في المعبر الحدودي بين الاردن واسرائيل، وضمن اجراءات عادية، ينزلك سائق التاكسي عند نقطة الجمارك لتنتقل عبرها مع حقائبك الى الطرف الآخر، ثم لشباك دفع رسوم المغادرة. من هناك تدلف الى المخرج، حيث موقف الباص الذي سيعبر بك الجسر والنهر، عائداً الى ارض الوطن المصاب بانفصام مزمن في الشخصية. في المحطة المظللة الى جانب ال"ديوتي فري"، او السوق الحرة، جلس نفر من المسافرين العائدين لتوهم من الاردن ينتظرون هم ايضاً قدوم الباص لعبور النهر غرباً. تنتحي جانباً في احد المقاعد وتحاول في دقائق الانتظار ان تتفكر في امر هؤلاء الذين ينتمون الى شعوب مختلفة، او هكذا على الاقل تعرفهم بحسب التسميات التي تسبغ عليهم في وسائل الاعلام العربية او على ألسنة العامة. فمنهم من هو من "عرب اسرائيل"، ومنهم من هو من "عرب ال48"، ومنهم من هو من "العرب اليهود"، ومنهم من كان من "فلسطينيي الداخل" حتى جاءت اتفاقات اوسلو فتمت مصادرة هذه التسمية وانتقلت الى رعايا الرئىس ياسر عرفات الذي تبدو هذه التسمية اكثر ملاءمة له في هذه الايام. تجلس هناك وتتأمل وجوههم، وتستمع بين الفينة والاخرى الى احاديث هؤلاء النفر ولغتهم التي صارت هي الاخرى خليطاً كتسمياتهم. حتى الآن لم تغلب على هؤلاء تسمية واحدة او لغة واحدة يستطيعون الالتفاف حولها. فلا وسائل الاعلام العربية ولا الغربية تساعدهم على الخروج من هذا الجسر الممتد بين النار والنار في هذا الغور المغبر. ليس هنا فحسب، بل حتى في اوروبا، على سبيل المثال، لا يعرف أحد تصنيف هؤلاء البشر. فإذا كنت تحمل جوازاً اسرائيلياً ظنوك يهودياً، واذا قلت انك عربي وفلسطيني ظنوك من مناطق السلطة لان الفلسطينين في نظرهم هم اما من غزة او رام الله او نابلس، وما العمل وانت ولدت في وطنك الذي صار اسمه اسرائيل باعتراف "ام الدنيا" مصر، والاردن، ناهيك عن منظمة التحرير الفلسطينية في اوسلو. الباص الذي اقلك قبل يومين من الجانب الاسرائيلي الى الجانب الاردني كان مليئاً رجالاً ونساء واطفالاً، حتى ان البعض وقف في الممر بين المقاعد. سائق الباص الاردني لم يشأ التحرك لأن التعليمات تقضي بأن يجلس كل في مقعد، وما على الواقفين الا النزول بانتظار الباص التالي. ما طلب السائق بلطف من الواقفين النزول، غير انهم حاولوا اقناعه بأن "يالله، كلها مئتين متر، ومشّيها"، واصروا على البقاء. جرت مشادة كلامية بينهم وبين السائق. وبعد ان يئس من اقناعهم اطلق في وجوههم: سأحضر اليكم "ناس من جماعتكم" يعرفون كيف يتفاهمون معكم. رجع الى الوراء ونزل من الباص، وما انقضت دقيقة حتى جاءت "من جماعتنا" شرطية اسرائيلية يافعة لم تبلغ بعد العشرين من العمر، صعدت الى الباص وقالت جملة واحدة بالعبرية: كل من يقف في الممرات عليه مغادرة الباص. فما كان من هؤلاء الرجال، الذي حاولوا من قبل ان يكونوا اشاوس في مجادلة السائق بالعربية، الا ان هبطوا يجرون ذيولهم بين ارجلهم من دون ان ينبسوا بحرف. أنت جالس في مقعدك تتفكر في هذا المشهد وفي امر هؤلاء ولا تدري ما انت فاعل، هل تضحك ام تبكي؟ تحاول ان تفهم ما جرى في هذا الباص وتتساءل في قرارة نفسك: هل نحن شعب لا يعترف بنظام بسيط يسهل التعامل والتنقل براحة، وفقط يذعن لسلطة عسكرية، وان جاءت هذه السلطة من صبية نحيفة يافعة، وفقط بشرط ان لا تكون عربية؟ تتفكر في امرهم، امرك، ولا تحير جواباً. في الجانب الاسرائيلي من المعبر الحدودي موقف للسيارات، يستطيع المسافر الى المملكة الاردنية ان يترك سيارته في المكان لقاء رسوم معينة يدفعها عند عودته. الموقف كان مليئاً بالسيارات ما يدل الى عدد المغادرين الى الاردن الذين ابقوا سياراتهم هنا، ناهيك عمن فضلوا الانتقال بسياراتهم عبر النهر. يبدو ان شيئاً ما حدث لدى هؤلاء جميعاً، فبعد معاهدة السلام الاسرائيلية الاردنية عزف هؤلاء المتعددو التسميات عن زيارة مصر وانتقلوا الى زيارة الاردن لاسباب كثيرة، منها القرب الجغرافي والعائلي واللغوي. غير ان السبب الاهم كما سمعت غير مرة هو الجانب الترفيهي، اذ ان غالبية هؤلاء يذهبون للحفلات الغنائية، وعلى وجه الخصوص السورية واللبنانية، اي الشامية على العموم، لان اهواء هؤلاء وطباعهم شامية عابرة لحدود سايكس بيكو. الطريق الى الاردن لمن يحمل الجواز الاسرائيلي تمر في نقطتي عبور، واحدة هنا في جسر الشيخ حسن الواقع شرقي بيسان، والثانية من ايلات بإزاء العقبة. ولانني اسكن القدس منذ ثلاثة عقود، منذ ان اتيت اليها من املغار في الجليل الاسفل المطل على بحيرة طبرية، كان عليّ ان اختار بين حرّين، حرّ وادي عربة، او حرّ غور الاردن، للانتقال بين هواءين منعشين، هواء القدس وهواء عمان. في النهاية قلت اصيب عصفورين بحجر، امر اولاً لأسلم على الاهل في المغار فهي ليست بعيدة كثيراً من الجسر، ثم "اشد الرحال"، كما تقول لغتنا العريقة، ميمماً نحو الاردن. وها انت الآن في نقطة العبور في طريق عودتك من زيارة خاطفة لعمّان. الشرطي الاردني اللطيف والبشوش في الجمارك يريد الاستفسار منك عن مسألة واحدة فقط. يتوجه اليك باسماً بالسؤال ان كنت تعرف اللغة العبرية، فتجيبه بالايجاب، فيسألك: كيف يقولون "بدو" بالعبرية؟ تفكر هنيهة في امر هذا الشرطي وفي سؤاله الغريب، وتحاول ان تفهم في قرارة نفسك ماذا يرمي من ورائه. هل يريد الشرطي تعلم العبرية منك ومن امثالك بالمجان؟ او ربما يسألك ليخفف عن نفسه متاعب الخدمة في هذا المعبر الممل ككل المعابر الحدودية ربما؟ ام ان سؤاله هذا هو فقط مجرد فذلكات امنية شفافة، يحاول من خلالها ان يمتحنك فيتعرف ان كنت عابراً عادياً عائداً الى وطنه، ام انك عابر غير عادي الى مكان ما متخيل لم يعد موجوداً في الواقع عبر النهر. وهذا شيء آخر قد تكون له تبعات وابعاد سياسية، وقد يثير قضايا امنية لا نهاية لها. غير انك تتذكر ان الطريق الواصلة بين الجسر في الغور حتى الوصول الى مرتفعات السلط مليئة بالحواجز العسكرية التي تستوقف السيارات بين الفينة والاخرى للتأكد من ركابها وسائقيها. هذه الافكار تشغل بالك في لحظة قصيرة، ربما ثانية خاطفة، وانت تخطو خطواتك الاخيرة في معبر الشيخ حسين عائداً من المملكة الاردنية، في حر هذا الغور المعهود في شهر آب أغسطس، الى وطنك الذي صار اسمه "دولة الكيان"، او "دولة العصابات"، كما اعتادت اجهزة الاعلام العربية خلال عقود وسمها، اذ ان ذكر كلمه اسرائيل قد يشكل اعترافاً بوجودها، فكيف يصح ذلك وهي غير موجودة في الواقع منذ اكثر من خمسة عقود. عمان مدينة جميلة البناء، واسعة الشوارع نظيفتها. البناء يعلو تلالها ويهبط وهادها مستعمراً الصحراء المحدقة ويبدو انه ليس ببعيد العهد، وهو شاهد على حركة عمرانية كانت حدثت في العقدين الاخيرين. ليس البناء شاهقاً فيسد عليك منافذ الريح والشوارع ضيقة فتضيق عليك المركبات التي تعج بها انفاسك في حر آب اللهاب. ولحسن حظي وصلتها في يومين اعتدل فيهما الطقس حتى ان برودة ما، تذكرك ببرودة جبال القدس، تتسلل الى عظامك. لكنك سرعان ما تكتشف بعد عودتك الى الوطن انها قشعريرة اخرى من النوع الذي لا تقرأ عنه عادة باللغة العربية التي اعتمدت المقاومة مهنة ابدية لها. انها المرة الثانية التي ازور فيها بلداً عربياً. في الثمانينات كنت زرت مصر مرتين وعرجت مرتين على اسوان والاقصر راكباً القطار الليلي من القاهرة متجهاً نحو صعيد مصر. تلك السفرة من الثمانينات كانت لي الاطلالة البكر على العالم العربي، فنحن كما يعلم ذوو القربى كنا مقطوعين ممنوعين، ولا نزال حتى