القاسم المشترك بين استراتيجية الرئيس الاميركي جورج بوش للعراق واستراتيجية الرئيس السوري بشار الأسد لسورية هو ان الاثنين في حال نفي وإنكار، وفي مزاج عناد ومواجهة. بوش لن يعترف بأخطائه ولن يصحح سياسته، ولذلك لن يوافق على استراتيجية خروج من العراق ولن يعدل سياساته نحو ايران أو نحو اسرائيل وفلسطين. ما سيفعله هو تدريب الجيش العراقي على القيام بما فشل الجيش الاميركي في القيام به، وهو هزم الارهابيين والمقاومة عبر ابشع أنواع القتل بغض النظر عن الكلفة الانسانية أو الانطباع العالمي أو المحاسبة الاقليمية. فهكذا تتصرف الجيوش العربية، حسب التقدير الاميركي، وما سيتميز به الجيش العراقي للقيام بالمهمة هو التدريب الخارق للعادة. أما الرئيس السوري فإنه سيلجأ الى المواجهة للمواجهة اينما كان وكيفما كان ويبحث عن اكثر من حليف بين الشركاء التقليديين في ايران وفلسطين والعراقولبنان. مشكلته انه يراهن على مغامرة وانه دخل حرباً بلا حلفاء وبلا استراتيجية خروج أو بقاء. الفارق الأهم بين بوش في العراق والأسد في سورية هو ان هزيمة الأول ستؤدي الى لملمة الشموخ والطموحات الاميركية والعودة الى الولاياتالمتحدة بكلفة غالية انما ليست باهظة، اما هزيمة الثاني فستأتي على حساب شعبه في عقر داره ولأسباب لا علاقة لها سوى باستمرارية نظام بدلاً من معاقبة من تجاوز عليه وورطه من افراد وأجهزة أمنية. قد يقال ان افتراض الهزيمة ليس في محله وان من المبكر جداً اطلاق الأحكام سواء عن فشل استراتيجي اميركي في العراق أو عن خيار استراتيجي سوري خاطئ حيال المطالب الدولية التي نص عليها مجلس الأمن الدولي بالاجماع في القرار 1636. لكن من الممكن القول ايضاً ان افتراض الانتصار في اي من الاستراتيجيتين سابق لأوانه ايضاً، وقد يكون مستحيلاً في حالة او في الحالتين. الملفت ان كلاً من الرئيس الاميركي والرئيس السوري ألقى خلال هذين الاسبوعين خطاب انكار الواقع ونفي المعضلة التي يقع كل منهما فيها لأسباب مختلفة تماماً والتي تترتب عليها عواقب مختلفة كلياً. دافع بوش عن حربه في العراق وتظاهر بأن إدارته لم ترتكب اثماً أو خطأ ولم تضلل او تخترع مبررات. ودافع الاسد عن نظامه وتظاهر بأن كل الضغوط الدولية عليه ذات علاقة بالمطالب الاميركية نحو العراق وفلسطين ولا علاقة لها بلب المعركة الدولية معه وهو التعاون الصادق مع التحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. انها حال النفي في أرقى درجاتها وهي تأتي إما غباء أو كسياسة مدروسة، والأرجح ان النفي سياسة مدروسة مهما بدت عليه ملامح الادعاء. السؤال المطروح الآن أميركياً يصب في خانة الخيارات المتاحة ازاء ما بات يسمى الورطة الاميركية في العراق وهي: أ- الانسحاب شبه الفوري تجنباً للمزيد من الكلفة البشرية والتكاليف المادية التي تمثلت حتى الآن بأكثر من الفي جندي اميركي وأكثر من 350 بليون دولار. ب- البقاء في العراق بالسياسة ذاتها التي تبنتها إدارة بوش بغض النظر عن فشلها في أكثر من مجال وايقاع اميركا في حرب مع المقاومة العراقية ومع الجهاديين تبدو غير قابلة للانتصار. ج- ادخال تغيير جذري على السياسة الاميركية في العراق يتمثل في استراتيجية خروج متكاملة ركنها الرئيسي الافتراق مع السياسة التي تصورها المحافظون الجدد عندما وضعوا خطط