تتحدث بعض التقارير عن سعي الزعماء العرب إلى عقد لقاء على مستوى القمة مع الرئيس جورج بوش لإقناعه بضرورة تغيير سياسته قبل أن تندلع النيران في المنطقة العربية بأسرها. وإذا صح ذلك فهو يدل بكل وضوح على أن التخبط الأميركي في الشرق الأوسط قد بلغ مستويات كارثية جعلت حتى أكثر الأنظمة المعتدلة والموالية لأميركا تتخلى عن حذرها وتعبر علنا عن ذعرها. فهل يرضى بوش بالاستماع إلى رأي أو انتقاد في لقاء مع مجموعة من القادة العرب؟ قد يكون معذورا إذا ما رأى أن الوقت غير ملائم، فهو يخضع لضغوط داخلية شديدة حول الحرب في العراق في وقت يركز فيه كل اهتمامه على الانتخابات القادمة في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. ولذلك فإن آخر ما يريده هو الحديث العلني عن سياسته في الشرق الأوسط. وقد يعتذر بوش عن لقاء أقرانه العرب غير أنه لا يمكن أن يتجاهل إشارات التمرد ضد كل من سياساته هذه. من بين هذه الإشارات المقاومة الصلبة التي واجهت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس خلال زيارتها للمنطقة هذا الأسبوع. أجل إنها استقبلت بلباقة - فالسعوديون والمصريون وقادة الخليج مضيافون ومهذبون - ولكن ما جرى خلف الأناقة الديبلوماسية كان في الواقع رفضا لكل ما قالته وجاءت لتحقيقه. وكان أكثر ما أثار استياء العرب محاولة رايس تقليل الاهتمام بالنزاع العرب - الإسرائيلي والتركيز على ضرورة تعبئة"المعتدلين"في المنطقة ضد"المتطرفين"وخصوصا تجاه إيران. ورأى العرب في هذه المحاولة ممارسة فجة لسياسة"فرق تسد". ذلك أن أول ما يلح العرب على طلبه من واشنطن هو وضع حد للعدوان الإسرائيلي ووقف التوسع وإقناع إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967، وإجبارها على التفاوض على سلام مشرف مع جيرانها مما يسمح بإنشاء دولة فلسطينية. وهذه المطالب هي موضع اتفاق وتأييد من قبل"المعتدلين"و"المتطرفين"على السواء. ولكن يبدو أن عقد الآمال على الرئيس بوش في القيام بأي مبادرة من هذا النوع هو من قبيل صرخة في الهواء. فهو لا يملك على ما يبدو السلطة الشخصية أو الإلمام الكافي بالمشكلة كي يتخذ القرار الحاسم. فإدارته مشلولة بفعل الخلافات الداخلية العميقة، وأنصار إسرائيل من أمثال ايليوت ابرامز في مجلس الأمن القومي يبذلون كل ما في وسعهم لتخريب أي شيء يمكن لوزارة الخارجية أن تقترحه. ومن ناحيته يحاول ايهود اولمرت وحكومته، بعد الهزيمة في حرب لبنان، أن ينقذ حياته السياسية، وهو ليس في وضع يسمح له بالتحرك جديا نحو السلام. وفي هذه الأثناء يقوم المستوطنون المتطرفون المتدينون، وقد زادت الأزمة من جرأتهم، بتوسيع مواطئ المستوطنات غير الشرعية على التراب الفلسطيني، وذلك بتأييد ضمني من قبل الجيش والحكومة. ومن نافلة القول إن أميركا لا تفعل شيئاً لوقف هذا النشاط الخبيث الذي يهدم أكثر من أي شيء آخر كل إمكانية لتحقيق السلام. والمؤسف أن كوندوليزا رايس تعرف ذلك كله، ولكن لم تجد ما تقترحه سوى التخفيف نسبياً من عذاب أهالي غزة وذلك بوضع مراقبين دوليين على معبر كارني الذي تغلقه إسرائيل في معظم الأوقات. ومثل هذه الاقتراحات لا تجدي نفعا في الوضع السياسي الكارثي الذي يشهده القطاع. أما بالنسبة لأهداف أميركا في الشرق الأوسط، فهي إما مستحيلة البلوغ أو أنها مفرطة في التمزيق. وتتلخص هذه الأهداف بإجبار إيران على التخلي عن أنشطتها النووية عن طريق التهديد بالعقوبات، وقلب حكومة"حماس"المنتخبة بصورة ديموقراطية ودعم"المعتدل"محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، وعزل سورية المفرطة في المشاغبة، وتحييد"حزب الله". ومواصلة السعي لتحقيق هذه الأهداف قد أدت في نظر أي مراقب عادي، إلى عكس النتائج التي أرادتها أميركا. فإيران مصممة أكثر من أي وقت مضى على المضي في برنامجها النووي ذي الأغراض السلمية وغير عابئة بالصلافة الأميركية. وهي اقترحت أخيراً الاتفاق مع شركتين فرنسيتين متخصصتين بتخصيب اليورانيوم وذلك تحت رقابة فرنسية على الأرض الإيرانية. وهاتان الشركتان اللتان تملك الدولة الفرنسية أكثرية أسهمها هما"اريفا"، وهي أكبر شركة للطاقة النووية في العالم، والشركة الثانية المتفرعة عن الأولى أوروديف التي تربطها