لا يمكن الاستخفاف بأطروحة ادوارد سعيد بالقول انها تبسيطية، أو تنتمي الى مرحلة النقد الاستعماري الماضية. ولا يتعلق ذلك بصحة الأطروحة أو عدم صحتها، فهي شديدة الإشكالية، وسأعود لذلك لاحقاً. ومع ذلك فالاهتمام بها ضروري للتأثير الضخم الذي تركته لدى العرب والمسلمين ولأنها شديدة الدلالة على فساد العلاقات الثقافية والسياسية بين المسلمين والغرب منذ زمن طويل. والواقع ان نقدية سعيد الجذرية كشفت تلك الأزمة العلائقية في عملية جراحية باترة. وفي ظروف شديدة التأزم كتلك التي تمر بها العلاقات على المستويات كافة، قد يكون ذلك ضرورياً، كما قلت، لإزالة الاوهام، بوضع "كشف حساب" ظالم ومبتسر ولا شك، لجدليات القطيعة والتواصل، في المئتي عام الأخيرة، بين هاتين الحضارتين الكبيرتين. هذا هو الجانب الايجابي من الأطروحة، اذا جاز الحديث عن ذلك. أما الجانب الإشكالي الأول، فيتصل بما سبق ذكره من تأثيراتها على العرب والمسلمين. فالمعروف ان القوميين والإسلاميين بدأوا بنقد الاستشراق من وجهات نظر أصالية قبل العروي وأنور عبدالملك وسعيد بزمان طويل. وعندما صدر كتاب سعيد وترجم للعربية اعتبروه بمثابة "وشهد شاهد من أهلها" حسب تعبير القرآن. وزادهم يقيناً النقد الساخر والسريع الذي وجهه للكاتب الماركسي السوري صادق جلال العظم. فتعاملوا مع الكتاب باعتباره عمل مثقف عربي كبير يعرف دخائل تلك الثقافة، ويفضح زيفها وتآمرها على العرب والمسلمين، باعتبارها الأداة أو العين التي ينظر منها الغرب الى أمورنا، بقصد الهيمنة من جهة، والتشويه من جهة أخرى. ولذلك فقد أضيف للإحساس بالخطورة، استخفاف من جانب الجمهور، وحتى بين تلامذتنا اليساريين والاسلاميين. ولا يتحمل ادوارد سعيد مسؤولية ذلك طبعاً. وقد حاول تصحيح، بعض ما أسيئ فهمه من آرائه في رسالته: هوامش على الاستشراق، دونما فائدة تقريباً. وقد كان لكتابي بريان تيرنر: ماركس ونهاية الاستشراق، و ماكس فيبر والإسلام الأثر نفسه مثل كتاب سعيد، وإن ظلا أقل شهرة، لأن سعيد اشتهر في الثمانينات بكتاباته عن فلسطين والقضية الفلسطينية، بحيث ما عاد أحد يقبل أي كلام في انتقاده. وما صدّق أحد من الجمهور أذنيه عندما سمع ادوارد سعيد يهاجم حركة "حماس" الفلسطينية بسبب الهجمات الانتحارية التي قامت بها عناصر منها، ومات فيها مدنيون. على ان كتاب الاستشراق ما أثر فقط في جمهور القراء من العرب والمسلمين، بل أثر أيضاً بطريقة مختلفة طبعاً في المستشرقين. فقد وقف أكثرهم ضد الكتاب، وهذا مفهوم. لكن الشبان من بينهم، وبخاصة في فرنسا يأبون منذ الثمانينات ان يسموا مستشرقين، ويقولون انهم مختصون بدراسة اجتماعيات الإسلام، بينما يصر آخرون غالبيتهم من البريطانيين والألمان على تسمية اختصاصهم Islamwissenscaft أو Islamic Studies - ويصر فريق ثالث على انه مؤرخ بالدرجة الأولى، ومعنى بتاريخ الشرق الأوسط أو التاريخ العربي والإسلامي الوسيط أو التاريخ القانوني للمسلمين أو التاريخ الأدبي للعرب أو تاريخ اللغة العربية... الخ. والواقع ان ذلك هو أهم ما يؤخذ على