من أين يأتي كل هؤلاء الناطقين باسم مختلف أنواع الروابط والكتائب والقوات، يتراشقون التهم ويتنافسون بسرد الروايات المتناقضة ويقرأون بيانات حتى في التلفزيون الإسرائيلي؟ وكيف يمكن تنظيم الأوضاع الفلسطينية، أو ما يسمى تحببا أو سأما"ترتيب البيت الفلسطيني"في ظل هذه الفوضى غير الديموقراطية التي لا تعترف بسلطة أعلى من الكرامة الشخصية والمزاج، وربما أيضا سلطة ممول الميليشيا، في مجتمع ليست لديه طاقة اقتصادية أن يمول نشاطا سياسيا. ليست هذه حالة حركة تحرر وطني منظمة وموحدة، ولو على حساب الديموقراطية التي لم تعن حركات التحرر في أي مكان... ولا هذه سلطة تعددية ولو على حساب حركة التحرر ووحدانية هدف التحرر من الاحتلال، سوِّد فيها القانون فوق اعتباطية الإرادة وعشوائية القوة أو المصلحة أو المزاج، وحتى لو كان ذلك دون سيادة. فقد نظَّر العديد لحالة سلطة لا هي حركة تحرر ولا هي دولة كمرحلة لا بد منها نحو الدولة... الفوضى ليست حتى حالة من هذا النوع. وفي اللقاء الأخير بين الرئيس الفلسطيني ورئيس الحكومة الإسرائيلي تكرست حالة السياسة الفلسطينية كنضال مطلبي في أفضل الحالات. الفلسطينيون الفرحون بتجدد المفاوضات، ومنهم من أدمن عليها فشعر وكأنه تلقى جرعة شافية مؤخرا، يبدون كأنهم رعايا إسرائيل يطالبونها مرة بالإفراج عن مال فلسطيني، ومرة بالإفراج عن معتقلين، وهدف اللقاء تدخل إسرائيلي سافر لمساعدة طرف على طرف، او لتقوية مكانة ووضع فريق في مقابل الفريق الآخر. بعد سلسلة من الانتكاسات في المواجهة العسكرية، ومن النجاحات الديبلوماسية التي دفع ثمنها سياسيا بالقبول بإسرائيل والاعتراف بها عمليا ونظريا، تحولت حركة التحرر الوطني الفلسطيني إلى حركة استعادة المناطق المحتلة عام 1967. جاء ذلك ليحل محل هدف تحرير فلسطين الذي أعلن عنه عند تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في القدسالشرقية وهي لا تزال تحت السيادة العربية من جهة، وبدل شعار الأنظمة العربية بإزالة آثار العدوان والعودة إلى ما قبل العام 1967 من جهة أخرى. وجرى هذا كله تحت شعار استقلالية القرار الفلسطيني الذي تحول عمليا إلى استقلالية القرار العربي بشأن إنهاء الصراع مع إسرائيل عن القضية الفلسطينية. وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي وفقدان مصادر التمويل في الكويت والخليج بعد حرب الكويت ووصول الانتفاضة الأولى إلى طريق مسدود، ما لبث التيار الرئيسي في م. ت. ف. أن قبل مقابل الاعتراف به والخلاص من الشتات في النظام العربي الجديد، أن تتم استعادة الأراضي المحتلة عام 1967 بالتدريج باتفاق سياسي تتخذ فيه تدريجيا خطوات ل"بناء الثقة"، وهي تشمل"محاربة الإرهاب"، ولهذا الهدف وجدت الأجهزة الأمنية بموافقة إسرائيلية بداية، كما تشمل وقف الدعاية ضد إسرائيل وتغيير بنود الميثاق وغيرها. لم يحظ الاتفاق الذي ابرم بين المنظمة وإسرائيل بإجماع فلسطيني ولا بإجماع إسرائيلي. وكان عدد المعنيين بإفشاله كبيرا جدا. وكمن الفشل في تفاصيل مثل استمرار وتوسع الاستيطان، وفي رفض إسرائيل تنفيذ التزاماتها بعد كل عملية تقوم بها المقاومة. وحاول ياسر عرفات صاحب مشروع الدولة أن يوسع هامش السلطة وعدد أفراد الأجهزة للتصرف كأنها دولة، كما حارب على مستويات عدة لإلزام إسرائيل بتنفيذ التزاماتها... لكن في النهاية توقف برنامج الانسحابات التدريجية، وفشلت مفاهيم اتفاقيات أوسلو الأساسية... وتبقّت منه سلطة حكم ذاتي تعيش حالة"ابرتهايد"وفصل عنصري. وساير نتانياهو الاتفاقيات فترة إلى أن أصر باراك أن يوقع الفلسطينيون على صفقة شاملة واتفاق دائم قبل أن ينفذ أية انسحابات،"إعادات انتشار"، تدريجية إضافية. عندها اتضح رسميا ما الذي يمكن استرجاعه من إسرائيل بهذه الوسيلة، وماذا يقصد الإسرائيليون بدولة فلسطينية، وما هو الحد الأقصى الممكن لما يسمونه تنازلات. في"كامب ديفيد"تم تلخيص فشل اتفاقيات أوسلو. لقد نمت حول اتفاقيات أوسلو نخبة فلسطينية مؤلفة ممن تعبوا من النضال في الخارج ولكنهم نموا مصالح مؤسسة ويصرون على استمرار قيادة الشعب الفلسطيني، أو من الشباب الذين لم يشاركوا فيه ويرغبون بوراثة الجيل الذي تعب، أو ممن قطعوا كل المسافة من الولاء للاتحاد السوفياتي إلى أميركا، أو وصلوا ببساطة إلى قناعات أخرى. وباتوا يقبلون في السطر الأخير أن يدفعوا حق العودة والتنازل عن مناطق حدودية والاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية ثمنا لدولة فلسطينية يديرونها مع رأسمال فلسطيني تفسح له إمكانيات الاستثمار، ليس من جيبه بل من أموال المساعدات التي تتدفق ثمنا للتنازل السياسي الذي يريح أوروبا وأميركا، دولة مندمجة بالسياسة الأميركية في المنطقة. هذه النخبة خاب أملها من الرفض في كامب ديفيد، ونصحت أميركا بالضغط على عرفات. وقد فاجأ ياسر عرفات برفضه للمقترحات الإسرائيلية-الأميركية فنُحي جانبا وعزل دوليا. وقد انتُقد على رفضه هذا سرا وعلنا حتى من قبل النخبة السياسية التي أحاطت به وفاجأها. وقد انتظرت هذه النخبة التي ارتبطت بأوسلو مغادرته الساحة السياسية بعد أن أصبح"عقبة أمام السلام"، واستغلت نقدا محقا على كيفية إدارته للسياسة والقيادة لتظهر هي بمظهر الاستقامة، لكنها افتقدت إلى المصداقية حتى في نقدها، وكانت أكثر تعلقا من عرفات ب"زينة الحياة الدنيا"، كما أنها كانت جاهزة لقبول سلوكه والعيش معه والاستفادة منه عندما كان يصب في تيارها السياسي. فهي أقل استقامة وأكثر اندفاعا للتسوية. نفس هذه القوى تنتظر الآن ذهاب حماس بفعل الحصار الدولي. وبعد مغادرة ياسر عرفات الحلبة السياسية وقع حظ هذه القوى على شارون كرئيس حكومة دولة الاحتلال... وقد اتجه الأخير إلى فرض فك الارتباط من طرف واحد بدلا من التفاوض على تسوية. وهي خطوة استفادت منها الحركات الرافضة للتسوية مثل حماس، ولم تستفد منها سياسيا قوى التسوية التي لم تشرك فيها. وهو لم يكتف بعدم إشراكها بل عاملها باحتقار. إضافة إلى ذلك أنتجت خطة فك الارتباط حالة معسكر الاعتقال المحاصر بما فيه ديناميكية العنف والغيتو وأحياء الفقر والعنف الذي يميزها وتحول الميلشيات إلى ما يشبه عصابات مسلحة للحارات والحمائل. وربحت