بإيران علاقات قديمة تعود إلى زمن الشاه. فإذا استطاعت أميركا التغلب على البارانويا التي تعاني منها بسبب إيران والدخول معها في حوار معقول، فإن الاقتراح الخاص بالتعاون مع فرنسا قد يوفر مخرجا معقولا للأزمة. وقد يفيد أيضا في تهدئة أعصاب إسرائيل التي تستمر في رصد أي خرق لاحتكارها النووي في المنطقة وتعتبره خطراً على وجودها. وقد ردد اولمرت ذلك أمام كوندوليزا رايس هذا الأسبوع مضيفاً من دون مبالاة أو خجل من موقفه الابتزازي: إذا لم تقم أميركا بخطوة ضد إيران فلن يبقى أمام إسرائيل إلا أن تقوم هي بذلك. وفي غزة دعمت أميركا إسرائيل في محاولتها لتدمير حركة"حماس"بفرض الحصار والتجويع والغارات على المدنيين خلافا لكل مبادئ القوانين الإنسانية، وأدى هذا الدعم الأميركي بهذه المدينة المكتظة والمعذبة التي يعيش 90 في المئة من سكانها تحت مستوى الفقر إلى حد الانهيار التام. فمتى تفهم إسرائيل وأميركا أنه كلما استمر القمع الوحشي للفلسطينيين واستمر نكران حقوقهم المشروعة ازدادوا تطرفا، وفي ذلك ما فيه من نتائج بالنسبة إلى أمن أميركا وربيبتها إسرائيل. أما في ما يتعلق بسورية و"حزب الله"فإن عزلهما وتحييدهما لا يمكن تحقيقه. فهما لاعبان أساسيان على مسرح الشرق الأوسط. فلا يمكن الوصول إلى سلام في المنطقة من دون عودة الجولان إلى الوطن الأم، وأما"حزب الله"فيشكل قوة سياسية أساسية في لبنان، ولذا فإن كل سياسة لا تراعي هذه الحقائق الواقعية محكوم عليها بالفشل. وأما التهديدات الأميركية بتغيير النظام في دمشق، واعتياد إسرائيل على اغتيال خصومها السياسيين - فاغتيال حسن نصرالله زعيم"حزب الله"مسألة مطروحة للنقاش - فإنها لا يمكن أن تحل محل الحوار والتسويات وحل حقيقي للنزاعات. فحل النزاعات، خصوصاً النزاع العربي - الإسرائيلي لا بد أن يصبح الأولوية الأميركية كما لم يفتأ العديد من زعماء العالم يلحون على ذلك. وفي هذا الأسبوع دعا 135 من الشخصيات العالمية، من رؤساء سابقين ورؤساء حكومة ووزراء خارجية ودفاع سابقين وزعماء من الكونغرس ورؤساء منظمات دولية، بمن فيهم الرئيس كارتر، الى القيام بعمل عاجل لحل النزاع العربي - الإسرائيلي. وهم يقترحون خطة من ثلاث نقاط : دعم حكومة وحدة وطنية فلسطينية ووضع حد للمقاطعة السياسية والمالية للفلسطينيين، ومفاوضات على الوضع النهائي بين إسرائيل والفلسطينيين، ومفاوضات بين إسرائيل وسورية ولبنان تحت رعاية اللجنة الرباعية والجامعة العربية والدول الرئيسية في المنطقة. وهذه هي في الواقع خطوات أساسية نحو الحل الشامل. غير أن أميركا ما زالت صماء إزاء هذه التمنيات. فالرئيس بوش والسيدة كوندوليزا رايس يتحدثان عن إنشاء دولة فلسطينية ولكنهما لا يفعلان شيئا على الصعيد العملي. كذلك الأمر بالنسبة لتوني بلير رئيس الحكومة البريطانية الذي يقول إن السلام في الشرق الأوسط سيكون همه الأول خلال الأشهر المتبقية له في الحكم غير أنه لم يترجم كلامه حتى الآن إلى واقع فعلي. ولا شك أنه لا يمكن تحقيق أي تقدم قبل أن تستعيد أميركا تحررها في صنع القرار من إسرائيل وحلفائها الأقوياء. فما دامت إسرائيل تقود أميركا لا يمكننا أن نتوقع حصول أي تقدم. وهنالك كثير من الإسرائيليين يعتقدون بأن هذه السيطرة على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لا تخدم مطلقاً المصالح الإسرائيلية العليا. والشرط الثاني المطلوب من أميركا هو أن تصر على مبدأ التعامل بالمثل في علاقتها مع الفلسطينيين. فكيف تطالب"حماس"بالاعتراف بإسرائيل وبالتخلي عن العنف واحترام الاتفاقات السابقة، في حين أنها ترفض الاعتراف بحقوق الفلسطينيين وتقتلهم يوميا وتخرق كل اتفاق تم توقيعه معهم؟ ولعل الخطوة الثالثة الضرورية هي أن يعلن الرئيس بوش مشروع خطة تتضمن المبادئ الأساسية لحل شامل في الشرق الأوسط، كما حاول الرئيس كلينتون ذلك بعد فوات الأوان واقتراب مدة نهاية ولايته، إذ دعم اقتراحه بإرادة سياسية حقيقية ومعونات مالية. إذن فالأسئلة الحقيقية المطروحة هي: هل تستطيع أميركا تغيير سياستها؟ وهل تسمح هيكلية السلطة السياسية في واشنطن بذلك؟ أم أن هذه الهرولة نحو الهاوية ستستمر هكذا دونما ضبط. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط