يوماً بعد يوم يضيق الخناق سياسياً ومالياً حول الحكومة الفلسطينية، ومن خلفها حركة"حماس"، على رغم بعض التنفيسات، فالمطالب لا تزال مشرعة في وجهها، من دون مواربة أو تورية، الاعتراف أو الاعتراف، لا فكاك عنها، بمعنى آخر لا مناص أمام الحكومة من الاختيار بين البقاء في الحكم مع الاعتراف بإسرائيل، أو مغادرة ما وصلت إليه ديموقراطياً، عقاباً لها على عدم انصياعها لإرادة العالم. هو ذاته منطق القوة الأميركي، يصارع قوة المنطق الفلسطيني، تكرر ذلك في أكثر من مناسبة خلال العقد الأخير، وفي مراحل متعددة من الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، الذي تديره واشنطن تحديداً بالنيابة عن تل أبيب، وفي بعض الحالات لم يستطع الكف الفلسطيني أن يقاوم المخرز الأميركي، خصوصاً في ظل افتقار الفلسطينيين للظهير العربي عملياً للأسف الشديد، ولو أن العرب كانوا يرفعون العتب بين الحين والآخر عن أنفسهم بعبارات التضامن التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وكانوا يكفرون عن تقصيرهم هذا بأموال ومنح علها تغفر زلتهم أمام التاريخ. ولكن ما الذي تغير هذه المرة؟ هل تمارس الإدارة الأميركية اليوم مع الحكومة التي شكلتها"حماس"بدعاً من الأمور، وهل كانت"حماس"بهذه السذاجة التي جعلتها تتعامى عن استشراف مقبل الأيام بمزيد من التبصر وقراءة الوقائع جيداً، وبالتالي فهي مضطرة حالياً، شاءت أم أبت أن تدفع جزءاً من فاتورة التعامل مع القطب الأميركي، أو على الأقل أن تكون جزءاً من المنظومة الأممية، إلا إذا رأت أن تضحي بمشروع الحكم كله باعتباره مقاومة لضغط المخرز الأميركي وهي تراه ينغرس في كفوف الفلسطينيين، ولا يعرف أحد متى سيعلنون صرختهم"أخ"التي تنتظرها أميركا وحلفاؤها. الحقيقة أن وقائع الشهور الثلاثة الماضية، ومنذ صباح اليوم التالي لفوز"حماس"في الانتخابات، لم تغير شيئاً ذا مغزى في إدارة المجتمع الدولي لطبيعة العلاقات التي يديرها مع الفلسطينيين، باستثناء بعض الملامح العامة، بالإمكان اعتبارها تكتيكات أو محددات أساسية. ولم تكتف واشنطن والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بالتلميح للحكومة الفلسطينية الجديدة بضرورة السير في عملية التسوية المعطلة والمشلولة منذ زمن، كما جرت العادة، لا، بل شدد الجميع على ضرورة انتزاع اعتراف فلسطيني جديد بإسرائيل، ولكنه هذه المرة متسلح بعباءة دينية إسلامية، وبالتالي سيكون اعترافاً مجزياً لا سيما أن"حماس"تعتبر في بعض أدبياتها أن الصراع مع إسرائيل له جذور عقائدية، وأنه صراع وجود لا نزاع حدود. وترافق هذا الضغط مع حصار مالي واقتصادي مطبق من دون أدنى ثغرات مفتعلة أو عفوية، يزيد من حدة الأزمة الضاغطة على الحكومة وپ"حماس"، لا سيما أن المحاصرين يحكمون حصارهم ويمنعون أي بادرة إيجابية قد ترفع من معاناة الفلسطينيين، وبالتالي لم يعد هناك شك في أن الرغبة متمثلة بعقاب الفلسطينيين على انتخابهم"حماس"، لن تجدي هنا عبارات المجاملة كالفصل بين الحكومة والشعب، لأن المتضرر أساساً من هذا الحصار هو الشعب، هذا مكون جديد في إدارة الأزمات الدولية، وكأن