أفرزت الانتخابات النيابية في كانون الاول ديسمبر 2005 خريطة سياسية جديدة حصدت فيها قائمة"الائتلاف العراقي الموحد" الشيعية حصة الاسد ب 130 مقعداً برلمانياً من مجموع 270، واستحوذت قائمة "التحالف الكردستاني" على 56 مقعدا و"جبهة التوافق" السنية على 44 مقعداً، فيما تراجع الليبراليون الى 25 مقعداً لقائمة اياد علاوي و11 مقعداً لقائمة صالح المطلك. لكن قائمة منفردة لم تنجح في تحقيق غالبية الثلثين وبات تشكيل الهيئة الرئاسية، وتالياً تشكيل الحكومة، بحاجة الى تحالف قائمتين كبيرتين على الاقل. استعاد الاكراد والشيعة تحالفهم السابق مع بداية العام متجاوزين خلافاتهم، خصوصاً ما يتعلق منها برفض الاكراد اعادة ترشيح رئيس الوزراء السابق ابراهيم الجعفري لولاية جديدة . الاميركيون طرحوا سريعاً مبدأ حكومة وحدة وطنية تضم السنة سبيلاً لتهدئة الاوضاع في المدن الثائرة في غرب البلاد. لكن المعادلة اشد تعقيداً من ذلك. فالمصالح والاهداف والنيات متباينة بين شركاء الحكومة، والجدل السياسي حول برامج الكتل والحكومة والمرشحين انتهى مع منتصف شباط الى طريق مسدود. فتنة الاربعاء الاسود صبيحة يوم 22 شباط كانت استثنائية. استيقظ العراقيون على تفجير مرقد الامامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء شمال بغداد. عملية خطط لها بعناية, فيما لم يجب احد لاحقا عن الاسئلة التي ظلت معلقة حولها. تقتحم مجموعة مسلحة مساء 21 شباط الضريح"أحدهم يرتدي ملابس عسكرية مرقطة وثلاثة يرتدون بدلات سوداء"فيزرعون عبوتين ناسفتين كبيرتين على الاقل داخل المرقد، ما أدى الى انهيار القبة بشكل كامل وجزء من الجدار الشمالي. عمت التظاهرات الغاضبة أرجاء سامراء ومدناً عراقية كثيرة منددة بالحادث مرددة"اسمك يالهادي يلوك النة"و"بالروح بالدم نفديك يا امام"وانتشرت عمليات قتل وتهجير واسعة النطاق ضد السنة في مناطق كثيرة. وسجّلأ اجماع الزعماء العراقيين، سنّة وشيعة واكراد، على أن الهدف من الاعتداء على مقام الإمامين تفجير الفتنة الطائفية. وعلى رغم مطالبة المرجعيات الدينية، وفي مقدمهم المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني و"هيئة العلماء المسلمين"و"الحزب الإسلامي"، العراقيين بالتهدئة لم تتوقف حملة الاعتداءات الواسعة التي طاولت مساجد سنية في معظم محافظاتالعراق. امتدت الازمة وتشعبت، وبدا واضحاً انها لن تنتهي بدعوات التهدئة وحدها. حمل سياسيون شيعة شعار"رد الفعل العفوي"في تبرير عمليات القتل على الهوية التي سادت العراق بشكل سافر، واتهمت ميليشيات تابعة لأحزاب فاعلة بتنفيذها منذ ذلك الحين، فيما انتقل الشعار سريعاً الى السياسيين السنة الذين اعتبروا عمليات القتل والتهجير المقابلة"ردود افعال ودفاعاً عن النفس امام هجمات الميليشيات وفرق الموت". خرجت الاوضاع عن السيطرة، وعاشت المدن المشتركة طائفياً، وأبرزها بغداد، أسوأ لياليها تحت وقع الانتقام الطائفي المتبادل. لا تشير احصاءات رسمية موثوقة الى عدد قتلى العنف الطائفي منذ احداث سامراء، لكن الارقام اليومية باتت تأخذ منحى تصاعدياً: 1500 ضحية في شباط، 2000 في آذارمارس، و3000 في ايار مايو. تقديرات وزارة الصحة العراقية تشير الى سقوط نحو 40 ألف عراقي في احداث عنف متفرقة، بينها عمليات اغتيال وهجمات بسيارات مفخخة، خلال عام 2006، فيما تتحدث تقارير