الاستشراق ونقده محور فكري - سياسي - فلسفي أطلقه من غبار الأكاديميا الراحل الكبير إدوارد سعيد فكأنه أطلق الجنّي من القمقم وما عاد في الامكان حبسه من جديد. وفي كتاب أخير للبريطاني روبرت إيروين بعنوان"لأجل النهم الى المعرفة: المستشرقون وأعداؤهم"يستعيد المؤلف طروحات واستخلاصات شهدت أخذاً وردّاً طوال حقبتين من الزمن تقريباً حاول خلالها أبطال الاستشراق الغربي وعلى رأسهم عميده"الشيخ"برنارد لويس، نحّات عبارة"صراع الحضارات"تبديد العاصفة التي أثارها سعيد وتفنيد مقولته الشهيرة من أن الاستشراق فرضية سياسية سلّطها الغرب القوي على الشرق الضعيف بهدف السيطرة والهيمنة ناهيك عن الاستعمار والعنصرية. وإذ يأخذ إيروين الموقف المتضامن مع لويس في صورة عامة تراه يعيد الجدل البيزنطي الى بداية الرواق، فكتابه زاخر بالتناقضات الحادة التي برز ما يماثلها في بعض ما ورد في كتابات سعيد، ثم انتقلت الى كتابات نقاده وإن على مستويات تراوحت بين الجدية وبين القدح والذم. والواقع ان إيروين لا يترك فخاً يعتب عليه مما وقع فيه سابقوه، فهو يلجأ الى لغة مشبعة بالبهارات اللفظية كقوله ان كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد مملوء بپ"متاهات من الانعطافات الخاطئة"أو انه"تخييلي"أو"احتيال خبيث". مع ذلك يقول إيروين انه يوافق سعيد على أفكاره عن فلسطين واسرائيل وكيبلينغ وغلين غولد، لكنه يخالفه الرأي في ما يتعلق بأصول اللغات وروابطها، إذ كان سعيد يرفض وجود أسرة هندو - آرية من اللغات بحسب مقولات المستشرقين الألمان الذين ربطوا بين السنسكريتية والفارسية والألمانية على أساس ان قواسمها المشتركة تفوق ما بينها وبين اللغات السامية. وما هي سوى صفحات حتى يكتب إيروين ان كتابه ما كان ليرى النور لو لم يظهر"استشراق"إدوارد سعيد. واللافت ان هذا النوع من اللعب على حبال التناقضات موجود في كتابات المستشرقين منذ القرن السابع عشر، وما فتئ يتكرر حتى يومنا هذا. ينبش إيروين مجموعة مستشرقين غريبي الأطوار بينهم غيّوم بوستيل، وهو فرنسي من القرن السادس عشر، كان في التاسعة والعشرين من عمره حين ترأس قسم الدراسات العربية في باريس، لكنه كان أيضاً مهووساً بامرأة تدعى ليدي جوانا، وهي ساحرة ادعت رؤية ما لا يُرى بما فيه ابليس جالساً في مركز الأرض! كتاباته في المجالات"الرؤيوية"أرسلته الى السجن مرات عدة، بل أمضى السنوات العشرين الأخيرة من حياته بين السجن وأعتاب منزله، غير ان شخصيته المحببة انقذته من المقصلة وأبقت كتبه خارج الحرق الذي كان سائداً في تلك الفترة. الى بوستيل يكشف إيروين عن الباحث اليسوعي أثناسيوس كيرشير في القرن السابع عشر، تخصص في المصريات القديمة واللغتين القبطية والعبرية، كما كتب عن المسلاّت، والمومياءات، وورق البردى، والبدائل الكتابية الصينية، اضافة الى أساليب اختراق الكتابة المشفّرة والموسيقى والقارّة الضائعة، أطلانتيس، وأيضاً أنواع زقزقة العصافير، وفلك نوح، والمصابيح السحرية والبراكين والرياضيات وعلم الأهرامات... وهناك في كتاب إيروين أساتذة مغمورون درّسوا في أوكسفورد ولندن واستشرقوا، من دون أن يعني ذلك تورطهم من قريب أو بعيد في خطط أو مرام سياسية، مما هو حجر الزاوية لنقد