«كعادته منذ سنوات، يُطلق برنامج «أيام المخرجين في فينيسيا»، الذي يحاكي «نصف شهر المخرجين» في مهرجان «كان»، فضاءً رحباً للبحث السينمائي، ليس فقط من خلال اختياره أعمالاً تتميّز بلغتها الخاصة، بل لاكتشافه عوالم جديدة ومثيرة للنقاش، وربما للسجال ايضاً. وإذا ما كان البرنامج الرسمي الذي أعدّه ماركو موللر تضمّن الفيلم الأول، على الإطلاق، من إنتاج جزيرة ساموا، فإن ما يقدّمه جورجو غوسيتّي في برنامج « أيام المخرجين» إنما يشير في غالبه إلى الجدة. وكما اكتشف المهرجان في الاعوام الماضية طاقات إخراجية وتمثيلية هامة، يُطلق هذه السنة برنامجه بأعمال لن تمرّ من دون أن تُثبّت حضورها. ومن بين هذه الاعمال، شريط المخرجة الفلسطينبة سوزان يوسف «حبيبي راسك خربان»، وهو قراءة لقصة حب كمأساة قيس بن الملوّح وليلى العامرية، في زمن الصراع بين حماس والسلطة الفلسطينية في أرض تتصارع فيها الحريات والمعتقدات وتتقاطع لتتشكّل كلها، في ما بعد، في الاطار الذي تفرضه التقاليد أكثر مما يفرضه الدين أو الأيديولوجيا. قيس، الساهي والشاعر البدائي، بالفعل وليس بالكلمة، والذي لم يفهم من الشعر، قواعده أو عَروضه، إلاّ بمقدار كونه وسيلة تعبير عن مشاعره وعن حبه الكبير والممنوع لحبيبته ليلي. لا ضير لديه إذاً في أن يُخطئ القاعدة النحوية أو غناء القصيدة بصوته، فما أراد قوله مُثبّت على جدران البلدة بأسرها، وحبُّه ما عاد سراً، فهو على كل لسان، ما يدفع الأب المنفتح، الذي منح ثقته للابنة، أن يوصد عليها الشبابيك ويُغلق في وجه المُحب البابَ إذ جاء يطلب يد الابنة، من دون أن يعرض «مهراً» ومن دون أن يكون لديه من مال إلاّ حبُّه لليلاه. لكن، وعلى العكس من الأسطورة التي روت حب «قيس وليلي» أو «روميو وجولييت» أو قصة الحبيبين الكرديين «مَمْ وزين»، فإن القرار النهائي في قصتنا الفلسطينية المعاصرة هذه، والحاسم للقصة بأسرها، ليس الآخرون، بل هي ليلي، التي تنظر في عيني حبيبها وتُصدر حكمها عليه: «حبيبي راسك خربان». عرب البندقية ليست الفلسطينية سوزان يوسف العربية الوحيدة في دورة هذه السنة من مهرجان البندقية السينمائي الدولي، بل يُصاحبها في هذه الرحلة مخرجون من سوريا ومن مصر، جاؤوا إلى الليدو يحملون حباً آخرَ، هو الأمل، على رغم مأسويته الآنية. يحدو القادمين من القاهرة أمل في أن تنفضّ وتنقشع غمامة المجهول الذي يلفّ بلادهم بعد أن تمكّنوا من إزاحة الرئيس السابق حسني مبارك بثورة أعادت إليهم (وليس إلى المصريين لوحدهم) الثقة بالنفس، بل فعلت فِعْلَها مع كل الذين يسكنون الأرض العربية بطولها وعرضها، فيما يحدو القادمين من سوريا أن ينتهي سيل الدماء وينبلج فجر الأمان في تلك الارض المحكومة بقبضة «الحزب القائد». من مصر جاء الفيلم الوثائقي «التحرير، الطيب والشرس والسياسي» من إخراج الثلاثي الشاب تامر عزت وآيتن أمين وعمرو سلامة، وإشارة التحية السينمائية واضحة إلى رائعة مؤسس السباغيتّي ويستيرن (الإيطالي) الراحل سيرجو ليوني «القبيح، القذر والشرّير». ويروي الفيلم، كما ورد في سرد القصة في دليل المهرجان، كيف «حدث ما لم يكن لم يخطر ببال المصريين، وكيف حوّلوا يوم عيد الشرطة في صباح الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير إلى ثورة لإسقاط النظام، وبعدما تمكنت الأجيال الجديدة المصرية والعربية، بفضل شبكات التواصل الاجتماعي من التعرف إلى ما ارتكب نظام حسني مبارك من أهوال في السنوات الثلاثين الأخيرة»، وتُضيف القصة « لقد تابع العالم لثمانية عشر يوماً نزول المصريين إلى الشوارع لتسطير نهاية للظلم والفقر والفساد». إلى جيل الشباب المنتفض هذا، ينتمي أيضاً المخرجون الثلاثة الذين أرادوا سرد ما يجري من وجهة نظر سينمائية فريدة. ويُبرز تامر عزت، بمساعدة أحمد عبدالله، بسالة شخصيات عديدة دفعت بأفعالها الشُّجاعة مَن يحيط بها إلى الانضمام إلى الثورة، ذلك هو الجزء الأول من الفيلم الذي يحمل عنوان «الطيب». أما الشابة آيتن أمين، فتروي في الجزء الثاني «الشرس» رحلتها في عالم