يلتزم بعض النقاد الأدبيين الصمت فتراتٍ طويلةً، دون تبشير أو استشراف أو توقّع للأحدث من المدارس والمذاهب والأساليب الفنيّة، وربما يتحرّك بعضهم إذا ما تبنت مجموعة (مُنتجاً إبداعياً) أحدث، ليظهر تماهيه السريع، وتفاعله الكبير، علماً بأنه لا فضل له في ظهور المنتج، وإن ادعى الفضل في تسويقه، وربما كان كمن يركب موجات ليسجّل لنفسه النقاط، ويحسبّ على الأجدّ من جهود مبدعين ناضلوا في سبيل إثبات وجود إبداعهم. وهنا نطرح القضية على عدد من النقاد، لنستخلص وجهات النظر حول دور النقد قبل بروز الحالة الإبداعية وأثناءها وبعدها.. الناقدة الدكتورة دوش بنت فلاح الدوسري ترى أن الناقد الحقيقي هو من يقتنص لحظات اشتعال الإبداع بالجديد والمختلف، ليقرأ فيه ويتعمق ويحلل الظاهرة، متكئاً على معرفته وخبرته، وعلى وعي التجديد، وعدّتها الأداة المهمة جداً في تشكيل موقفه النقدي. وقالت: لربما يتأنى البعض في إصدار رأيه إلى أن تستوي الظاهرة وتنضج، وأرى أن في هذا التردد تعارضاً مع حالة الناقد الحيوية والمتأججة شغفاً وفضولاً، لافتة إلى أن ركوب الموجة، لمجرد الظهور، موقف ساذج وسطحي، وصاحبه سيظل واقفاً على الموجة ولا يتعداها. فيما أكد الناقد الدكتور صالح بن أحمد السهيمي، أن كثيراً من الناس يسعى إلى مواكبة العصر؛ ومنهم الأدباء والنقاد، مشيراً إلى أن ما نشهده من تزايد سرعة الزمن، ومواكبة الإبداع الجديد، طالت الساحة النقدية في متابعة الحديث من الأجناس الأدبية الجديدة، وعدّه أمراً محموداً، وتساءل السهيمي: ما الفيصل في المتابعة النقدية لجديد الإبداع؟ ويجيب: إنّ الفيصل الحقيقي يكمن في الفهم السليم والإجادة لهذا الجنس الإبداعي الجديد. وأضاف: لو أمعنّا النظر أكثر، لرأينا طبيعة النقاد عبر العصور تميل إلى المألوف من الأجناس الإبداعية، ولو ربطنا المسألة بقضية القديم والجديد التي تعد من القضايا النقدية الراسخة في تراثنا العربي القديم ولا تزال تثار من زمن لآخر؛ لخرجنا برأي ثابت ينحاز إلى الجمال في النقد، وإلى الذوق في النص الإبداعي سواء أكان جنساً أدبياً قديماً أو حديثاً. ويراه الفيصل الحقيقي في متابعة النقاد للأجناس الأدبية الجديدة، عقب اختبارها في حركة التجريب والتحديث الإبداعي، ومدى أهمية التلقي في الرفض والقبول لهذا الإبداع الجديد أو ذاك المألوف. وذهب إلى أن الإعلاء من جنس أدبي لم يكتمل أو نص أدبي لم ينضج، ومن ثم التمجيد له نقدياً، والارتقاء به من الهامش إلى المتن، لمواكبة العصر، فهذا لا يليق بمتانة النقد الأصيل، ولا باستقرار المشهد النقدي، وما ينبغي للناقد أن يكون عليه هو المحافظة على سلامة الذائقة الأدبية في الإبداع، وتتبع الدهشة والذوق في النصوص الإبداعية الجديدة. فيما يرى الشاعر محمد محسن الغامدي، أن عملية النقد مازالت تعبّر عن ذاتها المبدعة من خلال أقلام وآراء شتى المشارب النقدية، إلا أنّ التوجه الحقيقي في تلك العملية التي لا تقل إبداعاً عن العمل الفني محل النقد هو محفزات الناقد نفسه وأدواته الفاعلة، التي ربما تهب العمل الأدبي إضاءة غائبة حتى عن المبدع نفسه، فالمبدع ينتهي دوره بعد ظهور العمل للنشر. وأضاف: ليس في كل مرة يوفق العمل الأدبي قصيدة كان أو قصة أو رواية أو خلافها في ناقد استشرافي متجدد لا تأخذه في رفع موازين النقد لومة لائم. وقال: المأمول أن يكون نقده متطلعاً خلاقاً محيطاً بالظروف الحياتية والنفسية للمبدع ما أمكنه إلى ذلك سبيلاً، لافتاً إلى دور الناقد الدكتور سعيد السريحي مع شعر محمد الثبيتي وبيان مفاتنه، وفي ذلك خير دليل، على التقاطع مع الحالة الإبداعية، فأوضح وأظهر جماليات تلك النصوص الرائعة، ويرى أن بعض النقاد متحيز أو مكبّل نفسه بأدوات ماضوية عفى عليها الزمن يحاول ويجاهد أن يظل واقفاً في ساحات هبت عليها رياح التغيير من كل جانب فلا يستطيع إلا أن يكتب ما لا يُقرأ ويقول ما لا يسمع؛ ليدرك تخلفه ويؤوب إلى نقد شفاف نظيف متطلع وسباق. أمل القثامية: أخالفك الرأي.. فالناقد ليس متسلّقاً ولا استغلالياً في البدء أخالفك الرأي في اختيار كلمة يركب ويستثمر الموحية (بالاستغلال) والتسلق، فهذه الصفات بمنأى عن الناقد الحقيقي الذي يعمل على مشروعه النقدي. وفيما يخص اشتغال الناقد على الموضوعات المستجدة فإن ذلك يضيف له ولبعده المعرفي، ولاسيما إن كان قادراً على فكفكة ومنهجة الموضوع وطرحه بشكل أعمق معالجاً له ومضيفاً. وأوضحت أن كتابة الناقد في فضاء موضوع جديد ومتداول من أجل الكتابة والظهور يؤثر حتما على جدية الطرح ويستنقص من قيمته، إذ كل ما كان للناقد مجاله النقدي المعرفي ومشروعه ومنهجيته كان ذلك أكثر منفعة وفائدة لحركة النقد. وقالت: يبدو لي من خلال نظرتي أن الناقد الأكاديمي يختلف عن الناقد الهاوي، فالأكاديمي مهموم بأن يكتب في سياق تخصصه الدقيق وفي ما يُستجد فهذا مطلب؛ لأنه لو توقف عند معالجة ظواهر محددة سيتجمد ويتصنّم معرفياً وذهنياً، كون الموضوعات الإبداعية الجديدة تدفع به نحو التجدد والتفكير المُختلف، وما يشتغل عليه يبدو لي إضافة ولا يستنقص من اشتغالاته التخصصية. وترى أن الناقد الهاوي، سيغدو ظاهرة، إذ رأينا الآن دورات مقدمة من وزارة الثقافة لمدة أسابيع يُدرس فيها الهواه كيف يصبح ناقداً، وهذه الفئة في ظني ستكون مهمومة بالكتابة في كل شيء، ولا أرى في ذلك ما يقلل من توجههم؛ لأنه سيحرّك الساحة التي تحتاج فعلاً لمتابعة الظواهر الجديدة والكتابة عنها.