اخرى بينها تقرير نشرته مجلة"ذي لانسيت" في 13 تشرين الاول اكتوبر عن رقم يقترب من 200 ألف قتيل من بين 650 ألفاً سقطوا منذ الغزو الاميركي للعراق. باب الى الحكومة الازمة الطائفية الخانقة فتحت الباب امام تذليل العقبات لتشكيل الحكومة. ففي 22 نيسان ابريل عقدت الجلسة الاولى للبرلمان ثم أجلت نحو شهر حتى 20 ايار، حين اتفقت الكتل السياسية على اختيار نوري كامل المالكي القيادي في"حزب الدعوة"رئيساً جديداً للوزراء خلفاً لرئيس الوزراء ابراهيم الجعفري الذي اثار حفيظة الاكراد بعدما وقع مع تركيا اتفاقات امنية نهاية شهر شباط، وخاض منافسة مع عادل عبد المهدي القيادي في"المجلس الاعلى للثورة الاسلامية"كادت تطيح بوحدة"الائتلاف". اتفق الفرقاء العراقيون، الذين اختلفوا في معظم مراحل تشكيل الحكومة، على استبعاد الجعفري غير المرغوب به اميركياً أساساً، وأعلن السنة والاكراد قبولهم بأي مرشح آخر. لكن الجعفري، الذي استبق الاحداث بعد استقرائه التطورات السياسية بعناية، وقع تحالفاً مع الزعيم الشاب مقتدى الصدر الذي حصد انصاره 30 مقعداً برلمانياً داخل قائمة"الائتلاف"يتضمن جملة من البنود المعلنة والسرية، ابرزها إلحاق عناصر التيار في مناصب حكومية وامنية متميزة ومؤثرة في القرار الحكومي مقابل تعهد الصدر بضمان اعادة انتخاب الجعفري لولاية جديدة. جاء الحل بتسوية بعد استشارة آية الله السيستاني: اختيار رئيس الوزراء من الحزب الذي ينتمي اليه الجعفري نفسه الدعوة. واختيار"أبو اسراء"المالكي جاء ليضمن مواثيق الصدر من جهة ويرضي المعترضين من جهة ثانية، ووصفه الرئيس الاميركي في زيارة الى بغداد منتصف العام بأنه"الرجل القوي"فيما تعهد المالكي في اول مؤتمر صحافي له من كردستان العراق نهاية ايار بالعمل على تشكيل الحكومة بأسرع وقت، وشدد على ضرورة حل الميليشيات ما اعتبر بادرة جيدة لمرحلة جديدة. التشكيلة الحكومية اعلنت في 20 أيار بالاتفاق على المناصب الرئاسية الثلاثة: هيئة الرئاسة: جلال طالباني كردي رئيساً وطارق الهاشمي سني وعادل عبد المهدي شيعي نائبان للرئيس. رئاسة الوزراء: نوري المالكي شيعي رئيساً، وبرهم صالح كردي وسلام الزوبعي سني نائبا الرئيس. ورئاسة البرلمان: محمود المشهداني سني رئيساً وخالد العطية شيعي وعارف طيفور كردي نائبان. ومن ثم اختيار 37 وزيراً، 19 شيعة و8 أكراد و5 لكل من السنة والعلمانيين، في توليفة من المحاصصة الطائفية وجد الليبراليون انفسهم فيها من دون دور يذكر فيها فيما ظلت مشكلة اختيار وزيري الدفاع سني والداخلية شيعي معلقة الى ما بعد اسبوعين من ذلك التاريخ بسبب رفض الجانب الاميركي اختيار"شخصيات طائفية"لهذين المنصبين كما قيل. على هامش الصورة يوقد العراقيون في ليلة الميلاد شموعاً لاستذكار قتلاهم. يهرعون الى طوابير الانتظار للحصول على وقود يحيي الدفء في أمسياتهم الباردة, ويختبئون خلف الاعمدة والى جوار الجدران الهرمة من اعين القتلة ورصاص الاحتلال ورسائل التهديد والتهجير خلال رحلتهم الانتحارية لكسب قوت اليوم المغمس بالدم والدموع. يحملون ذاكرة وطن استحال خراباً الى ابواب السفارات الاجنبية بعدما يئسوا من الاستمتاع بساعة صفو او يوم بلا شلال دم. لكن حكومتهم لن تسمح في اكثر تصريحاتها اثارة "لمغامرين على صهوة دبابات ومخابرات اقليمية بانتزاع كل هذه الانجازات التي تحققت".