الصفحة الجديدة التي فتحتها الانتخابات النصفية للكونغرس الاميركي بانتصار الديموقراطيين وباستقالة وزير الدفاع رونالد رامسفيلد يجب ألا تنحصر في العراق، بل يجب ان تؤدي الى مراجعة شاملة للسياسة الاميركية نحو ايران واسرائيل وسورية وفلسطينولبنان. هذه المراجعة المعمقة ستؤدي بالتأكيد الى الكف عن التلقائية والاتوماتيكية الخطيرة في افتراض ان دعاة اجتياح العراق أرادوا اجتياح ايران وسورية، وان الخروج الاميركي من العراق يتطلب بالضرورة الانصياع لما تريده طهرانودمشق في العراق والمنطقة. فالمحافظون الجدد الذين ساقوا الولاياتالمتحدة الى حرب العراق يزعمون أنهم دعاة الديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط الذين خططوا جيداً لحرب مفيدة فشلت بسبب انعدام جدارة الذين نفذوها. هذه المجموعة من المتطرفين أسيء فهمها تكراراً، انما ليس بسبب براءة ايديولوجيتها وأهدافها بل بسبب مغالاتها وتذاكيها وهي تصنع الحروب في المنطقة العربية من أجل اسرائيل وايران والنفط بعنصرية ضد العرب. الآن، وفي زمن طلاق جورج بوش عن هذه الزمرة، يجب ان يتجنب الجمهوريون التقليديون الذين يسترجعون رئيسهم من أحضان الايديولوجية الوقوع في أخطاء"الواقعية"و"البراغماتية". يجب ان يتجنبوا مكافأة ايران مرتين في العراق: عند غزوه، وعند الانسحاب منه، لأن في هذا انحساراً خطيراً للمصالح الاميركية في المنطقة وخطراً على موقع العظمة الاميركية في السباق الآتي على هذا الموقع مع الصين وحلفائها. يجب ان يستغل الجمهوريون التقليديون الفرصة المتاحة من أجل تغيير جذري في السياسة الاميركية يوصل الى حل عادل للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، يجب ان يمنعوا سقوط التجربة الديموقراطية في لبنان لأنها، عكس العراق، أتت سلماً من الداخل اللبناني ودُعمت دولياً، وهي معرضة للانكسار عنفاً على ايدي ايران وسورية من جهة واسرائيل من جهة أخرى. فالطريق الى انسحاب تدرجي أميركي من العراق والى بقاء محترم في المنطقة يكمن في قلب المقاييس على الاملاءات الاسرائيلية على السياسة الاميركية والاملاءات الايرانية - السورية على المنطقة. جورج بوش تحرر من عبء المحافظين الجدد الذين اختطفوه وارتهنوه في حرب الارهاب وحرب العراق بعدما وعدوه بالزهور استقبالاً له ولحملته ضد الديكتاتورية والسلطوية والأنظمة المستبدة. تسرعوا الى حرب لم يستعد لها العسكريون، وضللوا الشعب الاميركي بمنهجية حول أهداف الحرب في العراق. وعندما تبين ان هذه الحرب على وشك تثبيت هزيمة اميركية، ليس لأن الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى المتنازعة منتصرة، بل لأن هذه الحرب غير قابلة لتحقيق الانتصار، بادروا الى التملص من الرئيس الاميركي قبل ان يتخلى هو عنهم. بادروا لأنهم شموا رائحة عودة قطار الجمهوريين الكبار، بمعنى القيادات التقليدية بين الجمهوريين المحافظين الى التأثير في البيت الأبيض كما اثبتت الاستعانة بوزير الخارجية السابق جيمس بيكر للخروج من ورطة حرب العراق، بادروا الى التملص من جورج بوش كي لا يتم تحميلهم عبء الهزيمة لأن بوش الذي يعرفونه لن ينسحب من العراق بالفورية الضرورية، ولن يعزز القوات الأميركية بالأعداد الضرورية، وهذان هما الخياران