تسعى الولاياتالمتحدة، تحت شعار "الحرب ضد الارهاب" الى تكريس قيادتها الكونية. ان الأسد الجريح بحاجة الى البرهنة دوماً على انه ما زال ملك الغابة. ولهذا فإن زمجرته ينبغي ان تبقى مسموعة من كابول الى صنعاء، ومن بغداد الى مقديشو، ومن الشيشان الى ضواحي بيروت الجنوبية. ولكن أين سيغرز أنيابه الحادة بعد "طالبان" ومنظمة "القاعدة". كانت افغانستان هي "المرحلة الأولى" من هذه الحرب، فضد منْ ستوجه "المرحلة الثانية"؟ لقد تركت أحداث 11 ايلول سبتمبر، وردة فعل الولاياتالمتحدة عليها بصماتها الحادة على كل العلاقات السياسية الأساسية في العالم: أدخلت شيئاً من الواقعية الصحية على علاقات واشنطن مع اسرائيل، ولكنها سببت الكثير من الاحراجات القاسية لحلفاء اميركا من العرب. ثم انها غيرت التوازن الاستراتيجي بين الهند وباكستان لصالح الهند، كما أنها زادت من حدة التوتر مع الاتحاد الأوروبي، اذ كانت حماسة اعضائه لحرب اميركا هذه متباينة ومختلفة. وبما ان هناك تنافساً حاداً بين الصينوروسيا على كسب رضا الولاياتالمتحدة، فقد ازداد الفتور بينهما. وقد طرحت هذه الاحداث أسئلة حول "أي نفوذ سيتغلغل في آسيا الوسطى، النفوذ الروسي أم الاميركي". وأشعلت في العالم الاسلامي المعقد والمتعدد الولاءات نقاشات داخلية لم تكن معروفة من قبل. وبدأت الجماعات الاسلامية المتطرفة تتراكض للاحتماء من الانقضاض الاميركي، رافضة الاستسلام بالسهولة التي نتصورها، وما زال الكثير منها يأمل بأن ينجو من المجزرة، والعودة الى استئناف معاركه ذات يوم. وفي أثناء ذلك كله يتساءل المسلمون "المعتدلون" عن نوع السلام الذي سيبشرون فيه ويعيشونه بطمأنينة في مجتمعاتهم، وفي ما اذا كانوا يتحملون - كما يزعم بعض المعلقين السياسيين الغربيين - المسؤولية عن تفاقم الظاهرة الارهابية في العالم. بوتين يتطلع الى الغرب مثل بطرس الاكبر من الطبيعي ان ينشغل بال العرب والمسلمين بنتائج الأزمة عليهم، بالدرجة الأولى، ولكن قد يتوجب عليهم ايضاً ان يفكروا في خيارات الآخرين السياسية وفي تأثيرها عليهم، خصوصاً خيارات فلاديمير بوتين، رئيس الاتحاد الفيديرالي الروسي. وقد يكون من المفيد ان نعرف ان بوتين بادر فوراً الى الاتصال بالرئيس بوش هاتفياً لدى سماعه بالهجوم الارهابي في الحادي عشر من ايلول ليقدم له التعازي، فكان من أوائل زعماء العالم في مبادرته هذه. وان نعرف بأن هناك صداقة بينهما: فقد اجتمعا في الأشهر الستة الماضية أربع مرات، مرة في لجوبلاجابا في سلوفاكيا في حزيران يونيو، ومرة في جنوى ايطاليا في تموز يوليو، ومرة في شنغاي الصين في تشرين الأول اكتوبر، واجتمعا هذا الشهر في واشنطن، ثم في مزرعة الرئيس بوش في ولاية تكساس، طوال ثلاثة ايام. وقد نجحت هذه اللقاءات المتكررة في توليد ما هو اكثر من الصداقة الشخصية بين الرجلين: فقد تمكنا من صياغة ما يُطلقان عليه "علاقة القرن الواحد والعشرين الجديدة، القائمة على التمسك بالقيم الديموقراطية والاقتصاد الحر واحترام القانون". ويبدو ان بوتين قد اختار النموذج الغربي لتطوير روسيا، إذ بدأ يدرك انه بحاجة ماسة الى مساعدة الغرب، اذا شاء ان يجعل من بلاده الدولة القوية والحديثة التي يحلم بها. لقد اغتنم بوتين الفرصة التي أتاحتها له الأزمة الراهنة لدعم الاستراتيجية الاميركية في افغانستان، وانضم الى الحملة الاميركية ضد