفداً مصرياً. مترجمون يتكلمون بسرعة. أحياناً يتبادل الوفدان الحديث مباشرة: بالانكليزية! أينما توجهت رأيت رجال أمن أو شرطة مرور، خصوصاً في مناطق السفارات. بعد انعطافتين الى اليمين اثر خروجك من شبرد ترى السفارة الأميركية. إذا جاوزتها بلغت السفارة البريطانية، شوارع لا تزدحم بالسيارات وأشجارها كثيفة الأوراق. لكن الغبار ذاته يغطي كل الألوان. تدخل في شارع يعج بسيارات مركونة. الى يسارك بناية صفراء قديمة لافتة: أكبر مركز أشعة في مصر في أعلاها تماثيل حجر منحوتة تمثل أطفالاً. الدور الثاني من البناية رقم 8 يضم مكتب صحيفة "الحياة". الأبنية الفيكتورية الطراز تنتشر في "جاردن سيتي". كوبري قصر النيل تعبره من حين الى آخر سيارات فخمة: مرسيدس أو رانج روفر أو حتى: بورش. أمام "المجلس الأعلى للثقافة" شجرة غريبة. جذعها وغصونها يذكران بشجرة الورد. شجرة كبيرة بفروع تذهب في الفضاء لكنها مملوءة شوكاً أو ما يشبه أهرام شوك ناتئة من خشبها. السماء زرقاء. غيوم بيضاء وردية تسبح فوق مبنى الأوبرا الجديد. يحل المساء وتشتعل أنوار الكهرباء. كل المشهد يتبدل. القاهرة تصير مدينة أخرى. لا يعود الواحد يرى الوسخ الذي يغطي لافتات المحال التجارية. لا يرى الرمل وما يشبه الشحم الذي يغطي الشوارع. في الشارع الضيق القريب، بين ملعب النادي الأهلي والمستشفى الطبي الرياضي الوحيد من نوعه في مصر، يبدو الرمل وكأنه قد تلاشى بغياب نور الشمس. في ميدان التحرير ينتشر عناصر من شرطة المرور بقطع من الجلد الأبيض تزنر أسفل الساق. وجوه داكنة وابتسامات. "نادي القصة" لافتة يغطيها الغبار والتراب وزيت لا تدري كيف يصنع في فضاء هذه المدينة. مدخل لمبنى ضخم. وتحت اللافتة أخرى تخص عيادة الدكتور النفسي كذا... روائح الطعام تخرج من الدكاكين المفتوحة على الشارع. رجال يزدحمون في مداخل المطاعم. الزيت يلمع على الأصابع والأفواه. معرض الكتاب صباح الثلثاء هناك زحمة أمام أبواب "معرض القاهرة الدولي للكتاب" في مدينة نصر. تذكرة الدخول بنصف جنيه. صفوف وحراس وبوابات حديد بيضاء ضيقة تفضي الى مساحات فسيحة تتوزعها خيم وهنغارات وأبنية وقاعات. السيارات تعبر بطيئة بين الناس، تحمل كتباً أو ضيوفاً. هذا ليس معرض بيروت للكتاب. ليس معرضاً يقام في قاعة بل هو أشبه بمتاهة، سوق متشعبة. بازار. هذه السنة جعلوا المطاعم في ناحية منه. قبل ذلك كنت تشم روائح الطعام أينما مشيت بين أجنحة الكتب. دور النشر اللبنانية والسورية والأردنية يجتمع بعضها في الجناح ألمانيا -ب. هنغار أزرق اللون يبدو خالياً من الكتب. البضاعة الآتية من المشرق، عبر ميناء دمياط، لم تدخل مصر. الجمارك وضعت يدها على حمولة السفن. السبب الظاهر: رفع قيمة الضريبة على الكرتونة الواحدة من 35 جنيهاً الى 275 جنيهاً. لكن ناشرين متضررين يؤكدون ان المسألة ليست بريئة وليست امتناعاً من قبلهم عن الدفع. فالناشر المصري وحده يربح الآن. سبب آخر لمنع دخول الكتب: بينها كتب ومجلات اباحية! الناشرون المتضررون يؤكدون كذب هذه الاشاعات. الأزهر اطلع على لوائح قبل شهر. وكل ما يحدث الآن غير قانوني. حكاية أخرى قد تشرح الغامض: ناقل البضاعة من المشرق الى مصر مديون للجمارك. الجمارك في دمياط رفعت الضريبة على بضاعته عقاباً له! من يعرف الحقيقة؟ والنتيجة: خسارة للناشرين الشوام، وخسارة لمعرض القاهرة. لقاء نجيب محفوظ مساء الثلثاء رحلة الى "فرح بوت"، المركب حيث يقضي نجيب محفوظ سهرة كل ثلثاء مع بعض أصحابه. على الطريق يتململ يوسف القعيد وراء مقود الفيات الخضراء القديمة ويشير الى الأبنية. هناك، الى اليمين، قصر محمد علي، تحول فندقاً، وفيه قضى أيامه الأخيرة سجيناً. سجنه أولاده وزرع حدائق القصر بأنواع صبار لا يوجد مثلها في مكان آخر على وجه الأرض. قبالته، هنا، مستشفيات قصر العيني، ومستشفى السرطان. أبناء الأقاليم يأتون الى هنا لينهوا المآسي. أمل دنقل مات هنا، يقول ابراهيم أصلان بعد 24 ساعة، عند العبور أمام هذا المستشفى نفسه. بعد كوبري الجامعة سفارة اسرائيل. أخذوا الطابقين العلويين من مبنى محروس. في النهار يطل العلم الإسرائيلي على تمثال نهضة مصر في الخلف، حيث مدخل الجامعة. مدخل الجامعة المصرية، بالقبة الشهيرة. شارع طويل بين حديقتين: حديقة الأورمان ملقى العشاق، وحديقة الحيوان. نذهب في "العجوزة" حتى نبلغ مستشفى الشرطة. هناك بيت نجيب محفوظ. الطابق الأرضي من بناية عادية. ميزة البيت نبات كثيف يطل من نوافذه وشرفته. زوجة محفوظ التي تصغره بعشرين عاماً مولعة بالنبات. يعيشان في بيت عادي. بعد نوبل تكفلت الخادمة بري الزرع. لولا قرب المستشفى من بيته كان محفوظ مات في ذلك اليوم من 1994 حين تلقى طعنة سكين في عنقه على الرصيف. حين نبلغ "فرح بوت" نعرف ان الرجل وصل من سيارة الشرطة حراسته. المركب أخضر من الداخل. مقاعد خضر وكنبات خضر. خشب أخضر وقماش أخضر. النوافذ تطل على مركب آخر. "فرح بوت" يتهادى مع الموج. ذلك الصباح ضرب زلزال خفيف المدينة. جمال الغيطاني وزكي سالم يحيطان بمحفوظ على كنبة طويلة. وعلى كنبة أخرى، يجلس عبدالرحمن الأبنودي وموظف كبير بشعر أبيض يظل صامتاً طوال الجلسة ويذكر بسعيد عقل. يوسف القعيد على كنبة صغيرة، ورجل آخر في بذلة وربطة عنق على كنبة مقابلة. في الوسط، بين الكنبات التي تصنع أضلاع المستطيل، طاولة عليها صحون ترمس وأكواب عصير. الصالون في جوف المركب هادئ. يتكلمون ويضحكون. جمال الغيطاني يرفع صوته متكلماً في الأذن اليسرى لمحفوظ الذي أكمل عامه التسعين قبل شهر. السماعة في أذنه لا تكفي. من ثبات رأسه يظهر انه بات عاجزاً عن الرؤية. عيناه غائبتان خلف نظارة بإطار عظم أسود. ذقنه خفيفة مشذبة. شعره قليل أبيض ضارب الى البنفسجي، مصفف الى خلف. بذلته كحلية بخطوط مقلمة عمودية لونها بني ضارب الى النبيذي. جوارب سوداء وحذاء أسود. ارتجفت يده حين رفعها للمصافحة. أصابعه قوية لا تزال. حين يضحك تظهر أسنانه الباقية. يلقي رأسه الى خلف ويضحك مستديراً بجذعه بعض