في العام نفسه 1827 انجز أوجين ديلا كروا لوحتين أولاهما"ساردانا بالوس"والثانية"البارون شفايتر". وهو تقدم باللوحتين معاًَ في ذلك العام ليشارك بهما في"الصالون"الذي كان زميله اللدود انغرز قد حقق فيه قبل ثلاث سنوات انتصاراً باهراً... لكن مسؤولي ذلك الصالون في ذلك العام، قبلوا عرض الأولى فيما رفضوا الثانية. ومع هذا كان المتوقع أن يحدث العكس، ذلك ان"البارون شفايتر"كانت تبدو أقرب الى ذوق القيّمين على"الصالون"بمزاجها الهادئ وأناقتها المفرطة، في مقابل العنف الصاخب في اللوحة الأولى. والحقيقة أن ديلاكروا كان أول المستغربين هو الذي كان يراهن على لوحة"البارون شفايتر"التي تصور فتى فرنسياً لعوباً في كامل تجليه، كي يبعد عن نفسه، ولو جزئياً صورة الفنان المتمرد الرومانسي، حتى وان كانت هذه الصورة الأخيرة تطربه. بالنسبة الى ديلاكروا، كان يريد خلال تلك الحقبة من حياته أن يقول ان للفنان أن يعبر عن الحالات كافة، وعلى رغم رغبته القوية في أن يضفي على نفسه آيات البطولة والثورة، فإنه ما كان ليريد أن تتحول البطولة لديه الى تمرد مطلق. ومن هنا كانت صدمته كبيرة حين رفضت لوحة"البارون شفايتر". ومع هذا، لاحقاً، بعد أن نسي الصالون وأهله تماماً، وبعد أن أسهب نقاد الفن في تلك المرحلة في الحديث عن أنه لو كان القيمون على"الصالون"من الذكاء والدراية، بحيث علقوا اللوحتين الى جانب بعضهما البعض، لكان هذا الأمر أتاح للمتفرجين الذواقة كما للنقاد الدارسين المقارنة المفيدة بين توجهين متزامنين لفنان واحد. كما أنه كان أتاح لهم دراسة التأثيرات المقبلة والتي كانت جنينية في ذلك الحين، لمدرسة :"البورتريه"الانكليزية على نخبة الفنانين الفرنسيين... وكان هذا الأمر أكثر أهمية بكثير بالنسبة الى أهل الفن. ذلك ان باريس، بعدما كانت أهملت الفنون الانكليزية طويلاً، لحساب الاهتمام بالأساليب الايطالية من ناحية، والمناظر الاستشراقية الغارقة في رومانسيتها من ناحية ثانية، راحت تكتشف هذه الفنون لدى الجيران وتقتبس منها ولا سيما في مجال المزاوجة بين البورتريه الشخصية والمشهد الخلفي وهي مزاوجة كان الانكليز سادتها وظلوا كذلك لأمد طويل مقبل. والحقيقة ان الذين رأوا هذا، أما لم يتنبهوا الى - واما لم يهتموا بكون خلفية لوحة ديلاكروا لم تكن من عمله تماماً، بل من انجاز تلميذ له يعمل في محترفه هو بول هوي. ولعل هذا يبدو واضحاً بقوة لكل ذي علم حقيقي بدقة ديلاكروا في رسم الطبيعة وتفاصيلها، العلم الذي لا يلوح هنا بأي حال من الأحوال. في المقابل يلوح فن ديلاكروا واضحاً في رسم البارون الذي كان صديقاً له وكان من الرسام المرموقين في باريس ذلك الحين. مهما يكن، يبدو واضحاً في رسم هذه اللوحة تأثر ديلاكروا بالانكليزي سير توماس لورانس، الذي كان الفنان الفرنسي قد شاهد أعماله عن كثب - وأبدى تأثره بها في شكل عام - حين زار لندن خلال تلك المرحلة من حياته واطلع خلال زيارته على ما كان جديداً في فنون الرسم الانكليزية. ومن هنا اذا كان ديلاكروا قد سها عن باله أن يحدد بنفسه تاريخ رسمه لهذه اللوحة، فإن الدارسين يجمعون على أنه ما كان في امكانه أن يرسمها قبل زيارته اللندنية، وحتى قبل بداية إعجابه بكبار الفنانين والأدباء الرومانطيقيين من أمثال فكتور هوغو ولورد بايرون. ولم يكونوا مخطئين النقاد الذين رأوا ان ديركروا قد رسم صديقه شفايتر في هذه اللوحة وكأنه تقمص روح اللورد بايرون نفسه. ومع هذا كله، يظل السؤال الكبير حائراً، مهما خمَّنا من رغبات ديلا كروا أو تصرفاته: كيف له أن ينجز هذه اللوحة في زمن كان فيه منكباً بكل قواه وكل قدرته الابداعية على رسم لوحاته الكبيرة الأساسية، من التي تحمل مشاهد عنف جماعية "ساردانا بال"،"مجزرة ستيو"،"الحرية تقود الخطى"وپ"إعدام الدوق مارينو فاليرو"؟ لقد كانت تلك السنوات هي السنوات الملحمية في حياة ديلاكروا وفنه... بل حتى السنوات المأسوية ان نحن حكمنا عليها من خلال واقع أنه فيها أيضاً نفّذ رسوم ماكبث وهاملت وفاوست! * ربما يكون الجواب لدى ذلك النوع من الدارسين الذين أكدوا - كما أشرنا - على أن ديلاكروا ما كان ليود أن يعتبر مشاكساً ولا حتى رومانسياً خالصاً. كان يلح على أن الفن يجب أن يخضع لمنطق معين ولمبادئ عقلية ترى الأمور كما هي... وينطلق - الفن - من دراسات تحضيرية تدفع الفنان الى أن يكون هادئاً مرتاحاً حين يرسم. فمن أين أتته هذه المشاعر أو الرغبات؟ ربما من واقع أن كثراً من الدارسين، حين راحوا يدرسون جذور العنف والتمرد التي تمتلئ بها لوحات مرحلته تلك وصلوا الى استنتاجات كانت غير مريحة بالنسبة اليه كما يبدو: وصلوا الى أن ذلك يتعلق بما يقال من أنه - في الأصل - ابن غير شرعي للسياسي تاليران، كما من الحوادث الكثيرة التي تعرض لها في طفولته وصباه وجعلته مرات ومرات يجد نفسه على حافة الموت أو التشوه. كل هذا قد يكون صحيحاً. ومن هنا اذ تراكم على أحساسيس هذا الفنان في ذلك الحين ودفعه لأن يجد نفسه مرتبطاً، عاطفياً وحسيّاً بكل ذلك القدر المرعب من العنف والدم في لوحاته، فقرر أن بعض الهدوء اذ يضفى على فنه سيكون من شأنه أن يجعل لحياته تفسيراً آخر. من هنا نراه يربط في هذه اللوحة على الأقل، بين مظهر رومانطيقي - مرتبط بهيمنة الطبيعة، لا بهيمنة الأحداث الملحمية الكبرى - وبين نزعة كلاسيكية كان الفن الفرنسي قد بدأ يتخلى عنها بقوة بعدما سادت خلال القرنين السابقين. ولعل في هذا تفسيراً منطقياً قد لا يوافق عليه أوجين ديلاكروا كلياً لوجود هذه اللوحة في سجله الفني الباهر عند تلك النقطة الانعطافية من حياته. وبقي أن نذكر هنا أن البارون شفايتر كان صديقاً مقرباً من ديلاكروا. وهو - أي شفايتر - كان معروفاً، على أية حال، بوصفه بارعاً في رسم البورتريه غير النصفية أي على الطريقة الانكليزية علماً بأن الطريقة الفرنسية كانت تجعل البورتريه نصفية وحسب كما كان بارعاً في رسم المشاهد الطبيعية. وواضح هنا أن ديلاكروا اذ رسمه على هذا النحو، أشار بصورة مباشرة الى مجالي براعة شفايتر هذين. والواقع أنه، انطلاقاً من هذا كله، كانت تلك الفرضية التي أبداها الدارسون من أنه لو قيّض لهذه اللوحة أن تعلّق في"الصالون"الى جوار"سردانابال"لكان من شأن هذا أن يعطيها قيمة تاريخية - وفنية أيضاً - أكبر، من خلال تحديد التناقض بين صورة الفن اللعوب الفرنسي، مرسوماً على الطريقة الانكليزية، وبين مشاهد العنف التي كانت، ومنذ الثورة الفرنسية على الأقل، قد بدأت تطغى على الرسوم الفرنسية في شكل عام. وأوجين ديلاكروا 1798 - 1863 ولد لأم كان هو طفلها الرابع. وهو سجل باسم الوزير ديلاكروا، مع أن ثمة فرضيات تتحدث عن أن أباه الحقيقي هو تاليران - كما أشرنا. وأم أوجين أصطحبته وبقية أفراد العائلة ليعيشوا في باريس منذ العام 1805. وهو بدأ حياته الفنية في محترف الرسام غيران الذي وجهه من خلال دفعه الى محاكاة لوحات رافائيل وروبنز في متحف اللوفر. ومنذ ذلك الحين ارتبطت حياة ديلاكروا وسيرته بالفن، ليصبح لاحقاً أحد كبار الرومانطيقيين، ما قاده أيضاً الى شمال أفريقيا، حيث حقق الكثير من أهم رسومه، والى تاريخ منطقة الشرق الأوسط حيث رسم بعض أهم اللوحات التي تحدثت عن التاريخ القديم - والأسطوري - لتلك المنطقة. كما ان ديلاكروا عرف كيف يعبِّر في بعض أقوى لوحاته عن تلك الحالات الثورية التي راحت تعتري بلده فرنسا بين الحين والآخر خلال حياته. وهو رسم بعض أهم اللوحات المعبّرة عن الحرية والتوق إلى الانعتاق في تاريخ الفن الفرنسي في القرن التاسع عشر.