الارهاب، وكأن يأمل، في المقابل، بأن يحصل على مكاسب لروسيا، ولشخصه أيضاً. والسؤال الذي يتوجب على العرب والمسلمين ان يطرحوه على أنفسهم هو "كيف ستؤثر صداقة بوتين الجديدة مع الرئيس بوش على علاقات موسكو مع العراقوايران وسورية وليبيا والشيشان، ومع الفلسطينيين، وبكلمة اخرى، مع العالم الاسلامي بكامله؟". لقد كان لظهور ميخائىل غورباتشوف على المسرح الدولي عام 1985 أسوأ الأثر على اصدقاء موسكو من العرب، فقد اعيدت علاقات روسيا مع اسرائيل، وسمح لمليون يهودي روسي 40 في المئة منهم من خريجي الجامعات بالهجرة الى اسرائيل، للمساعدة في تقوية الدولة العبرية، وبالمقابل حُرم العرب من دعم موسكو السياسي. كما حرموا من الحصول على السلاح السوفياتي بشروط سهلة، واليوم، لا يمكنهم الحصول على هذا السلاح إلا إذا دفعوا ثمنه نقداً. ما زلت أذكر حديثاً لسفير روسي في عاصمة عربية، كانت له علاقات وطيدة مع الحكم السوفياتي البائد. قال لي السفير، وهو يبتسم: "ان اصدقائي العرب يفضلون لو كنتُ سفير الاتحاد السوفياتي لا سفير الاتحاد الفيديرالي الروسي!". الصفقة الروسية - الاميركية ينبغي على العرب والمسلمين ان يستعدوا لتقبل صدمة جديدة من زعيم روسيا بوتين: فلقد قدم معلومات استخباراتية قيّمة حول افغانستان، وشبكات الاسلام الأصولي الى الولاياتالمتحدة، ووفر للطائرات الاميركية ممرات جوية عبر الاراضي الروسية وشجع أوزباكستان وجمهوريات سوفياتية سابقة في آسيا الوسطى على السماح للولايات المتحدة بأن تستخدم قواعدها الجوية، وقدم لاتحاد الشمال الافغاني اسلحة بقيمة عشرات الملايين من الدولارات، مكنته من تحقيق هزيمة "طالبان"، بمشاركة القصف الجوي الاميركي. فما الذي يأمل ان يحصل عليه بوتين بالمقابل؟ ان قائمة مطالبه طموحه للغاية: - بوتين لا يريد اي تدخل غربي في محاولاته لإنهاء "الثورة الانفصالية" في الشيشان التي تكلف موسكو آلاف الضحايا و750 مليون دولار كنفقات سنوية. ويبدو ان الشيشان فهموا معنى "الانفراج" في العلاقات الاميركية - الروسية، اذ قبلوا هذا الاسبوع اجراء حوار مع موسكو لإنهاء الحرب. - ويريد بوتين، ان يسقط الغرب ديون روسيا الخارجية التي تقدر ب140 بليون دولار، وان ينضم الى منظمة التجارة العالمية بشروط أكثر مرونة من الشروط المعروضة عليه. - ويريد بوتين ان يعبر النفط والغاز من بحر قزوين الى الاسواق العالمية عبر الأراضي الروسية، كما يريد حصة روسية أكبر من صادرات النفط الروسي الى السوق العالمية. ان معركته مع منظمة "أوبك" هي نوع من الغزل مع اميركا. - ويريد بوتين الاعتراف الاميركي بمصالح روسيا في آسيا الوسطى، بل واحترام هذه المصالح لأنها تشكل، كما يقال، "خاصرة روسيا اللينة"، كما يريد ان يسيطر على تجارة المخدرات، والأفكار الاسلامية المتطرفة من افغانستان الى جمهوريات روسيا الجنوبية التي يُسميها الروس "الخارج القريب من الحدود". ومما يلفت النظر ان روسيا كانت أول دولة ترسل بعثة من مستوى رفيع الى كابول، هذا الاسبوع، اذ تأمل، ومن خلال علاقاتها الوطيدة مع تحالف الشمال الافغاني ان تحمي مصالحها الاستراتيجية في افغانستان. على أية حال، يبقى ان نعرف الى أي مدى تستطيع روسيا ان تنافس الولاياتالمتحدة في تحديد مستقبل افغانستان في المستقبل. - ويريد بوتين علاقات وطيدة مع حلف الاطلسي، واذا لم يتمكن من دخول الحلف كعضو كامل