الاستشراق، أعني طبيعة الهوية أو مدى كونه علماً مستقلاً أو فرعاً من تخصص رئيسي. وقد ركّز ادوارد سعيد على هذه النقطة، لكنه لم يُصب فيها. ويذكر البروفسور Johansen قصة Fleischer مع والده عندما ذهب لباريس لعند De Sacy لدراسة اللغة العربية. وجوهر القصة ان الاستشراق ما كان علماً مستقلاً أو واضح الانتماء، بل كان يقع بين اللاهوت والتاريخ. وقد تحسن الأمر في ما بعد، لكن الدولة الألمانية عيّنت Ranke مؤرخاً رسمياً للدولة العثمانية" ليشير عليها في السياسات التي ينبغي اتخاذها تجاه تلك الدولة، ولم تعين احداً من المستشرقين، لأن الانطباع العام كان ان ذلك من عمل المؤرخين والمستشرقون ليسوا منهم، وبخاصة ان أكثر هؤلاء أتوا في ألمانيا بالذات من صفوف اللاهوتيين، لكنهم ما عادوا إليهم. وهنا أجد نفسي مضطراً لمخالفة الاستاذ Johansen مرة اخرى. فاللاهوت الليبرالي ما كان يدّعي لنفسه مهمة تحريرية أو نهضوية، على الأقل، خارج ألمانيا. وهذا معنى استنكار Wellhausen لنشاطات استاذه Ewald السياسية، والتي لا يليق بلاهوتي ورجل العلم الخوض فيها. ولذلك ارى ان لرومانسية القرن الثامن عشر أثرها الباقي حتى القرن التاسع عشر، والتي تجلت في الاهتمام باللغة العربية، وبالتاريخ العربي الإسلامي، حسبما هو معروف عن المدرسة التاريخانية Historismus. الاستاذ غابوريو راض عن تطورات الاستشراق الفرنسي في العقود الاخيرة، في حين يبدو يوهانسن متشائماً في شأن الاستشراق الألماني بعد الحرب الثانية. والواقع ان غابوريو مسرور لاعتقاده انه وجد اخيراً الهوية العلمية للاستشراق، أعني علم اجتماعيات الاسلام، أما المراحل الكلاسيكية فتدخل في علم الدين المقارن. ويبدو ان الاستاذ يوهانسن يريد للاستشراق الألماني تطوراً مثل تطور الاستشراق الفرنسي، بحيث تنتهي الفيلولوجيات والتاريخانيات لصالح مناهج العلوم الاجتماعية والانسانية، وانضواء الاستشراق تحت لوائها. ولذلك فقد كان في عرضه شديد التقدير للمستشرق Carl Heinrich Becker لميوله الاجتماعية، وارادته الدخول في زمرة علماء الاجتماع. وأنا أرى ان بيكر مؤرخ، أقرب الى جماعة الانثروبولوجيا الثقافية، وليس الى ماكس فيبر على رغم صداقته له. ادوارد سعيد تجاهل هذه الحيرة لدى المستشرقين، ومضى معهم في دعواهم انهم علم مستقل، ثم حاسبهم على ذلك الاساس، فصاروا مسؤولين بمفردهم تقريباً عن تلك العلاقة السيئة بين الشرق والغرب، بأعمالهم لصالح حكوماتهم الاستعمارية: رؤية أو افكاراً أو ممارسات. وأذكر انه عندما كنا ندرس بTubingen وظهرت عروض عن كتاب ادوارد سعيد، أردا أحد الزملاء اليساريين المتحمسين ان يتحدى استاذنا Heinz Halm في مسألة عمل المستشرقين للاستعمار، في ما تذكّر غير نموذج المستشرق المتقاعد وقتها Rudi Paret الذي أخبرنا انه كان يعمل مترجماً في جيش الماريشال Rummel عندما كان الاخير يقود العمليات في ليبيا والصحراء الغربية أثناء الحرب العالمية الثانية! ونموذج بيكر وهارتمان في العمل لصالح حكومتهما أثناء الحرب الأولى، و عدم جدوى ذلك مفيد في