ثَقافةُ المريدِ والشَّيخِ في أصلها (رابطةٌ) يَسعى بها المريدُ إلى الاتّصال بالشَّيخ، وهذه الرابطةُ تفترض أنَّ الشيخَ غير محتاجٍ إلى المريد، ولكن هل يُمكن لرابطةٍ أن يكون تأثيرها في طرفٍ واحد؟ تفترض هذه المقالة أنَّ الرابطة يَستخدمها الطرفانُ في الوصولِ إلى الغاية، أي أنَّ حاجةَ الشَّيخ للمريدِ لا تَقِلّ عن حاجةِ المريد للشَّيخ، فالخضر كان بحاجةِ موسى، بقدر حاجةِ موسى إليه، إذ كيفَ يحيا علم الخضر وقوة بيانه وإدراكه دون وجود موسى؟ لكنَّ الأهم هنا: هل لو كانَ الشَّخصُ غير موسى سيكتفي به الخضر؟ هذا معنى مهم حيث قدرة موسى ونباهته مقصودة لذاتها، فلا يحل مكانه أيُّ أحد، وهذا معنى من معاني قول ابنِ عطاء السَّكندري: «لا تصحب من لا يُنهضك حالُه، ولا يدلّك على الله مقالُه»، والشيخ هنا كالكاتب الذي يحتاج إلى قارئٍ نبيه لا يَسدّ مكانَه أحد، وكما أنَّ بين القارئ والكاتب وساطة النص، فإنَّ بين الشَّيخ والمريد وساطة أيضًا تتمثّل بتخييلِ نَصٍّ، وأعني أنَّ تعريفَ الرابطة في ثقافةِ الشَّيخ والمريد هو أن يُغمِضَ المريدُ عينيه ويتخيَّل أنَّ الشيخَ سلَّط نورَه على قلبِه، وهذا النُور/النَّص، سيتأثّر به كلا الاثنين، ولكنَّ نوعَ التأثير وجودته متعلقٌ بقراءةِ النَّصِ الوسيط قراءة حيَّة مُوحَّدة، أي من حيث التأويلُ الذي سيتَّفِق عليه الاثنان؛ إذ الرابطة لا تكتمل بين الشَّيخ والمريد مالم يتّفقا على تأويلٍ واحدٍ للنَّص، أي أنَّ الصورةَ التي سيراها المريد عندما أغمضَ عينيه لابد أن يُوافِقَ عليها الشيخ، ويراها في أفعالِ المريد من حيث الحب، والتسليم، والطاعة، والاعتقاد بعلمه الظاهر والباطن، بل يصل إلى أبعد من ذلك وهو أن يرى المريد أنَّ الشَّيخَ يفهم نفسَه أكثر منه، كالمريضِ الذي يعتقد أنَّ الطبيبَ أعلم منه بنفسِه، ولكون هذا صعب التَّحقق على طولِ الطريق، أتت المحاولات الدائمة في فكِّ الرابطةِ وجعلها من جهةٍ واحدة، فيُجبر المريد على تقليدِ الشيخ بطُرقٍ عمياء، ولكنَّ المَلاحظَ أنَّ المريدَ يُنكِر بعضَ أفعالِ الشَّيخ أو أقواله، كما يُنكِر المَريضُ أقوالَ الطبيبِ وأفعاله، إذ دائمًا يوجد (وسيط) لغويّ يُعرقل الاتَّصال الكامل، حتى في الطِبِّ الذي يُوضَع كنقيضٍ للشيخ والمريد، فإنَّ الطبيبَ عُدَّ شيخًا، والمريضَ مريدًا، ولهذا - في العرف العام - من أنكر أفعالَ الأستاذ والطبيب وأقوالهما، فإنَّ علمه قاصر، وإدراكه لأبعاد الأمور لا يتجاوز أرنبةَ أنفه، وبهذا الهجوم أو (التشبيح)! لا يجد المريدُ لنفسِه إلا طريقَ الأستاذ، يقتدي به، أو يَدّعي التفاعلَ معه، بل حتَّى الظَنّ بأنَّ إمامةَ العقلِ خَلاصٌ، فليست إلا تحويرًا للسلطةِ من المشيخةِ إلى المعقلة -على وزن المقصلة-؛ إذ لا مفرَّ من اتّباع أحدٍ ما، والمراد أنَّ المريدَ مهما بلغَ من تقديسِه لشَيءٍ فإنَّه يفعله ويفعلُ ما يُخالفه، مما يَدلّ على أنَّ ثمةَ معنى