مازالت موسيقى الشعر الإيقاعية المنبرية شرطاً وجودياً للشعر عند جلّ جمهوره العربي الكبير، بل إن حتى محاولات تطويرها والتجريب في ذلك كما هو شأن قصيدة التفعيلة يخرج هذا المجرب أو ذاك من ملّة الشعر كما يبدو، فالخروج بالقصيدة للجمهور عبر الأمسيات الشعرية، أو حتى المنابر التفاعلية التواصلية كمساحات منصة (X) تكشف لي هذه الحقيقة التي تبدو لي نكوصًا في فهم الشعر وتحولاته وما طرأ ويطرأ عليه وما يجب أن يمر به ليبقى صوتنا الأزلي.. في المقابل لا يمكن أن ألوم هذا الجمهور أو ذاك حيث كرّس التراث العربي القديم هذا الموقف المتشدد من متلازمة الموسيقى والشعر واشتغل عليها وجعلها الشرط الأساسي للشعر، يقول ابن رشيق في العمدة: (الموسيقى حلة الشعر.. فإن لم يلبسها طويت)، هكذا بدت العلاقة بين الشعر والموسيقى منذ البدء علاقة تكوين وتخلّق ونشوء، وبناء على هذه العلاقة (العقائدية في الشعر) لدى القدماء ظلّ الإيقاع صامدًا في وجه كل التغيرات والمؤثرات التي مرّ بها شعرنا العربي منذ أن وقفنا مع جدنا امرئ القيس لنتوارث البكاء منه حتى أوائل الخمسينات من القرن الماضي وقد بدا لنا الإيقاع في كل مراحل الشعر التي سبقت الخمسينات، وكأنه الإله الذي لم يعبد في الشعر عند العرب.. ولا يمكن إحالة الانزياح عن الموسيقى واللجوء لقصيدة النثر في العصر المتأخر للترجمات الكثيرة للشعر الغربي.. فالعرب في عصور متعددة لعل أهمها أواسط العصر العباسي انفتحوا على ثقافات ولغات وفلسفات أخرى ولم يستطيعوا المساس بموسيقى شعرهم.. لكن يبدو أن الانشغال بالموسيقى على حساب الشاعرية جرّاء كثرة الشعراء وكثرة طرقهم لمعاني الوجود جعلت من عملية الإيقاع الموسيقي عملية مكررة ومسترجعة دائماً على مستوى الصوت والمعاني معاً مع ما يفترضه العصر الحالي من خلوص تام للشاعرية بتخليصها من كل الشوائب والزوائد التي يفترضها الإيقاع وضوابطه غالباً.. وهو مبحث طويل لا يمكن الوقوف عنده بسطور محدودة، فضلاً عن كونه من المباحث التي حظيت بعدد كبير من الدراسات والبحوث المتطوّرة على مستويات عدة.. لكن الخوض في علاقة الشعر بالموسيقى تجرّنا إلى الحديث عن علاقة الشعر بالغناء.. وقد شاع لدى أجدادنا أن أول الشعر حداء.. وقصة هذا الحداء طريفة جداً في بعض الروايات فقد ذكر الإخباريون والرواة العرب، ومنهم أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي «ت 957م» في كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر»: إن «الحداء» كان عند العرب قبل «الغناء»، انحدر اليهم وتوارثوه من جدهم الأكبر مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد، وأصله كما يرون أن مضر قد سقط عن بعيره في بعض أسفاره فانكسرت يده، فجعل يقول: يا يايداه يايداه أو وايداه وايداه، وكان من أحسن الناس صوتاً فتجمعت حوله الإبل وطاب لها السير معه، فاتخذه العرب حداء برجز الشعر، وجعلوا كلامه أول الحداء، فقال حاديهم: يايداه يايداه، يا هاديا يا هاديا، أو قال: وايداه وايداه، هبييا هبييا.. لكن هذه الرواية تشير إلى أن أول الغناء حداء وليس أول الشعر.. فهل كان الشعر يوماً بمثابة الأغنية عند العرب؟ الحقيقة أن الغناء ارتبط بالشعر ارتباطاً وثيقاً، فقد غنى القيان كما يذكر التاريخ بأشعار الشعراء العرب حد تقويمها وتصحيحها كما ورد عند النابغة الجعدي والإقواء الذي ظهر له عندما سمع بيته الشعري مغنى.. لكن السؤال الذي يلحّ علي.. هل ثمة شعراء في تلك العصور كتبوا الشعر من أجل الغناء كما يفعل بعض شعراء اليوم أو من نسميهم بشعراء الأغاني؟ الحقيقة أن قراءة سير بعضهم قد تشي بهذا ولا سيما لدى الشاعر عمر بن أبي ربيعة وهو الشاعر الأشهر على مستوى الغزل والتشبب والارتباط بمجالس الغناء فقد عرف عنه حرصه على شراء الجواري المغنيات أو حتى التقرب من بعض المغنين الذين تجايل معهم في عصر كثر فيه الغناء وشاع كما تذكر الروايات التاريخية، والمتأمل في شعر عمر بن أبي ربيعة سيلمس ذلك الحس الغنائي الطاغي في قصائده سواء على مستوى الغرض أو حتى على مستوى التشويق القصصي في قصائده.