غزو العراق واحتلاله. ال"د"التي يتصورها بعض المؤثرين في السياسة الاميركية هي خيار"المقاولة بالباطن"بحيث توكل الى الجيش العراقي مهمة البطش الفاحش الذي سبق وتذمرت منه الإدارة الاميركية في عهد صدام حسين وسبق وزعم المحافظون الجدد وصقور إدارة بوش انه ضد"مبادئهم"الداعية الى الديموقراطية واحترام الانسان وحقوقه. انهم يتكلمون اليوم عن الإضطرار والحاجة ويتحدثون عن"الامكانية"من زاوية"قدرة"العرب على البطش والقمع وعدم توافر تلك القدرة عند الاميركيين. في هذا التصور الكثير من العنصرية، لكن فيه ايضاً عوامل ذات علاقة بالمحاسبة في المجتمعات الديموقراطية. كثير من النقاش والدعوات والمناورات الرامية الى التظاهر بأن هناك استراتيجية خروج أو بقاء أميركية في العراق يصب في خانة الاستيعاب والاستهلاك الداخلي. هذا لا ينفي ان التفكير جدي بين المفكرين والمعلقين وفي الندوات والدراسات والمؤتمرات الفكرية الدولية والاميركية في كيفية الخروج من الحلقة المفرغة في العراق. المعلق في صحيفة"نيويورك تايمز"نيكولاس كريستوف، طرح فكرة برنامج زمني للانسحاب، لكن مع تعهد واضح بأنه لن تبقى في العراق قواعد اميركية على الاطلاق. هذا اقتراح منطقي وجريء لكنه لن يرى النور ولن يقبل به الديموقراطيون اذا افترضنا انه مقبول من الجمهوريين. رأي كريستوف ان الانسحاب الفوري الآن، بعدما وصل العراق الى الورطة الواقع فيها في تحويله الى ساحة حرب ومواجهة على الارهاب هو"غير اخلاقي"لأنه يترك العراق هشاً وجاهزاً للتقسيم والتشرذم، وهو محق في هذا الرأي. لكن من ناحية أخرى، بات بقاء القوات الاميركية في العراق جزءاً جذرياً من الحرب التي يقول جورج بوش تكراراً انها حولت المعركة بعيداً عن المدن الاميركية لتجعل من العراق الجبهة الرئيسية في الحرب على الارهاب. ولذلك يوافق كريستوف على ضرورة ايقاف وهم الاعتقاد بأن في البقاء انتصاراً لاميركا وسياساتها. اقتراح وضع برنامج زمني للانسحاب والتعهد بعدم اقامة أية قواعد أميركية في العراق يعني في قاموس جورج دبليو بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد الانهزام. وهؤلاء رجال لا يتكلمون لغة الهزيمة حتى وإن كلفت الفرد الأميركي والشعب الأميركي غالياً. لذلك، سيبقى هؤلاء الرجال في نفي وانكار. وأكثر ما قد يفعلونه هو التفكير في"مخرج"من نوع آخر على نسق تكليف الجيش العراقي بمهمة البطش الدموي الانتقالية فيما يعد الجيش الاميركي للقواعد المتوخاة. أثناء لقاء لنخبة من الخبراء في موضوع العراق قبل شهر بدعوة من"ديتشلي فاوندايشن"برز نوع من الاجماع على استحالة الانسحاب الفوري أو البقاء على المسار ذاته، اذا كان للعراق ان يتعافى أو للولايات المتحدة وبريطانيا ان تستدركا الفشل الاستراتيجي لهما في العراق. وبرز شبه اجماع على ضرورة تغيير منهج وسياسة ادارة جورج دبليو بوش بما يميز بين المقاومة وبين الارهاب داخل العراق وبما يشمل خطاباً سياسياً جديداً ومخاطبة مباشرة مع ايران. واقع الأمر ان بوش - تشيني ليسا في مثل هذا الوارد اطلاقاً. فهما لا يعترفان بأن هناك مشكلة في السياسة الأميركية نحو العراقوايران، وبالتالي فإنهما يرفضان تغيير هذه السياسة أو تصحيحها. وحسبما تفيد المؤشرات فإن أحد مقومات الانتصار في"الحرب على الارهاب"، حسب تصور ادارة بوش - تشيني، هو