الشيء. تلك الضحكة المقهقة الشهيرة يرقص لها القلب. زكي سالم يخرج له سيجارة بيضاء من علبة Kent. يرفع محفوظ يده المرتجفة ويتلقى السيجارة ويسحبها الى شفتيه. سالم يشعل كبريتة. نور أصفر وهاج. محفوظ يقترب برأسه من الشعلة. لا يسند ظهره في جلسته. يداه بين ركبتيه المضمومتين. يسأل عن الأخبار وما يجري في مصر والعالم. يخبرونه عن عمرو موسى والعراق وبن لادن والملا عمر يقال لا يزال حياً. الغيطاني يحكي عن الناشرين الشوام وما يحدث في المعرض ويقترح سوقاً حرة للكتاب. الأبنودي الصاخب يلقي النكات. زكي سالم، في يده آلة تسجيل، يتكلم. القعيد يذهب ويجلب كوباً من الشاي. يقول انه مصاب بالبرد. الغيطاني يخبر محفوظ بما قاله القعيد. محفوظ يقول ان البرد أصاب الكل. في الطريق الى شبرد تبدو القاهرة مشتعلة بالأضواء. بعد ساعات، في سيارة ابراهيم اصلان الفولسفاكن السوداء موديل 1958 التي يملكها منذ 20 سنة، يقول أحدهم ان محفوظ يخرج من بيته كل يوم، وكل يوم الى مكان محدد. الأحد الى شبرد مثلاً. الثلثاء الى "فرح بوت". لا يريد البقاء في البيت. في احدى زوايا مقهى الجوريون، قرب شلال اصطناعي صغير، جلس ابراهيم منصور أحد مؤسسي مجلة جاليري 68 بلحيته البيضاء وسحنته الهندية وعصاه. بدا ارستقراطياً أنيقاً آتياً من عالم آخر ومن عصر آخر. كان الأكبر سناً بين الحاضرين. بوصول أصلان ازدحمت الطاولة بعارفيه. كانوا يتدفقون. أحاديث وضحكات وسخرية. خبز محمص وصحن جبن وبندورة وخيار وخس. أصلان أخذ نصف ليمونة حامضة وعصرها على الخضر. بدا في ربيع العمر. ليس هذا رجلاً قارب الخامسة والستين. القاهرة القديمة صباح الأربعاء، من المقعد الخلفي للفولسفاكن السوداء، كان سعيد الكفراوي يتكلم مشيراً الى معالم الطريق. كانت السيارة تتجه نحو جبل المقطم. أشار بأصبعه الى البيوت أعلى الجبل وقال: "هناك مدينة المقطم، مدينة كاملة فوق الجبل، فيها مليون نسمة". مساحات خلاء ثم أطلت قناطر رومانية. هذه هي القاهرة القديمة. أهل البلد يسمونها "قاهرة عتيقة". هذا مجرى العيون. فوق هذه القناطر قناة ماء. الإبل كانت ترفع الماء من النيل الى القناة والقناة كانت تأخذ الماء من هنا الى القلعة. أميال وأميال وأميال. الآن يرممون المجرى. هناك مشروع كامل يقضي بنقل كل الناس الذين يقيمون هنا الى مجمعات ومساكن شعبية. تنعطف السيارة الى اليمين فتنكشف أحياء شعبية فقيرة. عربات خضر ومياه تجري في الدرب وأطفال يركضون. دجاج وهتافات وماعز. وسخ وحمير وبيوت متداعية وعتبات مكسورة. نبلغ المنطقة السياحية. منطقة الكنائس القبطية. لا سياح في مصر منذ 11 أيلول. القطاع السياحي شبه مشلول. تهبط درجاً في شارع. تحسب الدرج يفضي الى قبو أو عين ماء. لكنك تلتفت فترى أمامك شارعاً يمتد بين حائطي طوب. ترى شارعاً تتفرع منه شوارع، ترى مدينة كاملة تحت مستوى الأرض. بيوت وكنائس وأزقة وأبواب خشب عتيقة ونقوش وناس يسكنون بين الآثار. قلعة صلاح الدين تتوج القاهرة القديمة. قببها الفضية تلمع