التفجير النووي الذي أقدمت عليه كوريا الشمالية أسهم كثيراً في رفع وتيرة السجال النووي القائم كما أوقع العديد من الجهات الدولية في حالة إرباك وفي الطليعة الولاياتالمتحدةواليابان وهما من أنصار التعامل بشدة لمعاقبة كوريا الشمالية على فعلتها، مقابل الصين وروسيا في معارضتهما اللجوء الى أي عمل عسكري. وقد أظهر التفجير النووي الكوري الشمالي في جملة ما أظهر هشاشة الوضع الدولي، حيث اهتز العالم من أقصاه الى أقصاه فور انتشار النبأ. ومن المفارقات التي أبرزها هذا الحدث هو أن النظام في بيونغيانغ ينفق المبالغ الطائلة على الانتاج النووي فيما الوضع الاقتصادي العام يبلغ أحياناً درجة المجاعة لدى شعب كوريا الشمالية، التي تعتبر من آخر معاقل الأنظمة الشمولية وما تبقى من الشيوعية العتيقة في العالم. وفي المداولات التي أجراها أعضاء مجلس الأمن الدولي دار الحوار حول ضرورة اتخاذ القرارات التي تؤذي النظام لكنها لا تؤذي الشعب المغلوب على أمره حيث يخشى في حالة فرض عقوبات صارمة ان تشهد حدود كوريا الشمالية حركة نزوح الى كوريا الجنوبية وحتى اليابان. وكان في طليعة الأطراف التي أصابها الاضطراب والإرباك الولاياتالمتحدة الاميركية والرئيس جورج دبليو بوش الذي وجد أن الخيارات العسكرية لمواجهة التفجير النووي الكوري الشمالي تضيق أكثر فأكثر أمامه، وكان من شأن الاتصالات العاجلة التي أجراها مع الصينواليابان أن أسهمت في"ترويض"التطرف الأميركي نظراً إلى محاذيره. فالرئيس الأميركي بدأ بالمطالبة بتفكيك المفاعلات النووية الكورية على غرار إصراره على تفكيك أسلحة"حزب الله" لكنه اضطر في نهاية الأمر الى الاكتفاء بصدور قرار قوي اللهجة محدود الفعالية من الناحية التطبيقية. والسؤال الذي طرح الآن: ما هي الأصداء التي يمكن أن تترتب بعد التفجير النووي الكوري الشمالي على الملف الايراني؟ وفيما كانت الادارة الاميركية تبحث في الوسائل الآيلة الى التعاطي مع الملف الايراني وتعطي الانطباع بأن صبرها بدأ بالنفاد حدث التفجير الكوري وكأنه رمية من غير رام خدمة لايران، وفي معرض البحث عن الحلول تداول الخبراء الاميركيون مجموعة من المعلومات المتصلة مباشرة بأوضاع منطقة الشرق الأوسط. وفي جملة ما ورد ما يأتي: "في الوقت الحالي لا بد من القول ان ايران تركب موجة ثقة عالية بالنفس، فعائدات النفط المرتفعة تتدفق على خزائنها حيث وصلت الى 55 مليون دولار العام الماضي، فيما جيرانها أضعفوا بشكل واضح. فالعراق غارق في فوضى شاملة، وأفغانستان وباكستان منشغلتان بحركة طالبان التي انبعثت من جديد. والحكومة اللبنانية تواجه ضغوطاً هائلة، ودول الخليج مذعورة، والأهم من ذلك أن الولاياتالمتحدة تجد نفسها مقيدة اليدين ونفوذها ورأسمالها السياسي في المنطقة هما في أدنى ما كانا عليه أبدا". وبالإضافة الى هذه الصورة البانورامية عن الوضع السائد في المنطقة تزايدت شكاوى واعتراضات خبراء يعملون في الادارة الاميركية من حيث ان الرئيس جورج بوش لا يكتفي فقط"بالاصرار على الخطأ، بل يصر على تكرار الخطأ نفسه". وأحد الأمثلة الواضحة تمسكه بوزير دفاعه دونالد رامسفيلد على رغم الأخطاء الكارثية التي ارتكبت في العراق. وفيما يزداد الوضع في العراق تدهوراً من الناحية الأمنية بدأ الرئيس بوش يتخلى عن سياسة المكابرة ويعترف بخطورة ما يجري، بدلاً من تصوير الوضع بصورة وردية وانتقاد منفذي سياسته في العراق. ويعلق الرئيس الاميركي الآن الكثير من الآمال على التقرير الذي سيرفعه اليه السياسي المخضرم ورفيق الرئيس جورج بوش الأب وهو وزير الخارجية السابق جيمس بيكر والذي يعكف على إعداد دراسة متكاملة للوضع في العراق وكيفية وضع استراتيجية للحد من الخسائر والأضرار. وبانتظار معرفة تفاصيل هذا التقرير فإن معلومات أكدت وجود رغبة اميركية في التسريع في اعتماد نظام الفيديرالية في العراق. ولكن نظراً إلى ما يثيره هذا الأمر من حساسية مفرطة لدى فريق من العراقيين فقد تم الاتفاق على تسوية تقضي بالتفاهم على النظام الفيديرالي وتأجيل العمل على تطبيقه لمدة ثمانية عشر شهراً في أبعد تقدير. وفي السياق العام للتعاطي الاميركي مع الملف النووي الايراني تفيد معلومات موثوقة بأن واشنطن طلبت من اسرائيل عدم القيام بأي عمل مباشر ضد ايران، ويمكن ان يطلب منها تأمين غطاء جوي مكثف خلال القيام بأي عمل عسكري اميركي إذا أصدر جورج بوش أوامره للقيام بمثل هذا العمل. ومن مفارقات هذه المرحلة ان بعض الأوساط الاسرائيلية راحت تهاجم"السياسة الاميركية القبيحة في المنطقة"وتوجه اليها النصائح بضرورة تغيير مواقف واشنطن من طبيعة النزاع العربي - الاسرائيلي. وهذه ملاحظة لافتة انتشرت أخيراً في الأوساط الاسرائيلية من منطلق أن حدوث أو احداث أي اختراق في عملية السلام الفلسطينية - الاسرائيلية خاصة والعربية - الاسرائيلية عامة، يمكن أن يسهم في تبديد صورة الكراهية القائمة بين الدول العربية ضد السياسات الأميركية ومثل هذا الأمر يلقي الضوء مباشرة على مهمة الوزيرة كوندوليزا رايس خلال جولتها الاخيرة في المنطقة التي قيل انها زارت خلالها الدول التي تشكل"محور الاعتدال". عن أي اعتدال يتحدثون؟ ان الخلل الرئيسي في بناء مثل هذا المحور هو أن الفريق المتطرف في الادارة الاميركية الحالية هو الذي يعمل على تشجيع أفكار الاعتدال لدى بعض الأطراف العربية، فكيف يقنع المتطرف الفريق المعتدل؟ وما هي التوجهات التي ستقوم عليها سياسات هذا التجمع الجديد إذا ما كتب له النجاح؟ لقد تسارعت بيانات وتصريحات نفي وتكذيب تهمة"الاعتدال"عن بعض الأنظمة، وهذا ما يحدث دائماً عندما يطلق أركان الادارة الأميركية الشعارات من دون استشارة الطرف المعني مباشرة بالموضوع. فهل كانت رايس بحاجة للحضور الى القاهرة وحشد وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي بالاضافة الى مصر والاردن لسؤالهم عن آرائهم في كل ما تشهده المنطقة؟ واستطراداً: هل ان الملاحظات التي أبداها بعض الوزراء وفيها أكثر من انتقاد للسياسة الاميركية سيجري الأخذ بها والعمل بموجبها؟ وحول تطورات الأيام والساعات الأخيرة يمكن ايجاز الوضع العام في المنطقة في نقاط رئيسية: * اذا أردنا أن نعرف ما الذي سيجري في لبنان علينا أن نتابع ما الذي يحدث في العراقوايران وبعد الآن في كوريا الشمالية. * ان السلام القائم حالياً بين لبنان واسرائيل يقوم على وقف الأعمال العدائية، ولم يبلغ الوقف الشامل والنهائي لاطلاق النار، وعليه يبقى الوضع قابلاً لأي احتمال والنفاذ من المواقف الملتبسة من قبل اسرائيل الى مواقف أكثر تعقيداً أو التباساً. * على الصعيد الداخلي اللبناني لوحظ فجأة انحسار دعوات الصخب والسقف العالي واستبدالها بكلام عن الحوار وأهميته، وقد تم هذا بعد زيارة رئيس مجلس النواب نبيه بري الى السعودية. وبعد عودته تغيرت مصطلحات المرحلة في ضوء الوعد ب"عيدية رمضانية"! وربما أسهم اقدام"حزب الله"على إلغاء العرض الخاص ب"يوم القدس"الذي درج عليه في يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان المبارك في أجواء التهدئة. * حول الوضع الاقليمي يقول كوفي انان الذي يعيش آخر ايامه كأكبر موظف في العالم:"ان دولة مثل ايران وهي منتج كبير للنفط ليس لديها معمل واحد لتكرير النفط وهذا ليس له معنى". ويضيف:"انني واثق جداً سواء عن خطأ أو عن صواب ان ايران لن تتراجع وهي تستعد لأسوأ الاحتمالات". والسؤال: كيف سيتمكن الرئيس بوش من العثور على وسيلة معينة للتعاطي مع ايران وهو غارق في مستنقع العراق؟ * يقترح بعض الخبراء على الرئيس جورج دبليو قبل التوجه مباشرة الى ايران اطلاق واشنطن لمبادرات تجاه لبنان وفلسطين وهو ما سيؤدي الى تحسين الأجواء السياسية بصورة كبيرة جداً وعلى الادارة ان تعد مجموعة من الخيارات الخلاقة لا تشمل القيام بهجمات عسكرية. * رئيس أركان الجيش البريطاني السير ريتشارد دانات طالب بسحب سريع للقوات البريطانية من العراق وهذه أول دعوة واضحة ومباشرة للقائد الذي عين حديثاً وتمثل تحولاً في مواقف لندن مما يجري في العراق، وبعض الافتراق عن السياسة الأميركية بهذا الشأن. * ورد في مجلة"نيوز ويك"الاميركية الاقتراح التالي: ان احد السبل الذي يجب أن يساندنا في كسب هذه اللعبة، هو أن نستغل نقاط قوتنا فمتشددو ايران لا يريدون علاقة طيبة مع بلادهم. والايرانيون يتعلمون على مدى جيل كامل ان واشنطن تكرههم ولا تريد علاقات مع بلادهم وتحاول أن تعزلهم عن العالم. ماذا لو عرض الرئيس بوش عليهم استعداده لفتح سفارة لأميركا في طهران؟ * ويضيف أصحاب هذا الاقتراح المقارنة التالية: في العام 1964 دعا الكثير من الناس الى توجيه ضربة عسكرية استباقية ضد الصين الشعبية. لكن العقول الأكثر رجاحة هي التي سادت في نهاية المطاف. وحتى الرئيس جون اف كيندي كان يشعر بالقلق من اللحظة التي تتحول فيها الصين الى دولة نووية وتهيمن على جنوب شرقي آسيا. ولكن الحقيقة انه بدلاً من ذلك أدت الى موجة ذعر في جنوب شرقي آسيا ودفع ذلك المنطقة الى إقامة علاقات أوثق مع الولاياتالمتحدة. * فهل يكرر التاريخ نفسه مرة أخرى في واقع مشابه وفي جغرافيا مختلفة تماماً؟ * وفي الكلام الأخير، ان اميركا تبحث عن انتصار بأي ثمن من افغانستان الى العراقفلبنان لتوظيفه في الداخل الاميركي على مقربة من الانتخابات النصفية للكونغرس، حيث يتوقع فشل الجمهوريين في الحفاظ على الأكثرية في مجلسي الشيوخ والنواب. * الأقوال التي أدلى بها المرشد الروحي آية الله علي خامنئي في خطبة أمس الأول الجمعة من حيث التنديد بالمخططات الهادفة لنشر الفتنة في العراق من قبل الجانبين الاميركي والبريطاني، هي بالغة الأهمية سواء من حيث التصريح عنها أو كيفية مواجهتها من قبل ايران، خصوصاً لجهة تركيزه على الانقسامات التي يراد استغلالها ما بين السنة والشيعة. * اعلامي وكاتب لبناني