على رغم كون سوريّة في صلب دوّامة سياسية تعصف بالشرق الأدنى منذ حادث اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري، أتاح فيلم سينمائي لهذا البلد العربي أن يجد علمه يرفرف على سطح أعرق مهرجان سينمائي في العالم، مهرجان البندقية السينمائي الدولي. وعلى رغم أن شريط هالا عبدالله وعمّار البيك"أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها"يسجّل ربع قرن من الهموم والعذاب لمجموعة من المثقفين والمناضلين السوريين ومحاولة لأرشفتها، فقد كان الفيلم مناسبة للحديث عن سورية"الأخرى"، سوريّة الثقافة والفعل الإيجابي الرامي الى التغيير. يبدأ الفيلم بمشهد خريفي بارد تعصف فيه ريح مُهدّدة يندمج صفيرها بهدير مياه النهر وبنعيق غراب بعيد يقترب بينما تصوّر الكاميرا بقلق كبير وارتعاش مقصود قدمين تمران على جسر صُفّت عليه الألواح المتحركة. إنه شبيه بتلك الجسور التي تُقام إبان الحروب لمرور القطعات العسكرية وناقلات الجند، لكنها تظل في مواقعها حتى عندما تضع الحرب أوزارها. لا حرب، وحديد الجسر متآكل بالصدأ الذي قطّع أوصاله عن بعضها بعضاً. ما يربط بين تلك الأوصال هي شباك عنكبوت. وهو، أي العنكبوت، لم تتمكّن الريح من اقتلاعه فبقي نقطة سوداء في بحر الرمادي الذي يقتحم المشهد بأسره. فيلم"أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها"قُدّم ضمن برنامج"آفاق"في الدورة الأخيرة في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي ونال جائزة"اتحاد الوثائقيين الإيطاليين". المخرجان سعيدان لحضور فيلمهما ضمن البرنامج الرسمي للمهرجان وبكونه نال جائزة"اتحاد الوثائقيين"الإيطاليين، إلاّ أنهما لم يخفيا أساها أمام غياب تغطية الإعلام السوري لهذا الحدث"أمعقول أن يسارع الإعلام السوري إلى نشر أخبار المهرجان وحتى رئاسة لجنة التحكيم من دون أن يُشير إلى الحضور السوري الأول في هذا المهرجان العريق!"تعاتب هالا العبدالله. هالا العبدالله أنجزت الفيلم مع المخرج السوري الشاب عمّار البيك. جيلان وتجربتان مختلفتان ومتباينتان. وتقول هالا العبدالله عن هذه"الشراكة":"أنا لم أختر عمّار كما لم أختر هذه اللحظة لإنجاز الفيلم. ما حدث جاء مندون تخطيط وهو ذو شيء صلة بالأحاسيس والحدس وذو صلة بالفيلم نفسه الذي قرر أن يكون بهذه الطريقة وبرفقة هذا المخرج. هذه قناعتي في هذه اللحظة بعدما اشتغلنا ما يربو على سنة لإنجاز العمل. خلال هذه السنة تساءلت كثيراً عن السبب الذي لم أنجز فيه الفيلم الذي رغبت بإنجازه طوال خمس وعشرين سنة حيث كانت لدي فرص كثيرة، كما كانت لدي فرص، لأعمل مع آخرين ينتمون إلى جيلي أو هم قريبون من ذلك الجيل ومن طريقتي في العمل ولعقليتي. لكنني، ربما أحب التحريض أيضاً وأحب الاستفزاز والتحدي ورأيت أن في إمكان العمل مع عمّار أن يوفّر كل ذلك". خلافات ما يظهر من وصف العلاقة بين المخرجين أثناء العمل ليس مؤشراً على أن الأوضاع جرت من دون سجالات أو خلافات طبيعية بين رؤيتين وجيلين. يقول عمّار البيك:"الحقيقة اننا اختلفنا كثيراً وتشاجرنا كثيراً لكنه كان اختلافاً يوصل إلى نتائج إيجابية للعمل. لذا كان مثمراً. هناك أمر مهم في هذا العمل وهو أننا اخترنا أن نُنجزه في إمكانات بسيطة للغاية، إذ فرضت علينا ظروف عمل صعبة للغاية. فمثلاً أنجزنا المونتاج في بيت هالا وكنّا نعمل بينما كانت هالة منشغلة بأمور المنزل وعائلتها". ما صوّرته هالا العبدالله في فترات متباعدة وشهادات لزوجها الفنان يوسف عبدلكي ولأم يوسف ومشاهدات للحظات مهمة في حياتهما وحياة أسرتهما، كمشهد عودة يوسف عبدلكي إلى سورية بعد سنين طويلة من الغربة والاحتفال الكبير والمثير للمشاعر الذي أقامه له أصدقاؤه وذووه في مطار دمشق. كما تسجّل هالا في