الوحيدان لتحقيق الانتصار. دونالد رامسفيلد أدخل زمرة المحافظين الجدد الى عمق صنع السياسة الاميركية من خلال مجلس غير منتخب لا تطاله المحاسبة، تحكم بالسياسة الخارجية عبر البنتاغون وضم أمثال ريتشارد بيرل وبول وولفوفيتز الذي تولى منصب نائب وزير الدفاع. هؤلاء نسقوا مع حلفائهم في مكتب نائب الرئيس ديك تشيني وخطفوا السياسة الخارجية من وزارة الخارجية وحطموا عمداً وزير الخارجية حينذاك كولن باول. هذه الزمرة التي تضم ايضاً ديفيد فرام ودوغلاس فايث واليوت أبرامز وجيمس وولزي ومايكل لادين ووليام كريستول وغيرهم، تعمدت تعطيل"رؤية"جورج بوش لسلام يحقق العدل للفلسطينيين فعملوا منهجياً على تحطيمها. هؤلاء هم الذين تعمدوا معارضة جهود معالجة النزاع العربي - الاسرائيلي قبل غزو العراق، بل حرصوا على الاندفاع الى حرب العراق من دون انتظار معالجة النزاع العربي - الاسرائيلي. المحافظون الجدد وحلفاؤهم في المؤسسات الفكرية الاعتذارية عن اسرائيل اصيبوا بالرعب عندما أدلى جورج دبليو بوش بأول خطاب استراتيجي حول الشرق الأوسط في شهر نيسان ابريل عام 2001 لأنه تضمن نقلة نوعية في السياسة الأميركية نحو اسرائيل وفلسطين. بدأوا حملاتهم ومدّوا السلّم الى بوش للتسلق نزولاً عن تعهداته المدهشة وأتى نتيجة ذلك خطاب حزيران يونيو الذي انحدر من إنهاء الاحتلال عام 1967 الى معمعة عن انهاء احتلال ما. ثم، وبفضل جهد وتماسك حملة المحافظين الجدد، جاء خطاب نيسان لعام 2002، ليسجل لهم انتصاراً، اذ انه سجل تراجع جورج دبليو بوش عما قاله تماماً قبل سنة. وجاء ذلك بفضل الصبر والإصرار والاستراتيجية التي اعتمدها هؤلاء لضمان منع جورج دبليو بوش من تنفيذ رؤيته بقيام دولة فلسطين مكان الاحتلال الاسرائيلي، الى جانب دولة اسرائيل على حدود أقرب ما يمكن الى حدود 1967. جاء ارهاب 11 أيلول سبتمبر لعام 2001 هدية ثمينة في أيادي هذه الزمرة من أجل إلصاق الارهاب بالفلسطينيين وتعطيل الشراكة الفلسطينية - الاسرائيلية في العمل نحو السلام. بالطبع، ساهمت أعمال ارهابية فلسطينية ضد المدنيين في تسويق هذا الموقف. ولكن، كان القرار الاستراتيجي السياسي لزمرة المحافظين الجدد"الاستفادة"من ارهاب 11 أيلول لإلصاق الارهاب بالفلسطينيين، قيادة وشعباً وأفراداً. وهكذا كان. وهكذا تم احباط"رؤية"جورج دبليو بوش ونجحت استراتيجية جر الولاياتالمتحدة الى حرب ايديولوجية في العراق ليست فقط لاستدعاء الارهاب الى عقر الدار العراقية بوهم قهره هناك، وانما أيضاً لحماية اسرائيل من استحقاقات الاحتلال كما من استحقاقات السلام ثم اضافة، تصرفت هذه الزمرة من منطلق اسقاط الأنظمة العربية ومحاولة تقسيم دول المنطقة من خلال تغذية الصراعات المذهبية. وفي رأي هذه الزمرة، تعتبر ايران"شريكاً"ضرورياً، اذ انها تحتضن اكثرية شيعية تشكل اقلية في العالم الاسلامي. وحسب تصور المحافظين الجدد، لم يسبق ان خاضت ايران حرباً أو وقعت في مجابهة مباشرة مع اسرائيل في أي زمن كان. وبالتالي، فهذا يؤهلها أكثر للشراكة العملية مع الولاياتالمتحدة، بغض النظر عن المهاترات العلنية الأميركية والاسرائيلية تجاهها منها. نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني قد يكون من الذين أعادوا النظر في البعد الايراني في أعقاب حرب العراق، ولذلك يبدو عازماً على منع استفادة ايران من تحالفها مع سورية في لبنان ويبدو كذلك معارضاً لمكافأة الابتزاز الايراني في العراق. لكن ديك تشيني بات في الذهن الاميركي أكثر ارتباطاً بفساد الشركات وبفشل المغامرة في العراق ولذلك فمساهماته في صنع السياسة الخارجية باتت مقيدة ومحدودة لا سيما بعد إقالة بوش لرامسفيلد، صديق تشيني وشريكه العزيز. الآن، وبعدما وضع الرئيس الأميركي أحد أركان الطاقم التقليدي في عهد والده في منصب وزير الدفاع روبرت غايتس، الذي سبق وكان نائباً لبرنت سكاوكروفت وهو أقرب المقربين إلى بوش الأب، تقع على عاتق الطاقم الجديد مسؤوليات كبرى تتطلب الجرأة والإقدام للاستفادة من دروس أخطاء المحافظين الجدد كما من عجز الديموقراطيين عن التقدم بأي خطط وبرامج أو سياسات أو اقتراحات تتعدى الفوز نتيجة أخطاء الآخرين. أحد أهم الدروس هو أن التغيير عبر الحروب والفوضى ايديولوجية فاشلة، كذلك أن التغيير الذي يُفرض من الخارج من دون مراعاة لأولويات الداخل يؤدي الى تفاقم العداء للذي يفرضه، وعليه فحرب العراق درس مهم في فشل فكر واستراتيجية المحافظين الجدد الذين تجرأوا بغطرسة فاقعة على خوض حرب العراق قبل معالجة القضية الفلسطينية الأساسية. الاستفادة من هذا الدرس يجب أن تتمثل في تبني الجمهوريين القدامى سياسة جريئة نحو النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي تُحيي رؤية جورج دبليو بوش كما جاءت في خطاب نيسان ابريل عام 2001، في انقلاب جذري على المحافظين الجدد. هذا يتطلب أن يقوم جيمس بيكر بإدراج مسألة فلسطين في طليعة متطلبات الخروج من المأزق العراقي. يتطلب منه أن يواجه إسرائيل واللوبي الاعتذاري عنها ليقول علناً ما قاله تكراراً وراء الكواليس وفي الجلسات الخاصة، وهو أن المصلحة الأميركية العليا تتطلب التحديق في عيون السياسيين الإسرائيليين بصرامة ليسمعوا جلياً أن مرتبة القوة العظمى السوبر باور التي تتفرد بها الولاياتالمتحدة الأميركية لم تعد قابلة للهدر لمجرد حماية التعنت الإسرائيلي في رفض متطلبات السلام مع الفلسطينين ورفض انهاء الاحتلال. جورج دبليو بوش هو صاحب ذلك الخطاب وتلك الرؤية. وهو الآن قادر على التفكير بمعزل عن هيمنة المحافظين الجدد على فكره ليدرك أن الشراكة العربية معه في الحرب على الإرهاب تتطلب قطعاً ازاحة المسألة الفلسطينية عن الطاولة. بمعنى، أن الشراكة الضرورية تتطلب المعالجة الجذرية للقضية الفلسطينية بعدالة وانهاء للاحتلال، وهذا بدوره ينتشل فلسطين من أحضان التطرف ومن مخالب استغلال القيادتين الإيرانية والسورية للقضية الفلسطينية لغايات تخريبية في العراقولبنان وفي معادلات حرب الإرهاب. الأمر الآخر الفائق الأهمية للإدارة الأميركية تحت تأثير الجمهوريين القدامى هو لبنان. فإذا ارتكب هؤلاء خطأ التضحية بلبنان باعتباره ليس مادة استراتيجية ونفطية غالية، فإنهم يرتكبون بذلك أحد أفدح الأخطاء وأكثرها كلفة للولايات المتحدة. فأي أفكار تدخل في خانة الصفقات مع سورية هي في الواقع انتهاك وتدخل فاضح في التحقيق الدولي في عمليات إرهابية تمثلت باغتيالات منهجية في لبنان أودت بحياة حوالي 35 شخصاً. أي صفقة مع سورية يفكر بها عند