العضوية فعلى الأقل يريد ان يضمن تحييد أي تهديد عسكري محتمل في حال توسع الحلف ليضم دولاً اخرى في شرق أوروبا. ثم ان بوتين لا يقبل مشاريع الرئيس بوش في "الدفاع القومي ضد الصواريخ" ويزعم ان هذه المشاريع ستطيح بالتوازن الاستراتيجي بين روسياوالولاياتالمتحدة. واذا كانت الولاياتالمتحدة مصممة - كما يؤكد الرئيس بوش - على إلغاء معاهدة التوقف عن انتاج الصواريخ العابرة للقارات، والموقعة عام 1972، وعلى استئناف اجراء التجارب على الأسلحة المضادة للصواريخ، فإن بوتين يأمل ان يتحقق هذا الأمر عن طريق المفاوضات الثنائية لا عن طريق "الإملاء الانفرادي". ولم يعد سراً اليوم انه لم يتم الاتفاق حول هذه الموضوعات المهمة أثناء زيارة بوتين لمزرعة بوش في تكساس، والتي استغرقت ثلاثة ايام. ولكن حتى الاقتراح بالتفاوض على تعديل معاهدة ABM كان كافياً لإغضاب الصين التي كانت تأمل بأن تشاركها موسكو في معارضة مشاريع الولاياتالمتحدة في الدفاع ضد الصواريخ. هل سيخضع بوتين للضغط الاميركي؟ يطمح بوتين في الحصول على مكافآت ثمينة لقاء مساعدته الولاياتالمتحدة في حربها في افغانستان، ولكن مطامحه تجعله أكثر تعرضاً للضغوط الاميركية. الصقور في واشنطن راغبون في توسيع الحملة ضد الارهاب، لتشمل العراق، وربما سورية ولبنان وحزب الله. لكن روسيا تعارض هذا التوسيع، فإلى أي حد ستصمد لحماية أصدقائها العرب؟ سيصوت مجلس الأمن للامم المتحدة في نهاية هذا الشهر على تجديد القرار 986 الذي يؤمن للعراق برنامج "النفط مقابل الغذاء". وستطالب الولاياتالمتحدة وبريطانيا باستبدال القرار بنظام "العقوبات الذكية" الذي يطلق يد العراق في استيراد البضائع المدنية، ولكنه يتشدد في مراقبة المستوردات العسكرية. كما ستطالب الدولتان بعودة مفتشي التسلح الى العراق. ومعروف ان روسيا هددت باستخدام حق الفيتو في حزيران يونيو الماضي، حين التقدم بهذه المطالب، فكان ان سُحبت من مجلس الأمن، وتم التمديد لبرنامج "النفط في مقابل الغذاء" لمدة خمسة شهور جديدة من دون تعديل. فما الذي سيحدث هذه المرة؟ هل ستستمر روسيا في تأييد العراق؟ ام انها سترضخ للضغط الاميركي، وتصوت لصالح "العقوبات الذكية"؟ وكان من المقرر ان تستأنف روسيا، قبل هجوم 11 ايلول بيع المعدات العسكرية الى ايران، وتم الاتفاق في آذار مارس الماضي على صفقة أسلحة بقيمة 4 بلايين دولار تشمل 300 صاروخ للدفاع الجوي، وحوامات وطائرات مقاتلة، وهناك تقارير تؤكد ان روسيا على استعداد لتزويد ايران بتقنية نووية وصاروخية. واعترضت الولاياتالمتحدة وحليفتها اسرائيل بشدة على صفقة الأسلحة هذه، فهل سيحترم بوتين هذه الاتفاقية مع ايران أم انه سيقايضها بتنازلات اميركية في مواضيع اخرى؟ وكانت سورية وليبيا تشتريان كميات متواضعة من الاسلحة الروسية، فما الذي تنتظره الدولتان من بوتين؟ ويأمل الفلسطينيون ان يقف الروس الى جانبهم لمواجهة الانحياز الاميركي لاسرائيل. فهل يمكن ان يعتمدوا على بوتين الآن وقد اصبحت الافضلية عنده هي علاقته مع الرئيس بوش، ان بوتين بحاجة ماسة الى مساعدات الغرب واستثماراته وخبرته التكنولوجية، ولكنه بحاجة ايضاً الى حماية مصالح روسيا الحيوية. له خطوطه الحمراء من دون شك، ولكن السؤال المطروح هل سيكون العرب داخل أم خارج هذه الخطوط الحمراء! * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.