الشرطة وقوات الأمن الذي لم تعرف عنه الكثير قبل الثورة. وحاول عمر سلامة في جزء الفيلم الثالث «السياسي»، استكشاف دهاليز عقل الرئيس السابق مبارك وروحه من خلال الحديث مع شخصيات سياسية هامة، من مؤيدة للنظام ومعارضة له. يقول تامر عزت: «لقد أدهشني كثيراً التغير الذي طرأ على المصريين، فقد كانوا حتى بضعة أيام قبل الخامس والعشرين من يناير شعباً لامبالياً وخانعاً، لكنه تلاحم خلال ساعات قليلة لما فيه المصلحة العامة، ليتحول إلى جيش من المقاتلين الحقيقيين». وتعرب آيتن أمين عن قناعتها في أن ميدان التحرير سيشهد، بالتأكيد، إقامة نصب يُخلّد ذكرى ضحايا الثورة المصرية وشهدائها، لكنها تتساءل ما إذا كان هذا الصرح سيتضمن عبارة: «قتلهم رصاص الشرطة المصرية». أما عمرو سلامة، فيصف الجزء الذي أنجزه في هذا العمل بأنه «كان جولة في عقل ديكتاتور هدفها طرح أسئلة وأجوبة حول ما جعل منه ديكتاتوراً، وكيف لنا أن نتفادى صنع ديكتاتور جديد». وربما كان سؤال عمرو سلامة يدور في خلد عشرات الملايين الذين يسكنون الأرض العربية من أقصاها إلى أقصاها. ثانية البيك وبعد خمس سنوات من حضوره إلى البندقية بالتشارك مع هالة العبدالله في فيلم «أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها»، يعود عمّار البيك إلى المهرجان بقصير يحمل عنوان «حاضنة الشمس» (12 دقيقة)، أنجزه برفقة أفراد عائلته. وتدور أحداث الفيلم في الرابع من شباط/ فبراير 2011، وتصوّر، كما جاء في تقديم الفيلم في دليل المهرجان، «عائلة تستعد للتظاهر ناسجة حريتها الجديدة باللون الأحمر، وتصيح حناجر المتظاهرين مطالبة بإسقاط مبارك الذي يهين المصريين منذ ثلاثين عاماً. ولكن هل تأتي أصوات التظاهرات من القنوات الفضاية أم من الطرقات القريبة؟». وتُضيف المقدّمة: «27 أيار/ مايو 2011، شهيد جديد، أطلقوا النار على الصبي السوري حمزة الخطيب ثم عذبوه حتى الموت. ويثور الشارع السوري، فالثورة تولد دائماً من رحم المعاناة». ويقول عمّار البيك: «ليست تلك الأيام الرهيبة، التي أشمئز خلالها مما أصوِّر ويصيبني الإعياء والعجز عن مواجهة العوائق العديدة، سوى جزء من أسلوبي في العمل. سيكون مستقبل السينما لجيل من شبان يعملون بشكل انفرادي، سيصوِّرون أفلامهم مستخدمين مدخراتهم الأخيرة، من دون الوقوع في فخ روتين صناعة السينما». وفي هذا الإطار، يأتي فيلم «نهاية الطلائع»، ويراد بكلمة طلائع هنا اطفال المدارس السورية، وقبلها العراقية، ومعها الليبية وغيرها، من الذين أُجبروا لآلاف الصباحات أن يُنشدوا للقادة والزعماء، الذين ربما اعتقلوا وعذبوا وقتلوا آباءهم وإخوتهم والكثير من أفراد أُسرهم. ويأتي هذا في فيلمي «نهاية الطلائع» القصيرين (للغاية، إذ لا يزيد زمن كليهما عن خمس دقائق)، اللذين أنجزتهما «مجموعة أبو نضارة». ويظهر في أحدهما على الشاشة، وسط صفين من الأعلام المتقاطعة، مُخلِّص الأمة وسط أتباعه وكأنه المسيح لحظة دخوله القدس، أو كيم إل سونغ في بيونغيانغ. يرفع قبضته للتحية أو كإشارة نصر. إلا أن الأرغن قد عزف نهاية القداس، يعود النشيد الوطني، طقس الصلاة، بينما يفسح المُخلّص المجال للشهداء الذين تظهر أسماؤهم على الشاشة في تسلسل أبجدي. أما الشريط الثاني، وطوله دقيقة ونصف، فيعرض نهاية فترة الاستراحة المدرسية، لم يعد أطفال المدرسة أطفالاً، بل هم «طلائع البعث». يصطفون بانتظام صائحين بشعارات الحزب وطنية الطابع تحت قيادة المدرس الصارم. تبدو إحدى الفتيات منزعجة حتى مما تطلق هي من صراخ، ترفع ذراعها الأيمن محاكية تحية حزب البعث ولكن من دون اقتناع حقيقي. وفي النهاية، تغيّر اتجاه نظراتها نحو صرخات الحرية القادمة من الطرقات. يقول مخرجو العملين «كان على أطفال المدارس السورية جميعاً الانضمام إلى طلائع البعث التي أُسست عام 1974 في محاكاة للنموذج الكوري الشمالي، وذلك لضمان خنوع الأجيال الجديدة لنظام الحزب الواحد وقائده الملهم. واليوم يشارك حتى الطلائع في شرارة الثورة الديموقراطية، فيكتب الصغار على جدران المدارس: الملك عاري».