تبيان هشاشة العلاقة بين مؤسسة الاستشراق والدولة. والخلاصة، ومن دون التقليل من أهمية ما أنجزه المستشرقون طوال قرن ونصف، ما كان هؤلاء أساسيين أو رئىسيين في تحديد توجهات بلدانهم تجاه الشرق الإسلامي، ولا في التأثير في الافكار والممارسات في قلب المجتمعات الأوروبية. ولذلك أحسن ادوارد سعيد صنعاً عندما كتب "الثقافة والامبريالية" بعد "الاستشراق" بنحو العشر سنين. فقد عالج فيه التوجهات والافكار التي طرحها او أثّر فيها أو حملها الفلاسفة والشعراء والروائيون والمؤرخون تجاه الشرق. وهؤلاء سواء عملوا مع السلطات أم لم يعملوا، فإن المعرفة التي ينشرونها ذات سلطة فعلاً، وأضيف اليهم الآن، بل ومنذ أكثر من ثلاثة عقود: الاعلاميون. في العالم الذي ظهر كتاب ادوارد سعيد، او قبله بأشهر صدر كتاب جون وانسبورو عن القرآن، ثم ظهرت دراسات النقدية الجذرية من جانب Crone وCook وHawting وRippin وZimmermann وCalder. وتوهم هذه الدراسات عودة للأصل أو لفيلولوجيا Wellhausen وNoldecke، بينما الأمر غير ذلك تماماً. وفي الثمانينات سادت لدى شباب المستشرقين احدى نظريتين انثروبولوجيتين لتفسير أصل الاسلام وتطوراته المعاصرة. نظرية E. Gellner أو نظرية C. Geertz. وقد تبارى المستشرقون الشباب وتنافسوا في اثبات انه لم يكن هناك شيء في القرن السابع الميلادي / الأول الهجري Tabula Raza؟ وصار إنكار كل شيء بما في ذلك تدوين القرآن أو وجوده، موضة تستند الى الانثروبولوجيا. وما عادت معارف المستشرقين الهائلة في اللغات والتاريخ والنصوص تجتذب احداً في الجامعات الغربية. وانصرف المراجعون الجدد إما الى هدم ما بناه المستشرقون السابقون، أو البدء بالانكار والنفي واكتشاف اللامفكر فيه... الخ. وهكذا كأنما كان ادوارد سعيد بحملته على الاستشراق الكلاسيكي ينعاه بالفعل. في ذكرى مرور 25 سنة على ظهور كتاب ادوارد سعيد: الاستشراق، يبدو ذاك الاختصاص العملاق ممزقاً ومتهاوياً يهرب منه الجميع قبل ان تأتي على صرحه النيران. اما السائد فهو ما صار يعرف بأنثروبولوجيا الإسلام، وهذه رؤية جديدة غير محددة الهوية أو الانتماء يستطيع ان يمتطيها من يشاء. وأما ما يبقى من كتاب ادوارد سعيد فهذا الجهد الكبير في الجمع والتقميش، وان علاقات الاسلام بالغرب سيئة منذ مئتي عام، وان الذنب عند الغرب، وأنه اذا كان لا بد من اللقاء، فلن يكون الا خارج السؤال، أو خارج المكان! والخلاف مع ادواراد سعيد، ليس على سوء علاقتنا بالمغارب، بل على مسؤولية الاستشراق في ذلك. وعلى أي حال، فإنه مع "شرق أوسط" بوش "الكبير" لا يبقى هناك مجال واسع للحديث حتى عن علاقة خصم سعيد الرئيسي، برنارد لويس، بهذا الشرق، أو بأي شيء آخر له علاقة به. ولله الأمر من قبل ومن بعد. * كاتب لبناني. والنص ألقي اخيراً في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت لمناسبة مرور خمسة وعشرين عاماً على صدور كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد" وكان تعليقاً على المستشرقين الفرنسي غابوريو، والألماني يوهانسن 22/1/2004.