الاستشراق بحسب رؤية إدوارد سعيد. يجتاز إيروين مرحلة القرون الوسطى بسرعة ليركز في شكل أوسع على مستشرقي القرن المنصرم، وهنا أيضاً يشطح أبعد مما ورد في كتب معاصريه وكتاباتهم البحثية الخصبة، فهو يقيم، على سبيل المثال لا الحصر، علاقة عضوية بين القص الاسلامي - العربي وبين حكايات روائية غربية من مطلع القرن العشرين، مثل روبنسون كروزو ودراكولا، مصاص الدماء. ثم يعمد الى التخفيف من حدة"صراع الحضارات"كما هندسها برنارد لويس خالصاً الى ان المسيحية الغربية لم تهتم كفاية بدراسة الاسلام والشرق، بقدر عدم الاهتمام الذي أولاه الاسلام للغرب، علماً ان شقّي هذه الخلاصة يفتحان مجالاً واسعاً للنقد والنقض اكثر مما يحققان يقيناً للقارئ. وتلك ايضاً من عادات المستشرقين على ما يبدو. مع ذلك يفاجئنا إيروين بباقات لا تخلو من الزهو بين الفينة والأخرى، فمن كان يدري ان كريستوفر كولومبوس اصطحب معه مترجماً عربياً لظنه ان الأقاصي التي لم يكتشفها بعد تلهج بلغة الضاد؟ ولا يلبث ايروين ان يعود الى ثوابت ادوارد سعيد قائلاً ان عدداً كبيراً من المستشرقين قارب مهمته عن سوء نية، بينهم مسيحيون رأوا في النبي العربي تهديداً غير مسوّغ، وبروتستنتيون أو كاثوليكيون هاجموا الاسلام كحيلة لمهاجمة بعضهم بعضاً، ومتحررون، على غرار فولتير، مدحوا الاسلام بهدف نقد المسيحية. ويقول ان بعض الجامعات في الغرب اليوم يجهد لإبعاد اليهود عن مجال الدراسات العربية درءاً للاشكالات السياسية وإثارة حفيظة المسلمين المتشددين، بينما أوقفت جامعات اخرى، مثل هارفرد، بحوثها الاسلامية. ولا يسع القارئ، في اختتام كتاب إيروين، إلا ان يختار بين الاستمرار في النهم الى معرفة أوسع بخصائص هذا السجال الاستشراقي الغريب او الاكتفاء بقبول ما لا يختلف عليه اثنان: المستشرقون وأعداؤهم رواقيون في حالة دروشة لا نهاية لها! مداولات صاخبة من جهة أخرى يجوز القول ان كتاب إيروين مدخل مناسب لإعادة النظر في المداولات الصاخبة التي أثارها كتاب ادوارد سعيد عن الاستشراق ناهيك عن كتبه وكتاباته اللاحقة. ذلك ان نقاداً مرموقين في بريطانياوالولاياتالمتحدة باتوا يعتبرون طروحات سعيد مرفوضة ومفندة ومجاباً عليها ولو ان الجنّي الذي أطلقه ما زال حياً يرزق. من بين هؤلاء على سبيل المثال فهم كثر المفكر والباحث الباكستاني، الهندي الأصل، ابن ورّاق الذي اتخذ هذه الكنية تيمناً بابن الورّاق المعروف أصلاً بتمرده، وهو اليوم مقيم في الولاياتالمتحدة، محاضر في جامعاتها. معظم ردوده تفكيك للكثافات البلاغية عند سعيد ومساجلات في المعرفاتية وعلم الوجود، ولكن أيضاً افتراءات لفظية لا مسوّغ لها كاعتباره كتابات سعيد إرهاباً فكرياً."علّم جيلاً من العرب فن الشفقة على الذات، إذ يقول انه لولا الاستعمار والعنصرية الصهيونية كنا صرنا كباراً من جديد. مما شجع الاسلاميين الأصوليين من جيل الثمانينات، وأسكت أي نقد للاسلام، حتى انه أوقف أبحاث الاختصاصيين في الإسلام عن نشر أوراقهم خوفاً من الاساءة الى مشاعر المسلمين وبالتالي إلصاق التهمة بهم بأنهم"مستشرقون"". ويضيف ابن ورّاق ان سعيد وضع في سلة واحدة كتّاباً وباحثين ومستعربين وشعراء ورحالة ومؤرخين كان همهم الانغماس في معرفة