روسيا ليست استونيا، ولا بولندا أو إسبانيا أو حتى فرنسا أو الصين. صحيح ان هيبتها ايام عز السوفيات اضمحلّت، تناثرت، ومهددة بالاندثار بالضربة الأخيرة، أمام غزو العولمة الأميركية، لكن سيد الكرملين لا يريد ان يكون شاهداً على"بيع"روسيا، بالتقسيط أو الرضوخ ل"الابتزاز"الذي يمارسه البيت الأبيض. هذا بالتحديد ما عناه الرئيس فلاديمير بوتين الذي انتظر طويلاً وعود الولاياتالمتحدة بدعم"جنة ديموقراطية"على أنقاض الستار الحديد، فما كان منها إلا ان استكملت فرض"الغزو الأطلسي"على قلب آسيا الوسطى، واطمأنت الى تراخي الروس امام إغراءات الأسواق الحرة، وتمدد اصابع الفساد لتنخر ما بقي من قرار مستقل لقوة كانت يوماً عظمى. الرفيق بات"ذئباً"، في عيني بوتين وعلى لسانه رغبة في الثأر من الحملة الأميركية الشرسة على ديموقراطيته وإصلاحاته. باغتته فيما كان الكرملين يمضي في مساوماته حول أزمة الملف النووي الإيراني، ليبيع الأميركيين تشدداً ديبلوماسياً مع طهران لعل واشنطن تقبل بمخرج سياسي للأزمة... باغته"الذئب"الأميركي الذي لا يقبل بأقل من استسلام روسي كامل أمام ارادة البيت الأبيض وخطط المحافظين الجدد لتكرار السيناريو العراقي مع جمهورية خامنئي - نجاد. وأقل ما يعنيه الاستسلام"التبرع"بكل المصالح الروسية مع ايران، على رغم خيبة أمل موسكو من فتات حصص تركت لها في العراق. ايران بعد العراق؟فلسطين وسورية ولبنان بعد الصومال، وحتى مصر بعد الجزائر، كل الساحة أخليت لمشاريع الأميركيين، فيما الروس يحصون انتقال الجمهوريات السوفياتية السابقة واحدة واحدة الى حضن الرفيق اللدود، عبر الحلف الأطلسي أو قطار الاتحاد الأوروبي. ف"الذئب يأكل ولا يستمع"، علناً قال بوتين غضباً وليس حسرة على رفقاء السوفيات القدامى، ولا ندماً على بيع إرث ايديولوجيا، كانت - على رغم كل المساوئ بل الجرائم التي ارتكبت باسمها - من القطبية الثنائية في عالم أكثر عدلاً بكثير من"الكوكب"الأميركي الذي يسعى الى ابتلاع الأرض. سر الغضب ذاته هو"سر"تسريع سباق التسلح الذي كشفه الرئيس الروسي، بعدما انضم بوش الى نائبه ديك تشيني في اتهام موسكو ب"ابتزاز"تمارسه في حقل الطاقة، وبعد سعيهما الى منحها شهادة سلوك سيئ في الإصلاحات الديموقراطية."اكتشف"بوتين ان الديك هو نفسه الذئب الذي يبتز الروس في أزمة دولية نجمت عن تحدي طهران الغرب والولاياتالمتحدة خصوصاً: المقايضة مع الكرملين تجاوزت الشيشان الى عضوية روسيا في منظمة التجارة العالمية، الى موقعها في أسواق الطاقة، وأخيراً الى صوتها في مجلس الأمن، حيث الماراثون العسير لاستيلاد مشروع قرار يأسر ايران في قفص الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. الفصل ذاته استغلته واشنطن في قرارات دولية ضد العراق، مهدت للغزو، بعدما أُضيفت إليها مجموعة أكاذيب. فجأة ايضاً صحا بوتين على اهمية تعزيز دور المنظمة الدولية"في ظل العولمة"، لكأن كل ما انتهِك في جسد الأممالمتحدة و"أخلاقياتها"منذ ما قبل غزو العراق لم يكن يستحق وقفة من الروس. المبررات مفهومة، وصراع المصالح يفرض ذاته، والأكيد ان الكرملين لا يحلم بخليج خنازير آخر، ولا بتشكيل قوة للتدخل السريع في العالم، لإحباط مشاريع المحافظين الجدد لتطويع كل الأرض لكوكبهم. يحلم فقط ب"بيت قوي". هي عصا إذاً، يلوّح بها بوتين لاستعادة مناخات الحرب الباردة؟ إن قوة روسيا لا تسمح لها إلا بالتواضع، إلا في حال اقتدى الكرملين بما يقال عن نهج ايراني لإخفاء المفاجآت، من اجل توريط الخصم. وهو في كل الأحوال - عبر مقولة مواجهة"الحصن الأميركي"- أناني بامتياز، خصوصاً اذا قيست الاستراتيجية الروسية"الجديدة"بأخلاقيات عدل يريده بوتين حين يتحدث عن حقوق الإنسان والديموقراطية. ما لم يقله الرئيس المتمرد على"الذئب"، ان الشراكة معه بعد زوال الستار الحديد، كانت المبدأ الأول في"شرعية"هيمنة المحافظين الجدد على القرار الأميركي، ثم على الشرعية الدولية والأممالمتحدة، قبل ان يحلموا ب"ابتلاع"الرفيق الكبير. وفي عالم هذه"الشراكة"تفشى سرطان التطرف، فأباح الأرض لمزيد من الحروب القذرة وجدد مشاريع مذابح بين الشعوب والقبائل.