عندما قام ديلاكروا بزيارة لندن في العام 1825، مدفوعاً إلى ذلك بإعجابه الشديد بأعمال كونستابل، كما بتعرفّه قبل ذلك إلى اللورد بوننغتون وارتباطه بصداقة معه، كان يعرف مسبقاً كل أعمال شكسبير تقريباً. لكن معرفته بهذه الأعمال كانت في الحقيقة نظرية، بعد، ومن طريق القراءة، حتى وإن كانت فرص أتاحت له، في فرنسا، أن يشاهد بين الحين والآخر أعمالاً لصاحب «عطيل» و«الملك لير». غير أن الفارق كان كبيراً بالنسبة إليه، بين أن يعرف شكسبير من الخارج، أو من الداخل. ومن هنا كان من الواضح أن الفنان الشاب، سوف يحتفظ في ذاكرته لشكسبير بمكانة كبيرة لا سيما بعدما شاهد، على أحد مسارح لندن، الممثل الكبير ادموند كين وهو يلعب دور ريتشارد الثالث. وزاد من هذا أن ديلاكروا، عاد وتعرّف في باريس إلى ممثل شكسبيري كبير آخر هو تالما - الذي زين له الرسام دارته الضخمة -. وكان تالما هذا من كبار الفنانين الذين عرّفوا الجمهور الفرنسي في ذلك الحين على أعمال شكسبير. وهكذا حينما حدث ذات ليلة أن شاهد ديلاكروا عرضاً ل«هاملت» قام ببطولته تالما نفسه، وكان يصحب ديلاكروا إلى العرض عدد من كبار «الشكسبيريين» الفرنسيين مثل فكتور هوغو والكسندر دوما وجيرار دي نرفال وهكتور برليوز، كان ديلاكروا مهيئاً تماماً لأن يهجس بشكسبير وهاملت ليله ونهاره، وتصبح مشاهد من أعمال هذا الكاتب الإنكليزي الكبير، جزءاً من تاريخه الفني. ومن هنا لم يعد غريباً أن يقدم ديلاكروا، في العام 1839، مثلاً، على رسم 16 محفورة تمثل هاملت في أوضاع مختلفة، بل لم يعد غريباً أن يرسم ديلاكروا لنفسه «بورتريه»، وله فيه سمات هاملت وقد استبدت به الكآبة إلى أقصى الحدود. لكن ديلاكروا لم يكتف بهذا طبعاً، إذ سنجده خلال فترات تالية لا يتوقف عن رسم روميو، أو ماكبث، إضافة إلى عدد غيرهما من الشخصيات الشكسبيرية. والحال أن هذا الاهتمام بهذا النوع من الأدب لم يكن غريباً عن ديلاكروا ككل، فالرجل لم يتوقف أبداً عن استلهام دانتي واللورد بايرون وباغانيني، وحكايات التاريخ القديم. وكذلك لم يتوقف عن استلهام مشاهد الشرق - لا سيما انطلاقاً مما عايشه خلال رحلاته إلى الشمال الأفريقي العربي والمسلم -، إذ أن ذلك كله، شكّل بالنسبة إليه ذلك المخزون الرومانطيقي الذي طبع أعماله كلها، وفتح عليه مدافع الكلاسيكيين الجدد الذين كانت لهم السيطرة على الحياة الفنية في فرنسا في ذلك الحين، فإذا به، هو، يمضي في استلهام «المكان» و«الزمان» الآخرين محققاً بذلك شعبية كبيرة راحت تعلن عن بداية نهايتهم. وإذا كان ديلاكروا قد تبنى كل كآبة هاملت ليزرعها، بخاصة في المحفورات التي حققها، فإنه في الحقيقة أوصل ذلك البعد كله إلى نهايته القصوى في تلك اللوحة الصغيرة (5،29 سم × 36 سم) التي رسمها في العام 1839، وتوجد الآن معلقة في متحف اللوفر وعنوانها «هاملت وهوراسيو في المقبرة». هذه اللوحة تصور، مبدئياً، لقطة من الفصل الخامس - المشهد الأول، من مسرحية «هاملت»، حين يكون الأمير الدنماركي الشاب المكتئب، برفقة هوراسيو، يزوران المقبرة فيشاهدان حفّار القبور وهو يخرج جمجمة ويصرخ «أواه... أيها البائس يوريك! لقد كان فتى ذا نسغ لا حدود له...». من الناحية المبدئية لا وجود لأوفيليا، حبيبة هاملت في هذه اللوحة، لكن الواقع يقول لنا، على ضوء أحداث المسرحية، ولكن أيضاً وبخاصة على ضوء ملامح هاملت نفسه، أن أوفيليا هي الحاضر الأساسي في اللوحة. هي حاضرة من خلال المشهد ككل وموقعه في المسرحية، وحاضرة أيضاً على سمات هاملت نفسه وفي نظرته إلى الجمجمة. وبحسب المشاهد، للتيقن من هذا أن يعود إلى سمات رسم حققه ديلاكروا نفسه بعد ذلك بأربع سنوات بعنوان «موت أوفيليا» ليرى مدى التطابق بين ملامح أوفيليا وهي تموت، وملامح هاملت وهو ينظر إلى الجمجمة. إن كل هاملت هنا، وكل شكسبير وديلاكروا أيضاً. وإذا كان بودلير كتب