خيار"المقاولة بالباطن"، بمعنى تكليف الحكومات والجيوش العربية والمسلمة بمهمات القضاء على"الارهاب"بأية وسائل كانت. فاستخدام القوات الاميركية مادة الفوسفور الأبيض التي تدخل في خانة الأسلحة الكيماوية - ضد المتمردين العراقيين في الفلوجة أمر يحاسب عليه الأميركيون في الرأي العام العالمي. اما قيام الجيش العراقي، مثلاً، باستخدام هذه المادة، فإنه أقل وطأة - حسب تقدير بعض الجهات الأميركية التي تعترف بأن هناك ناحية ازدواجية ونفاقاً في المسألة. فصدام حسين، عندما استخدم الاسلحة الكيماوية ضد شعبه كان صديقاً للولايات المتحدة حينذاك وكانت هذه شريكاً له في حربه مع ايران. وقد جاء التشهير ببطش صدام حسين وقمعه فقط بعدما أصبح"الشيطان"في رأي الادارات الاميركية. سياسة"المقاولة بالباطن"مفيدة جداً في تقوية حكم الأجهزة الأمنية في المنطقة العربية مما يتناقض تماماً مع مزاعم الادارة الاميركية بأنها تريد للمنطقة الديموقراطية والتحرر من تسلط الأجهزة الأمنية. من ناحية أخرى، تخوض واشنطن معركة، في اطار شراكة دولية، ضد تجاوزات الأجهزة الأمنية في لبنان وسورية حيث يبدو انها لا تخشى ان يؤدي اسقاط هذه الأجهزة إلى انتصار الارهاب والتطرف مع انها تعتقد أن افواج الارهابيين المتوجهة الى العراق تأتي عبر الحدود السورية - العراقية. والأمر مثير للتفكير في المعادلات والمواقف الاميركية والسورية. الرئيس السوري، حسبما نشرت صحيفة"القدس العربي"، قال في لقاء مع"الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي"ان سورية مستعدة لمواجهة كل الاحتمالات الناتجة عن مواجهة يتوقعها مع"لجنة التحقيق الدولية المستقلة"التي يترأسها ديتليف ميليس ومع الولاياتالمتحدة. قال ان سورية تساند"المقاومة المشروعة"في العراق، وهي لن تنفذ طلبات ضرب"المقاومتين اللبنانية والفلسطينية"، وطالب بأن"لا تخضع حكومة لبنان لأي أجندة اميركية واسرائيلية مثل قبول نزع سلاح المقاومة والرضوخ لأي املاءات خارجية"حسب الصحيفة. وزاد انه يهيئ نفسه وبلاده لمواجهة مع لجنة ميليس والولاياتالمتحدة قد تمتد لسنوات وأن سورية مستعدة لمواجهة كل الاحتمالات بما فيها الحظر والعقوبات والمقاطعة. كلام الرئيس السوري تزامن مع حملة تلطيف ديبلوماسية اتهمت ميليس بالتعنت وأبرزت استعداد دمشق للتعاون مع اللجنة وتلبية طلبات استجواب المسؤولين السوريين انما خارج لبنان. وكان لافتاً ان يتوقع الرئيس السوري"المواجهة"فيما كانت الديبلوماسية السورية تقدم التعهدات بالتعاون التام. فلا داعي للمواجهة اطلاقاً اذا كانت دمشق حقاً موافقة على تقديم المسؤولين الأمنيين الى الاستجواب على أيدي اللجنة الدولية المستقلة بمن فيهم رئيس الاستخبارات السورية وصهر الرئيس آصف شوكت، واذا كانت مستعدة لمحاسبة ومعاقبة أي وكل من ضلع في العمل الارهابي الذي تمثل في اغتيال رئيس حكومة لبنان السابق. لكن الأكيد ان الأفضل لسورية تجنيبها المواجهة والعقوبات والمقاطعة مهما كان"انتاجها يتحسن وتستطيع ان تحقق اكتفاء ذاتياً في العديد من الأشياء الضرورية"، كما نقل عن لسان الرئيس بشار الاسد اثناء اللقاء فمصلحة سورية تقتضي الفرز الصادق للخيارات ولعواقب المواجهة، والقيادة الحقيقية هي التي تأخذ البلاد الى الازدهار وليس تلك التي ترهب البلاد في عقلية الحصار.