حماس انتخابات للمجلس التشريعي خاصة في انتخابات المناطق. أما بالمقاييس النسبية فلم يكن الفوز ساحقا، ولكنه على كل حال نصر ذو بعد شخصي متعلق بنظافة اليد، وبعد سياسي متعلق بفشل التسوية ورفض شعبي للشروط الإسرائيلية. وسبق ان سكبنا الكثير من الحبر على تناقض خطوة تشكيل حكومة مقيدة باتفاقيات أو متولدة عن اتفاقيات تنكرها أو تتجاهلها على أقل تقدير. لكن الخطوة تمت، وقد قطع الحصار جدلية تطورها. لم نعرف كيف كانت ستتطور حماس في المناورة بين متناقضات من هذا النوع، لأن الحصار فرض فورا. كما لم نعرف ماذا كان بإمكان حوار أوروبا مع تيار سياسي إسلامي أن يولِّد، خاصة وأن الأخير يمثل تجربة مقاومة، ولا يحجب الاعتراف عن أوروبا بل يبحث عن اعتراف منها، ويستعد لإصلاح في نهجه من خلال إدارة مجتمع، هو ليس مجتمع طالبان، ولن يكون. لقد فُوتت هذه الفرصة الثمينة لفتح الطريق أمام تيار إسلامي سياسي ليتطور من خلال إدارة مجتمع في ظروف صعبة. والأمر الأهم أن الحصار فرض بتواطؤ عربي، وان القوة الفلسطينية الرئيسية لم تعد إلى نفسها بعد رحيل مؤسسها وزعيمها ياسر عرفات ثم خسرت المعركة التي دخلتها غير موحدة ولم تتقبل الخسارة الانتخابية، وبقيت في مواقعها بوظائف مختلفة في السلطة كلها وسفاراتها وأجهزتها الأمنية، هذا عدا الرئاسة. ولكنها بدلا من أن تدافع عن إرادة الشعب الفلسطيني، وتعمل وتناضل بعلاقاتها الدولية لرفع الحصار ولإقناع المجتمع الدولي بقبول نتيجة انتخابية يفترض أن تقبلها هي، عولت أوساط فيها ذات علاقة بالمجتمع الدولي على الحصار لإفشال من انتخب والعودة إلى السلطة. وقد ورثت حماس ليس فقط سلطة بعلاقات وحتى التزامات أمنية ناجمة عن اوسلو، بل أيضا بنية اقتصادية قائمة على معونات دول تربط المعونات بهذا النوع من التسوية، خاصة الاتحاد الأوروبي، الذي اظهر موقفا متلونا وعديم المبادئ بشكل متطرف يعول على الفساد ضد إصلاحه وعلى مواقف ترفض قبول الانتخابات ونتائجها ضد العملية الديموقراطية. ويمكننا رفض النهج الأوروبي الذي رمى السلطة في البئر وقطع الحبل متحججا بأنه لن يدعم نهجا مناقضا لسبب الدعم الأصلي، لكن مثل هذا الرفض قد يفهم بلغة العلاقات الدولية في ظل حكم الغاب الأميركي. ولكن كيف يبرر منع السلطة المنتخبة من إدخال أموال جمعتها هي، فتتم الوشاية عليها، وتجري محاولة إفشال هذه الجهد. كان من الواضح ان الوحدة في تقبل نتائج الانتخابات في حكومة وحدة وطنية، أو بين الحكومة والرئاسة دون انضمام للحكومة، كان سيفرض نتائج هذه الانتخابات عربيا ودوليا، وعلى الأقل يخترق الحصار. ولكن ما تم هو إدانة الحكومة على فشلها في إدارة البنية التي تستغل ضدها وتقاطعها، وهذا أمر عبثي بكل المفاهيم. كانت هذه هي الوحدة الوطنية المطلوبة. وبدل إدانة الحصار والعمل على إفشاله جرت إدانة ضحيته. أما الوصول الى الوحدة الوطنية بشروط سياسية منذ وثيقة الأسرى وحتى تعديلها فإنما يسير على طريق قطف ثمار الحصار السياسي على الشعب الفلسطيني من حماس. وينبغي التعامل معه من منطلق الواقعية السياسية فحسب، مع إدراك