الشرق والغرف من موحياته على مستويات عدة من دون ان يجمع بينهم رابط"خفيّ"أو هاجس استعماري. يكتب سعيد في"الاستشراق":"وهكذا أنجبت الحملة النابوليونية سلسلة من النصوص، من شاتوبريان"بيان الرحلة"الى"رحلة في الشرق"للامارتين، الى"سالامبو"لفلوبير، وفي السياق نفسه"أطباع وعادات المصريين المعاصرين"لإدوارد لاين، كذلك"قصة حجّي الى المدينة ومكة"لريتشارد بيرتون. ما يربط بينهم هو اسطورة الشرق والعكاز المعرفي كون الشرق هو الرحم الذي أنجبهم". ويكتب ابن ورّاق:"ماذا يعني سعيد بقوله ان الحملة النابوليونية ولّدت نصوصاً عدا ان تلك الأعمال كتبت بعد 1798؟ هل يعني انها أعمال استوحت أو استلهمت الحملة النابوليونية وكانت بالتالي جزءاً منها وما كان لها ان تُكتب لولا تلك الحملة؟ أين البرهان على ذلك؟ وما الذي يجمع بين تلك الأعمال؟". ويذهب ابن ورّاق الى تفكيك حجة سعيد بعرضه منجزات الكتّاب المذكورين وفراداتها المميزة كل على حدة، خصوصاً لاين وبيرتون اللذين درسا العربية في تعمّق بل اصبح"منجد لاين"حجة ومرجعاً لكل مترجم للقرآن الكريم الى الانكليزية، وما زالت مشاهدات وملاحظات بيرتون ناهيك عن ترجمته الرائعة لپ"ألف ليلة وليلة"مرجعاً عالمياً للثقافة العربية - الإسلامية لا نظير لها حتى اليوم. والواقع ان ابن ورّاق يكتشف كمّاً طائلاً من المغالطات التفصيلية في"استشراق"سعيد خصوصاً في مجال التحقيق التاريخي، لكن أيضاً في مجال تحليل النصوص واستخلاص معانيها، حتى فهم ادوارد سعيد لدانتي في فصل"الجحيم"من الكوميديا الإلهية مفنّد في دقة تؤدي الى عكس ما توخاه سعيد. الأمثلة كثيرة ولعل أقواها حجة ما يتعلّق بالأثر السلبي - الإيجابي للاستعمار، فبينما يرى ادوارد سعيد ان الحملة النابوليونية على مصر كانت بداية الاطماع المعاصرة للغرب في الشرق ولا يذكر الفوائد التنويرية التي تركتها، يتفق كثر، عرباً وغربيين، وبينهم نجيب محفوظ، ان تلك الحملة كانت بمثابة جرس اليقظة من سبات طويل ولحظة صحو وإدراك وبداية وعي سياسي وثقافي. ردود ساحقة يركّز سعيد على ان"الاستشراق"عموماً جزء لا يتجزأ من سياسة الغرب في الشرق:"المستشرق يمنح المعرفة اللازمة للسيطرة على الشرق"في نظره. وهذه النقطة المحورية لعمله تعرّضت لسيل من الردود ذات الحجج الساحقة أحياناً، إن من الغرب أو من الشرق، بل بعضها جاء بأقلام عرب يكنون له القدر الذي استحقه من الاحترام والتقدير، ناهيك عن الصداقة الشخصية مثل ألبرت حوراني الذي كتب"ان كل الكلام المثار بعد صدور كتاب ادوارد الاستشراق له أيضاً مخاطره، فهناك رد فعل لدى المسلمين مفادها انهم وحدهم يفهمون الاسلام"وپ"بات الاستشراق اليوم كلمة بذيئة، علماً انها تعني علماً محترماً تماماً... واعتقد بأنه سعيد ذهب بعيداً بقوله ان المستشرقين سلّموا الشرق الى القوى الاستعمارية، فإدوارد يتجاهل تماماً النتاج الفلسفي والتاريخي الألماني الذي كان أساساً في تقاليد الاستشراق". صادق جلال العظم الذي رأى ايجابيات في بعض طروحات"الاستشراق"رأى أيضاً"ان الاسلوب والخطاب لدى إدوارد سعيد يطغيان غالباً على المفكر العلمي لديه. ... لا أستطيع موافقة سعيد على ان عقلية المستشرقين أعمتهم عن حقائق المجتمعات الإسلامية وقطعاً شوّهت أفكارهم عن الشرق في صورة عامة. أليس حقيقياً، على سبيل المثال، ان سكان الشام والقاهرة اليوم يشعرون بوجود الغيب في حياتهم أكثر من الباريسيين واللندنيين؟ أليس واقعاً ان الدين يعني كل شيء للمغربي والجزائري والفلاح الإيراني أكثر مما يعنيه لأمثالهم في أميركا أو القلقاز؟ وأليس مسلّماً به أن قوانين الطبيعة متجذرة في عقول طلاب موسكو ونيويورك أكثر مما هي فبي طلاب الأزهر وجامعة طهران؟". من جهته يرى نديم البيطار تعميمات سعيد عن المستشرقين صعبة القبول. كنعان مكية يضم صوته الى القائلين بأن إلقاء اللوم على الغرب في مجمل ما يعانيه الشرق من أمراض يؤدي الى حجب حقيقة المشكلات التي يعيشها الشرق الأوسط في صورة خاصة ويرفع المسؤولية عن الظلم والطغيان والتخلّف الناتج عنهما. إعجاز أحمد، على غرار ابن ورّاق، يكرّس مئات الصفحات لتفنيد ودحض نظرية سعيد عن المستشرقين. لعل أبرز النقاط السلبية وضوحاً في مجمل ما أورده نقاد ادوارد سعيد هي تغييب الدور المضيء للمستشرقين الألمان، وبالتالي الهولنديين والروس والايطاليين وبعض اليهود المتنورين الذين اعتبروا الاسلام ديناً شقيقاً ودرسوه في موضوعية ايجابية لا لبس فيها مثل بول كراوس وأبراهام غيغر. لكن الفجوة المحيّرة في عمل سعيد تبقى الحذف الجمعي للجرمانيين عموماً فعلى رغم ضخامة أعمال غولدزايهر في الدراسات الاسلامية المعمقة التي طاولت الحديث والفقه والسيرة والقراءات القرآنية، ما يضع مؤلفها في قمة مستشرقي القرن التاسع عشر، يختصره سعيد في ثلاثة سطور بينما يكرّس ثلاث صفحات لهنري كيسينجر."أصبحت مقتنعاً في قراراتي بأنني أنا نفسي مسلم، ففي وسط آلاف المؤمنين في القاهرة ألصقت جبيني بأرض المسجد. ولم أكن في حياتي أكثر إيماناً، بحق، مما كنت عليه في تلك الجمعة المباركة"هذا ما كتبه غولدزايهر في"الدراسات المحمدية"1889. أما رينان، الذي يتعرّض هو أيضاً لنقد إدوارد سعيد كونه، مثل جميع المستشرقين الذين أتوا بعد المستشرق الفرنسي سيلفستر دي ساسي، بنظر سعيد"ناهب ارشيف الشرق ومحرّفه"ومؤسس علم الاستشراق وملهم رينان، علماً أن رينان، على غرار فولتير، وغيره من المستشرقين، ناقش نفسه بنفسه وانتقد انطباعاته الأولية عن الشرق والإسلام وخلص مثل فولتير تماماً الى رؤية ايجابية يمكن وصفها بأي شيء إلا بالتمهيد للاستعمار والهيمنة:"من النافل قولنا ان أي حركة اصلاحية ستظهر في الاسلام، لا ينبغي على أوروبا التدخل فيها، بل سيكون من الحيف ان تتدخل في أديان الآخرين. وبينما لا ضرر في متابعة الدعوة الى العصرنة، عليها ان تترك للشعوب المهمة الدقيقة جداً في ترتيب تقاليدهم الدينية في موازاة حاجاتهم، وان تحترم الحقوق المشروعة للأمم والأفراد، في الحكم المستقل، والحرية التامة، بصرف النظر عن تطلعاتها أوروبا الشخصية". لا شك في أن حجم القراءة الواردة أعلاه لا يعدو كونه عجالة تومئ وتشير اكثر مما تغطي الأبحاث والدراسات والكتب التي تصدّت للاستشراق بحسب رؤية ادوارد سعيد، وليس كتاب روبرت ايروين سوى الحلقة الأخيرة في سلسلة كرّت بلا انقطاع منذ صدور"الاستشراق"منتصف السبعينات، مما أعاد قراءة الشرق ومناقشته، انساناً وحضارة، الى طاولة الفكر العالمي في دينامية لا ينكرها أحد.