الشعب الفلسطيني بعمومه قد شب عن الطوق الأميركي، وبالتالي فهو يستحق ما يجرى له. اجتهاد بعض المؤسسات البحثية والسياسية بوضع تقديرات زمنية للحكومة التي تقودها"حماس"، وأنها لن تعمر أكثر من تسعة أشهر، وقراءات أخرى ستة أشهر، وكأن الوضع السياسي الفلسطيني تحول إلى مزاد علني لتجار السياسة الدولية. هذه التقديرات الزمنية والطلب من"حماس"خلال هذه الفترة الزمنية الوجيزة والقصيرة أن تقدم على الاعتراف بإسرائيل، وإلا سيستمر الحصار المؤدي تلقائياً إلى الإفشال، كلها تتضمن تغافلاً لأبجديات التعامل مع الحكومات والحركات السياسية، لاسيما الأيديولوجية، ومنها"حماس". فليس سراً أن الحركة منذ تأسيسها قبل عشرين عاماً، قامت بحملة تعبئة عقائدية وسياسية وكفاحية لأعضائها ومناصريها ضد الاعتراف بإسرائيل، وبأنها غدة سرطانية يجب استئصالها، وأن زوال إسرائيل حتمية قرآنية، وغيرها من المفردات التي غدت مكوناً أساسياً من الخطاب السياسي للحركة، وبالتالي ليس من السهل عليها بين عشية وضحاها وتحت أي مبرر أن تعتذر لكل هؤلاء وتستجيب لظروف الواقعية السياسية، وتقول: سنعترف ولو تحت شعار"مكره أخاك لا بطل"! لا لن يجدي هذا، لأن حماس بإقدامها على ذلك، لن تكون"حماس"، وليختر لها السياسيون والباحثون اسماً غير هذا الاسم، فأدبيات الحركة وميثاقها المتمسكة به حتى اليوم، وخطابات زعمائها وتصريحات وزرائها، لا تشي بشيء من هذا القبيل، الأمر الذي يؤكد أن قواعدها ومستوياتها التنظيمية ليست مستعدة لهذا الأمر. وبالتالي وإن بدا هذا الموقف السياسي متعارضاً لمعظم المواقف الدولية والعربية والمحلية، إلا أن المطلوب من"حماس"، لكي تنسجم مع التوجهات الدولية والإقليمية، ولو كان من خلال المبادرة العربية، دفع ثمن باهظ يتمثل في أن تغادر مقاعدها الفكرية والأيديولوجية مرة واحدة. أن في هذا مغالاة في المطالب، خصوصاً في ظل تهديدها بسيف الوقت وعامل الزمن، لا سيما إذا بقي الحصار على حاله، لأن إبقاء ظهر"حماس"إلى الحائط وإفقادها الخيارات السياسية دفعة واحدة، وتخييرها بين الاعتراف والاعتراف، فيه تعجيز سياسي ودعوة الى الحركة للخلاص من أسسها الفكرية ومواقفها السياسية، لا سيما أن إسرائيل قد اعتُرف بها فلسطينياً سابقاً، فهل الدولة الأكثر تسليحاً في المنطقة، وذات القدرات النووية الخارقة، في حاجة إلى اعتراف حركة ليس في حوزتها سوى بضعة صواريخ مصنعة محلياً؟! هنا تكمن خطورة المطلوب من"حماس". إذ ليس المطلوب منها أن تصم آذانها عما يطرح محلياً وإقليمياً ودولياً، وهي لم تفعل ذلك من باب الإنصاف، ولكن رغبة جميع الأطراف بلا استثناء بأن تعترف بإسرائيل، قد يستهدف أمراً وراء ذلك، ليس بعيداً عن تصفية"حماس"سياسياً وفكرياً، بعدما فشلت تصفيتها عسكرياً في ساحة المعركة. في المقابل، من الواضح أن هذه الحكومة التي أتت وفق خيار شعبي نزيه، ليس المطلوب منها أن تنتحر سياسياً، إلا أنها تبدو مطالبة بتقديم إجابات فورية عن أسئلة يسألها الشارع، تبدأ بالراتب وتحسين الظروف المعيشية، ولا تنتهي عند مواجهة المخطط الإسرائيلي في الضفة الغربية. عدنان أبو عامر - بريد الكتروني