خارج الرابطة، يتحكّم بالشَّيخِ والمريد على حَدّ سواء، ويتحكّم بالطبيبِ والمريض أيضًا، ويغدو فيه العاقلُ مجنونًا، والمجنونُ عاقلًا، والمريضُ طبيبًا، والطبيبُ مريضًا، وطالما أنَّ المريدَ أُلجِئ إلى متابعةِ أحدٍ ما، فإنَّه يقع في حبِّ أستاذٍ محدد؛ لأنَّه وجد فيه شيئًا من ذاتِه، لكنَّه في الوقتِ نفسِه يُخالفه؛ فهو ليس نسخةً منه، وهذا معنى أن يُجعَل لفظُ (المريد) مفتوحَ الدلالةِ، أي أنَّه يُريد أستاذَه وأكثر، عِلمَ الأستاذ وأكثر، رغباته وأكثر، وكما أنَّ المَريضَ يلجأ إلى طبيبه للتداوي مع شكّه في علمه المطلق، فإنَّ المريدَ -مع مخالفتِه لأستاذه- يتعلَّق به تعلقًا صادقًا، لأنَّه وجدَ فيه ضالّته، ورفقتَه المفقودة، وبهذا لا يَتّبعه عبثًا. وبما أنَّ الحديثَ -دائمًا- عن إرادةِ الشَّيخ وماذا يُريد، فإنَّ المقالةَ -هنا- تطرح السؤالَ النقيض: المريد ماذا يريد؟ بمعنى إذا كان البسطامي قد قال: «من لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان»، فهل يمكن أن يُقال: من لم يكن له مريد فمريده الشيطان؟ والكاتب الذي ليس له قارئ فقارئه الشيطان، ودلالةُ الشيطان-هنا- هي انفتاح النصّ على كُلِّ شَيء قبل أن يُقيّده المريد بمعانٍ محددة، وبما أنَّ الشيخ يُريد أن يُصلِح نفسَ المريد، ويُهذِّب أخلاقه، ويغرس فيه المعتقد، ويُرسِّخ إيمانه، فإنَّ المريد كذلك يُريد أن يُغيّر الشيخَ إلى كل هذا، ويُمكن لتأملِ هذا الأمر أن نضرب مثالًا في الذهبي، صاحب سير أعلام النبلاء، إذ من المعروف أنه من مريدي ابن تيمية، ومعروف أيضًا أنه من كارهي الفلسفة والمنطق، والدارسون -آنذاك- إما معتنٍ بالمنطق كداعم، أو معتنٍ به كناقد، فمثلا ابن حزم من النوع الأول، وبما أنّه ليس من شيوخ الذهبي فقد حطّ من قدره ب (دمٍ بارد)، بل إنَّه لما نقلَ روايةً تُبيّن إعراضَ ابنِ حزم عن المنطق، قال مؤولًا ذلك: إنه لم يُعرض عنه إلا بعد أن انحرف عن الطريق. أما ابن تيمية فهو من النوع الثاني -أي المعتني بالمنطق كناقد- والذهبي من مريديه، ومع ذلك هو يُمهِّد عن ابن تيمية بقول: «فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منورًا مضيئًا، على محياه سيما السَّلف، ثم صار مظلمًا مكسوفًا، عليه قتمة عند خلائق من الناس»، وقول الذهبي غضبٌ على أستاذه حين صار يكتب في المنطق، العلم الذي لا يَفقهه الذهبي/المريد، لكنَّه- في الوقتِ نفسِه -أدركَ شيئًا ظَهر على سلوك ابنِ تيمية وهو تغيّر مساره التراجيدي نحو غاية تُخاطب أناسًا آخرين غير مريديه، لهذا لم يكن الذهبي قارئًا عميقًا لابن تيمية، بل مريدًا لبعضِ كتابات أستاذه ويغار عليه من عشَّاق آخرين. التفاتة: مفهوم الأسرة نوع من ثقافةِ الشَّيخ والمريد؛ ففي مسرحية (أنتيجون) لسوفوكليس، حُكِمَ على البطلة بالموت؛ لأنَّها خالفت القانون بدفن أخويها، وما كان رضاها بالحكم إلا لأنَّها أدّت واجبَ الأسرة/الشيخ.