الآن، من دخول كثير من البلاد العربية لاننا بقينا في وطننا، او على الاصح اهلنا من قبلنا هم الذين بقوا في وطنهم قبل ان نولد ولم يغادروه، اما عنوة، واما طوعاً بانتظار النصر القريب زحفاً "على تلال الجليل وكثبان النقب... في غد مشرق عزيز"، كما رسخت في ذهنك وذاكرتك بلاغة العرب ومبالغاتهم المرقمة. لقد بقوا في الوطن لحسن حظهم وحظنا اجمعين، فوفروا على انفسهم وعلينا مشقات الزحف في هذه العقود المنصرمة، كي لا نتحول مع مرور الزمن واستطالة الزحف الى زواحف بليغة. القطار الليلي الذي يخرج من القاهرة مساء يشق طريقه عكس جريان النيل ليصل الى مدينة الاقصر في الصباح التالي. وما ان تطأ رجلاك أرض المحطة في الاقصر حتى ينهال عليك الصبيان من كل اتجاه، هذا يريد سحب حقائبك، وذاك يريد تزويدك ببطاقة فندق، وآخر يريد ان تشتري منه شيئاً. غير ان شيئاً ما غريباً لفت انتباهك في تلك السفرة. هؤلاء الصبية يتوجهون اليك بتحية: "شالون" وهم يقصدون "شالوم"، اي سلام. كيف يحدث مثل هذا، وانت تتحدث اليهم بالعربية، كما ان سحنتك السمراء لا تبدو اوروبية بأي حال؟ تحاول ان تفهم من اين لهم ذلك، وفقط بعد سنوات من التفكر ورحلتك الثانية الى تلك الاصقاع تصل ربما الى جواب شاف. في تلك السنوات لم تشاهد سياحاً من البلاد العربية في تلك الاماكن الاثرية. السياحة العربية تفضل كباريهات القاهرة، ولا شأن لها بالتاريخ والآثار. السياح هنا في الاقصر كانوا كلهم من الاجانب، والوحيدون الذين قدموا الى هناك وتحدثوا بعض العربية بلهجة غير مصرية جاؤوا من اسرائيل بعد اتفاق السلام. هكذا فهمت ان حديثي بالعربية بلهجة فلسطينية، اي شامية، هو السبب في توجه هؤلاء الصبية الي بتحية "شالون". مرت تلك السنوات وانقضت، وارتسم بعض مما جرى فيها في الذاكرة. وهكذا، وبعد عقدين من الزمن ينقلب ال"شالون" هناك الى "شارون" هنا في الوطن، وهذا ال"شارون" هو نقيض ال"شالون" ذاك. كل هذه الهواجس تهجس بك وانت تعبر الجسر، تركب سيارات الاجرة لتنتقل من مكان الى آخر في عمان وتحاول الحديث الى السائقين. انت لا تخشى الحديث عن اي شيء بينما ترى كيف يتململ السائقون بعدم راحة، لظنهم بأن الحديث يتخطى الحدود المرسومة له. صديقتي الجالسة في التاكسي تنصت طوال الوقت، وحين يتخطى الحديث حدوداً مرسومة تحاول من خلال قرصة في كتفي لفت انتباهي أن كفى، او شيء من هذا. وبين هذا وذاك تسمع في حديثهم بعض الكلمات القادمة من اللغة العبرية، ربما لكثرة لقائهم "عرب اسرائيل" الذين كثيراً ما يدبجون حديثهم بكلمات عبرية. تقول في نفسك، ها هم سائقو سيارات الاجرة في عمان صاروا هم ايضاً من "عرب اسرائيل"، والحبل على الجرار. تضحك في عبك، لانك تتذكر كيف قامت قيامة بعض المثقفين العرب ضد ترجمة الادب العربي الى العبرية، ومن بين الحجج التي اطلقوها في حينه كانت الحجة ان اللغة العبرية هي لغة ميتة. وها انت الآن في عمان واذناك تسمعان كلمات عبرية خارجة من سائقي التاكسيات، فتتساءل بينك وبين نفسك، من هو الميت هنا؟ غير انك تعدل عن الحديث المحرج من السائقين لتحوله الى مساء آخر، فتسأل: لماذا لا نرى اناساً يبتسمون او يضحكون في الشوارع، فيرد عليك السائق السلطي ان الناس هنا لا يعتبرون الابتسام والضحك من علامات الرجولة، انما الرجولة تكون بالتجهم، فتضحكان معاً محاولين اخفاء الضحك المحظور عرفياً عن اعين ركاب السيارات الاخرى في زحمة السير هذه غير بعيد من "سوق الحرامية". وها انت تجلس الآن في مكتبك في القدس وتدون هذه الانطباعات وتقول في نفسك انك في المرة القادمة ستسبق الشرطي في معبر جسر الشيخ حسين، وقبل ان يفاجئك هو بسؤال، ستفاجئه انت بسؤالك اياه: كيف يقولون "شالوم" بالعربية؟ كاتب عربي اسرائىلي.