أنه مسار لا يعكس رغبة حقيقة بالوحدة الوطنية. لذلك كان مصير وثيقة الوفاق الوطني أن تحولت إلى مرحلة لمطالبة حماس بقبول شروط الرباعية لكي يكون بالإمكان إقامة حكومة قابلة على إزالة الحصار. كل ذلك يتم بالتنسيق بين أميركا والاتحاد الأوروبي وإسرائيل بحيث لا يلمح طرف إلى إمكانية تراجع عن شروط الرباعية، وبحيث لا تتوهم حركة حماس أنها نجحت باختراق الحصار في مكان ما. ويفترض أن يقود هذا المسار من قبول وثيقة الوفاق إلى أزمة مجددة تقود حماس إلى قبول شروط الرباعية، وبعدما تبدأ المفاوضات مع إسرائيل وتعرض الأخيرة"عروضها السخية"تظهر الحركة كعبء على السلطة وكعائق أمام قبول الشروط الإسرائيلية. وتحسم الأمور، فإما أن تفرض الانتخابات مع التلويح بلقمة العيش وبالطرف القادر على رفع الحصار، أو بحسم من نوع آخر. الصراع الدائر إذاً صراع بين نهجين. وتضغط القوى الخارجية خاصة أميركا وإسرائيل على قوى التسوية أن تعجل في حسم المعركة وان تفرض شروطها وألا تتلكأ خاصة وأن الحصار استمر فترة طويلة، وهنالك تقرير بيكر هاملتون وحاجة إسرائيل إلى مسار تفاوضي بعد فشل الحرب على لبنان وبعد رفض المسار السوري أميركيا. لذلك فإن قوى التسوية بالمعنى المذكور أعلاه في عجلة من أمرها وتريد حسم المعركة لقبول ما رفضه عرفات، وما يعرض عليها الآن هو أقل منه حتى لو حسمت. إن التفسير الوحيد للتحركات الجارية حالياً و"الكرم الإسرائيلي"إزاء مطالب مؤيدي التسوية بأي ثمن، هو حاجة حكومة إسرائيل وجورج بوش الملحة إلى مسار تفاوضي"فعال". قلنا حاجتها إلى تفعيل مسار تفوضي ولم نقل إلى حل. وهذا هو جوهر الأزمة الحالية. والحسم السياسي على حساب الوحدة الوطنية لا يقود إلى تسوية عادلة نسبيا مع إسرائيل، والأخيرة لا تعرض إلا أقل مما عرض في كامب ديفيد على عرفات، وقد عارضه أولمرت كرئيس بلدية القدس في حينه. طريق الوحدة الوطنية هو طريق آخر ينطلق من إدراك عدم إمكانية التسوية حاليا ويقيم الوحدة بين فتح وحماس وبقية الفصائل على أساس أنها أنجع السبل لكسر الحصار وللصمود على الموقف دون تعطيل حياة الشعب الفلسطيني. وهذه وحدة لا تتطلب فرض شروط سياسية على حماس، بل برنامجا سياسيا موحدا يتمثل بوثيقة الوفاق وقيادة موحدة تتفق على إستراتيجية مقاومة وصمود موحدة. ولا شك أن ما يجري محرج ويربك أصدقاء الشعب الفلسطيني ويسر أعداءه ويدمي قلوب أبنائه، ولا يوصف في ظل الاحتلال بأقل من عيب وعار، ومع ذلك يبدو أنه لا يحل بالتخجيل و"بوس اللحى". والطريق الوحيد هو اختيار مسار الوحدة الوطنية الحقيقية لكسر الحصار، وهو لا يمر بتفاوض سياسي فلسطيني داخلي يبتز تنازلات فلسطينية بفعل الحصار، تنازلات لا تعني إسرائيل، بل يمر عبر نقاش وقرار مبدئي داخل كل تنظيم عن مسار الوحدة التي يريد. فقط عندها يصبح للحوار الداخلي معنى. فالسؤال المطروح ليس أي طرف نؤيد، بل ما هو شكل الوحدة التي نريد؟ هل تقوم على ابتزاز تنازلات بالحصار، هل هي هدنة حتى الصراع القادم نحو حسم سياسي؟ أم هي وحدة صمود وتمسك بالإرادة الوطنية لكسر الحصار؟ * كاتب وسياسي عربي.