هذا المنعطف الجمهوريون القدامى الآتون مجدداً الى البيت الأبيض، ستتطلب بالضرورة التضحية بمحاكمة الضالعين في هذه الاغتيالات التي صنفها مجلس الأمن بأنها إرهابية. وبهذا فأي صفقة هي صفقة مع الإرهاب وضد المحاكمة ورضوخ أمام الابتزاز باسم الواقعية أو البراغماتية. وللتأكيد، فإن الجمهوريين القدامى يجب أن يفهموا ويدركوا أن هذا الملف ليس قابلاً للتفاهمات وراء الكواليس حتى وإن كانت دمشق هي مفتاح الانسحاب الأميركي السلس من العراق. فالتحقيق قطع اشواطا مهمة، والشراكة مع القيادة السورية في صفقات الآن سترتد على مَن يقوم بها وتكلفه غالياً. وبالتالي، لتنتظر القيادات البراغماتية التحقيق ولتقر هيئة ونظام المحكمة ولتنتظر اثبات براءة سورية قبل ابرام الصفقات مع دمشق. الديموقراطيون المنتصرون في انتخابات الكونغرس فازوا بسبب غضب الناخب الأميركي من توريط المحافظين الجدد وجورج دبليو بوش للولايات المتحدة في حرب العراق. فازوا بسبب فشل الآخرين وليس نتيجة برنامج متكامل تقدموا به للعراق أو لغيره. واقع الأمر، أن الديموقراطيين يريدون انسحاباً تدريجياً من العراق ولا يتقدمون بالوسائل الني تجعله آمناً للقوات الأميركية أو بالمنطق الذي يجعل من الانسحاب انتصاراً. فأميركا لا تريد الانتصار. إنها تريد الهرب من الحرب غير القابلة لتحقيق الانتصار في العراق. جورج دبليو بوش لا يوافق، وهو سيبقى في منصب الرئاسة لسنتين مقبلتين. الديموقراطيون المسيطرون على الكونغرس سيتاجرون بحرب العراق للاستفادة الحزبية. وواقع الأمر أنهم هم أيضاً مسؤولون عن هذه الحرب وهم يتملصون من المسؤولية. واقع الأمر، أن جورج دبليو وحده هو الذي ليس مقتنعاً بأن الانسحاب هو في مصلحة اميركا، لأنه يجد العراق أهم ساحة في حرب الإرهاب. الآخرون يريدون الانسحاب، تدريجياً، بأفواج، ضمن فترة زمنية، بأي شكل كان. يريدون الانسحاب. الرأي العام الأميركي الذي يحتفي الآن بانقلابه على رئاسة بوش وعلى تحكم وغطرسة المحافظين الجدد يغامر بمرحلة أخرى من سوء فهمه وسوء حساباته. انه الرأي العام ذاته الذي سمح بحرب من دون أن يفهم مقاصدها ويدقق في أهدافها. وهو الرأي العام الرافض الإقرار بمركزية القضية الفلسطينية في الذهن والشراكة العربية الضرورية مع الولاياتالمتحدة لإلحاق هزائم بقوى التطرف والارهاب. ما لم يكتسب الرأي العام الأميركي حس العدالة ويتجرأ عليها، وما لم يتجرأ على تحدي الهيمنة الاسرائيلية على القرارات الأميركية نحو منطقة الشرق الأوسط، يكون قد ساهم مساهمة انتقالية ومرحلية ومارس حقوقه الانتخابية لمجرد التعبير عن الغضب وليس من أجل اصلاح ضروري وجذري في السياسة الأميركية وفي كيفية ممارسة المواطنة الأميركية لمسؤولياتها. بين أهم هذه المسؤوليات الفصل بين التجربة الفاشلة في العراق وبين التصدي الضروري لطموحات ايران. هذا يتطلب من الأميركيين أن يكفّوا عن الكسل وعن عادة التلقين التلفزيوني لهم كوسيلة لفهم التاريخ والمستقبل في جملتين. فهذه مرحلة تاريخية حاسمة ليس فقط لمنطقة الشرق الأوسط، بل أيضاً للمصالح الأميركية فيها وفي العالم، كما للاقتصاد الدولي، كما للتنافس على دور القوة العظمى بين اميركا والصين وحلفائهما. انها صفحة أخرى في اختبار الصدقية الأميركية.