يوماً عن الوجود النسائي في لوحات ديلاكروا نصاً يمكن اعتباره من أعمق وأجمل ما كتب عن أعمال هذا الرسام، فإننا بتفحص عن كثب سنجد كم أن هذا النص ينطبق على لوحة «هاملت وهوراسيو في المقبرة» حتى وإن كانت خالية من الوجود النسائي المباشر. يقول بودلير في نصه: «في شكل عام، لا يصور (ديلاكروا) نساء جميلات، من وجهة نظر الناس العاديين على أي حال. إن كل بطلات ديلاكروا، تقريباً، سقيمات لكنهن يشعن بنوع من الجمال الداخلي. وديلاكروا لا يعبّر أبداً عن القوة من طريق رسم العضلات الضخمة، بل من طريق توتر الأعصاب. وليس الألم وحده هو ما يعرف ديلاكروا كيف يعبّر عنه بأفضل ما يكون، بل خصوصاً - وهنا يكمن سر الرسم الرائع - هو يعبر عن الألم المعنوي، الروحي! ومن هنا يلاحظ كيف أن الكآبة القصوى والجادة تبرق لديه حتى في الألوان، في الكتل اللونية المتساوقة، الفسيحة، البسيطة، الكثيفة، كما هي الحال لدى كل الملونين العظام، لكنها هنا تلوح أيضاً شاكية وعميقة كما في ألحان فيبر». والحال أن تأملاً لكلمات بودلير هذه يجعلها تبدو وكأنها تصف هذه اللوحة نفسها. إذ حتى ملامح هاملت هنا تبدو أنثوية، إلى درجة أن ريش قبعته المتطاير يلوح كشعر فتاة تلعب به الريح، أما يده اليسرى فمستسلمة تماماً لذلك المصير الذي هو مصير أوفيليا، حبيبته وأناه الآخر في نهاية الأمر، وسابقته إلى موته الحتمي. إن هاملت هنا يبدو، تحت ريشة وألوان ديلاكروا، وكأنه هو الميت: أوليس موت روحه هو ما يهيمن، في نهاية الأمر على اللوحة؟. والحال أن ملامح وجه، وحركة جسد، هاملت في شكل عام، ليست عناصر الموت والكآبة الوحيدة في اللوحة، وكذلك ليس القبر وحفاره والجمجمة أكسسوارات ذلك الموت، بل إن حركة الطبيعة نفسها والأرض البنّية الجرداء والغيوم المتحركة، كل هذا يأتي ليسهم بدوره في خلق تلك الكآبة المكبلة التي يعيشها هاملت، وتعلن ما يشبه موته الخاص. كان من الواضح، في مسار أوصلته هذه اللوحة إلى ذروته، أن ديلاكروا وجد ضالته لدى شكسبير ورأى في هاملت خير شخصية تعبر عن ذلك الحس الرومنطيقي الذي كان يعتمل في داخله. ومن هنا لم يكن غريباً أن ينظر ديلاكروا إلى هاملت بصفته الشخصية الأكثر تعبيراً عن الموت الداخلي، وأن يضع - بالتالي - شكسبير في مصاف كبار نادبي المصير الإنساني، إلى جانب دانتي وهوميروس. ولم يكن - في هذا الإطار - من الصدفة أن تأكل الكآبة كل سمات الشخصيات الشكسبيرية التي رسمها، من روميو إلى كليوباترا (في لوحة «كليوباترا والمزارع»)، إلى ماكبث. وفي هذا الإطار قد يفيد أن نتذكر كم أن ديلاكروا كان يبدي إعجابه بقدرة معلّم المسرح الإنكليزي الكبير، على تصوير التعارضات، وكان يعطي مثالاً على هذا «موقف هاملت الغارق وسط جروحه وخيالاته ساعياً إلى الانتقام من ناحية، والتهريج مع بولونيوس والتلاميذ من ناحية ثانية، والتسرية عن النفس مع الممثلين من ناحية ثالثة». فهلا في إمكاننا أن نجد كل سمات هذا الموقف في هذه اللوحة الشكسبيرية بامتياز، لديلاكروا؟ حينما رسم أوجين ديلاكروا (1798 - 1863) هذه اللوحة كان في الحادية والأربعين من عمره، وكان بلغ من النضج والشهرة ما أرضاه وجعله قادراً على الانصراف إلى التعبير عن دواخله، في لوحات صغيرة حميمية، بعدما كان رسم العديد من الأعمال الكبيرة، التاريخية والوطنية بخاصة. وديلاكروا كان في صباه درس الموسيقى قبل أن يلتحق بمحترف الفنان بول غيرين. وهو منذ التقى جيريكو في العام 1816، راحت تتكوّن لديه ملامح أساليبه الفنية المقبلة، لا سيما بعدما تعرف أيضاً إلى أعمال فيرونيزي وغويا وروبنز. وكانت لوحته الكبيرة الأولى «دانتي وفرجيل» فاتحة أعمال ضخمة ولافتة سوف يظل يرسمها حتى آخر أيامه، وتجعل منه - ناهيك بما فعلت رحلته إلى المغرب - واحداً من كبار الرسامين الرومنطيقيين، ليس في زمنه وحده، بل في كل الأزمان. [email protected]