الفيلم سلسلة من الحوارات مع أصدقائها وصديقاتها من النساء اللاتي تقاسمن وإيّاها مرارات السجن والغربة والقهر والابتعاد من الوطن أو الغربة في داخله. غير أن الشريط ليس سجل ذكريات نسوياً بل هو جزء من سجل ذكريات طويلة امتدت لربع قرن فيها كل أبطال حياة هالة العبدالله بأجيالها المختلفة من صديقات وزوج وابنة وحماة وأم تنتظر بفارغ الصبر عودة ولدها يوسف. النساء في الفيلم، سواء أم يوسف عبدلكي أو الأخريات، نساء قويّات، مبدعات ومنتجات وفاعلات في المجتمع. وعلى رغم أن قهر سني السجون يقتحم عيونهن فتذرفن دمعاً ساخناً، إلاّ أنهن لا ينكسرن. تقول هالا العبدالله:"كلنا مصائبنا كبيرة، لكن من المؤكد ان مصائب المرأة أكبر بكثير لأن عليها في الحياة مسؤولية أكبر من مسؤولية الرجل أو أن عليها شروط حياة أكثر قسوة من شروط حياة الرجل. في الفيلم مقارنة لهذا الجانب من معاناة الرجل ومعاناة المرأة في شكل سريع. وفي رأيي أن إمكانات التعبير محدودة في شكل كبير في بلادنا وهي أكثر محدودية بالنسبة الى المرأة وهذا الشوق وهذه الحاجة وهذا الألم الداخلي الموجود عند المرأة للتعبير عن نفسها وعن رغباتها وطموحاتها هو مضغوط للداخل وعميق في شكل كبير بعمق الجرح. بينما الرجل تظل لديه فرص التعبير عن همومه. في الفيلم مثلاً نجد شخصية مثل يوسف عبدلكي نشعر انه على رغم وجوده في الغربة منذ 25 سنة قد حقق في شكل ما الاستقرار النفسي الداخلي، لأنه يتمكن من التعبير عن همومه بعمله ويعبّر حتى عن هذا الجانب لأنه وجد لنفسه هامشه بينما النساء الموجودات في الفيلم، وعلى رغم وجودهن في البلد وفي حياة مستقرة نسبياً، فإن لديهن في أعماقهن ألماً وشوقاً الى الوصول إلى حلم لم يتمكنّ من تحقيقه. أو الى الوصول إلى الرغبة في التعبير عن شيء لم يتمكنّ من إنجازه في هذه الفترة من حياتهن. لكل هذه الأسباب كانت لدي رغبة لإنجاز هذا الفيلم ليس بصفتي امرأة في الغربة فقط بل بصفتي امرأة تمكّنت من أن تعيش هذا الوضع وأن تشعر بصديقاتها. أنا مقتنعة بأن وضع نسبة كبيرة من النساء في العالم شبيه بما رويت في الفيلم. لذا لم يكن إنجاز الفيلم قراراً فكرياً أو نظرياً بقدر ما كان أحاسيس معاشة كنت أحب التعبير عنها". ويضيف عمّار البيك قائلاً:"لا بد من الاتفاق سلفاً على بأن المرأة مقهورة في مجتمعاتنا عبر التاريخ إلاّ اننا لم نفكر بإنجاز الفيلم لأن القضية مطروحة في الإعلام في شكل واسع وكبير بل حاولنا أن نوجز 25 سنة من عمر هالا". فكرة الفيلم ابتدأت لديهما من عنوان هو"استطلاع الحب والموت"لكنه تغيّر عبر مراحل العمل وبما أن روحية الشاعرة السورية الراحلة دعد حدّاد وشعريتها كانت حاضرة في كل لحظة فقد استقر بهما القرار على شطر"أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها"وهي جملة من قصيدة معروفة لدعد وبدت هنا عنواناً أليماً ومملوءاً بالمرارة لكنه في الوقت ذاته يسخر من الموت ولا يهابه. ولا غرابة في أن تكون هالا العبدالله قرأت القصيدة بصوتها في نهاية الفيلم بينما هي تسجّل بكاميرتها سرباً من الطيور التي تحلّق في الهواء وهي ترسم أشكالاً فيها من رشاقة الحياة وحيويتها الكثير وترسم في خاتمة المشهد صورة رمح منطلق. بالضبط كما تقول دعد حداد في القصيدة ذاتها. هالا العبدالله وعمّار البيك لم يجمّلا في المادة المصوّرة ولم يكن المونتاج لديهما إلاّ ربطاً بين المشاهد المصوّرة في أوقات وأزمان متباعدة ومن دون تخطيط أو سيناريو. وقد شكّل هذا الاختيار تعباً لبعض المشاهدين المعتادين على الصورة المجمّلة، إلاّ أن اختيار المخرجين بدا وكأنهما سلّما إلى المشاهد دفتر ذكريات كُتب بخط اليد وفيه الكثير من الشطب والتغيير والتحوير تاركين لكل مشاهد حرية إجراء عملية تحرير النص بنفسه.