تحت سماء زرقاء. طيور الحمام تطير من القلعة وتحوم فوق جامع السلطان حسن. من عجائب العمارة الإسلامية هذا الجامع. ارتفاع قبته يزيد على 47 متراً. حيطان من الغرانيت الصلب كالفولاذ. حجارة من الأهرام انزلت في هذه القبب. جامع كالقلعة، يتشعب في الداخل مثل متاهة، بممرات وغرف وصحون وردهات. بناه السلطان حسن وكان لا يزال في الواحدة والعشرين. تبلغ صحناً مربعاً في نهاية احدى الممرات، صحن بمساحة غرفة صغيرة، وترفع رأسك: الحيطان الغرانيت ترتفع نحو خمسين متراً، وفي الأعلى: السماء. لا سقف هنا، فقط الغيوم البيضاء. تقف وسط الجامع، وتنظر الى بوابة خشب عملاقة محفورة، ولا تسمع لمدينة القاهرة صوتاً. أنت الآن خارج العالم. خان الخليلي بعد زيارة دار الكتب المصرية، تحملنا سيارة صلاح فضل الى خان الخليلي. نقف أمام الأزهر بمآذنه البديعة. حمام وسماء زرقاء. نهبط درجاً الى نفق المشاة كي نعبر تحت الطريق. نفق دائري كقسطل يبعث قشعريرة. على الدرج علقت ورقة مكتوب عليها ان الولد عماد عبدالرحيم خرج من البيت ولم يرجع والرجاء ممن يعرف عنه شيئاً الاتصال على الرقم كذا... وعلى الورقة صورة الولد. في خان الخليلي، في قاهرة المعز، القاهرة الفاطمية، كان ابراهيم أصلان يتأنى أمام دكاكين أو أمام قناطر، ويقول كلمة أو يشير بأصبعه. المرايا البيضاوية المعلقة على حيطان مقهى الفيشاوي مؤطرة بخشب أحمر - بني مجدول قديم. زحمة خفيفة في الأزقة. لو كان الموسم على ما يرام لكان استحال العبور هنا من تدافع السياح. محلات فضة وتماثيل فرعونية ومقاعد لتدخين الأرجيلة وشرب الشاي. هذه ليست رسوم ادوارد لين. ليست لوحات أوروبية. هذه القاهرة. هنا والآن. في "مقهى نجيب محفوظ" جلست حفنة زبائن تشرب الشاي. المطعم كان خالياً. لا يدخل هذه المطاعم إلا السياح. على قائمة الطعام هنا، في خانة الحلويات، تجد الأطباق الآتية: أرز باللبن قصر الشوق يقدم مع المكسرات والزبيب أو القرفة، مهلبية السكرية تقدم مع المكسرات والزبيب أو القرفة، أم علي الحرافيش رقائق الألف ورقة بالزبد والمكسرات والكريمة، عاشوراء الحسين القمح المنفوش مع الحليب بالمكسرات والعسل، طاجن بين القصرين فاكهة الموسم مع كريمة الحلواني، سلاطة أولاد حارتنا شرائح من فاكهة الموسم الطازجة مغطاة بالكريمة، كريم كراميل ميرامار كريمة الحليب بالبيض والكاراميل. كتب ابن خلدون المتوفى سنة 1406 ميلادية: "... ان الذي يتخيله الإنسان فإنما يراه من دون الصورة التي تخيلها، لاتساع الخيال عن كل محسوس، إلا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتخيل فيها..." "التعريف بابن خلدون في رحلته شرقاً وغرباً". وجد ابن خلدون القاهرة أوسع من الخيال. ابن بطوطة أخافه تلاطم موج سكانها. العابر في القاهرة اليوم تنتابه هذه الأحاسيس مضاعفة. وحين ترتفع الطائرة مغادرة المدينة تظهر القاهرة في الأسفل بحراً من بيوت وشوارع وناس وسيارات... كأنها منام أو كابوس. * كاتب لبناني من أسرة "الحياة".