بعد ربع قرن من المنفى في باريس، قرر الرسام السوري يوسف عبدلكي العودة الى دمشق، في التاسع عشر من الشهر الجاري اليوم، ترافقه زوجته السينمائية هالة عبدالله وطفلته ليلى. هذا التاريخ يشكل مفصلاً أسياسياً في حياة عبد لكي فناناً وإنساناً، هو الذي ما فتئ يردد انه يعيش في باريس جسداً، لكن قلبه وروحه في دمشق. لم يستطع الفنان زيارة أهله، وأصدقائه طوال هذه الفترة، لعدم تجديد جواز سفره، والخوف من المخاطر التي قد يتعرض لها إذا ما عاد. مع ذلك ظل سؤال العودة يؤرقه، كان أشبه بجرح غائر في أعماقه، جرح مفتوح ينز دماً ولد الفنان في مدينة القامشلي، ودرس في مدينة دمشق. غلا أن تجربته الفنية، وعطاءاته كانت في باريس، في الأنواع الثلاثة التي يشتغل فيها: الرسم بالأبيض والأسود، الحفر على النحاس، والكاريكاتير. عبر نتاجاته الفنية نقرأ معادلاً فنياً للتاريخ السياسي السوري المعاصر، سواء في لوحات الأحصنة القتيلة والمجروحة التي رسمها في الثمانينات أو في العناصر التي رسمها بعد ذلك كالأسماك المقطوعة والرؤوس والأحذية والغصون المتقصفة التي تخفي وراءها كمّاً هائلاً من القسوة. من تونس الى القاهرة الى الكويت والإمارات الى باريس ومدن أخرى كانت معارض عبدلكي تدور وتحقق حضورها الفني. وطوال ربع قرن كانت لوحاته تذهب وحدها الى دمشق ولكن في التاسع عشر من الشهر الجاري يعود الفنان مع لوحاته للمرة الأولى الى بلده. هنا حوار مع الحفار والرسام يوسف عبدلكي قبل عودته بأيام الى دمشق. بعد ربع قرن من الإقامة أو المنفى في فرنسا تعود اليوم الى سورية. كيف تجرأت على اتخاذ قرار العودة على رغم ما يشكله ذلك من مجازفة؟ - عندما أخذت قرار العودة انتابني إحساس انني على شفير انهاء حقبة ثالثة من حياتي. الأولى كانت منذ ولادتي حتى عام 1966 في مدينة القامشلي، والثانية حتى عام 1981 في دمشق، والثالثة منذ ذلك التاريخ حتى الآن في باريس. شكلت لي المحطة الباريسية لحظة مهمة جداً في حياتي الفنية، فهي مكنتني من التعرف على الفن الغربي في شكل مباشر وملموس، فلم يبق هذا الفن مجرد تنظيرات وصور مشوهة في الكتب. وعرفتني على ذخائر الفنون القديمة والحديثة في مختلف أنحاء العالم، من الرسم الصيني، الى النحت الفرعوني، الى الفن المكسيكي، الى المنمنمات المغولية والفارسية، الى الحفر على الخشب الياباني... الخ. وأظن أن عملي في مجالي الحفر والرسم كان سيختلف لو لم تتح لي خلال ربع قرن ملامسة تلك الأعمال التي تتجاوز عشرات الآلاف. يأتي قرار العودة اليوم وأنا أحس أن جعبتي مملوءة على رغم ان ذلك ليس إلا وهماً. فأشواق الانسان أكبر من كل حصيلة وقدرته على المعرفة أصغر من أي جزء من فنون العالم. لا يمنع أن هذا الوهم يتملكني اليوم، وأنا أهيئ نفسي للسفر الى دمشق. على صعيد آخر هذه لحظة عاطفية استثنائية بالنسبة إلي لأنها تشكل عودتي الى المدينة التي تشكل فيها وعيي الثقافي وحسمت فيها خياراتي المهنية، وفيها صنعت أهم علاقاتي بمجتمعي في مرحلة الشباب، وفيها أقدمت على خياراتي السياسية التي طبعت بقية حياتي وأظن أنها ستطبع، هكذا أعود اليها وكأنني أعود الى الرحم الحقيقي الذي خرجت منه. كيف تتوقع أن ترى دمشق؟ هل تخيلت كيف هم الناس والشوارع؟ ألا تخشى ألا تشبه سورية الصورة التي رسمتها لها في ذهنك؟ - أظن ان أي بلد في هذا العصر يتغير خلال ربع قرن تغيراً يكاد يكون جذرياً. هذا من طبائع الأشياء وغني عن القول اني سمعت عشرات الأحاديث عن مدى تغير دمشق خلال العقود الماضية، وأظن أن ذلك أعطاني حصانة كبيرة ضد أي خيبة أمل، علماً اني أظن أن المدينة القديمة في دمشق باقية على حالها نسبياً على رغم أنها تشوهت بعد أن غزتها عشرات المطاعم السياحية. إن التغيير الذي أخشاه فعلاً والذي أتوجس منه هو الذي أصاب البشر. فأخشى ما أخشاه هو أن تكون نداوة البشر وقدرتهم على العطاء والتضحية واتساع معنى الصداقة لديهم هي ما تغير. أعتقد انني مهما حصنت نفسي فإنني سأصاب حقاً بخيبة أمل في هذا المجال. ألا تخاف من العودة، وردود الفعل التي قد تواجهها، لدى الوصول. ما الذي تشعر به كلما اقترب موعد السفر؟ - ليس خافياً انني بقيت كل هذه السنوات مبعداً لأسباب سياسية وكانت عودتي في سنوات الثمانينات والتسعينات محفوفة بأكبر المخاطر على حريتي. لذلك كنت مكرهاً على البقاء الى حين تتغير الظروف وأعتقد أن في السنوات الماضية تمت مجموعة تغييرات على مستوى العالم وعلى مستوى المنطقة وعلى مستوى الحياة السياسية في البلد، تجعل من العودة أمراً محفوفاً بمخاطر أقل. ليس الخوف وارداً في حساباتي ولا متسرباً الى قلبي. ان الخوف الحقيقي هو أن أجد نبرة الناس لبناء حياة مختلفة قد علاها الصدأ، وقدرتهم على الاحتجاج حاصرها الخفوت. ستبقى هناك نحو شهرين بعد رؤية الأصدقاء والأهل ما الذي ستفعله طوال هذا الوقت؟ - لدي هاجسان يكادان لا ينفصلان. الأول التعرف على أحوال البلد السياسي ومعاينة مدى التغيرات التي طرأت على البلد خلال السنوات الماضية كناس ومثقفين وقوى وأفكار. والثانية التعرف على خريطة الفنانين التشكيليين الآن. ولقد ولد ونما جيل كامل من الفنانين الذين لم أتعرف على أعمالهم إلا من طريق الصور وأدلة المعارض والذين على رغم تقديري للمواهب المؤكدة للكثير منهم فإن لدي إحساساً بأن حالاً من الركود تعصف بالحركة عموماً على مستوى الموضوعات وعلى مستوى المعالجات. كل هذه الأفكار المسبقة قد لا تكون إلا محض وهم بدورها. المعاينة المباشرة ستكون دليلي. ولدت في مدينة القامشلي وأمضيت فيها كامل مرحلة الطفولة. هل تفكر بزيارتها؟ - قررت منذ سنوات ألا أعود الى القامشلي، لأنني ببساطة أخشى الذهاب اليها. كانت تلك المدينة الصغيرة والوادعة في شمال شق سورية مدينة تتعايش فيها كل الأقليات بتناغم وبساطة تحسد عليهما. فمنذ العشرينات عاش فيها العرب والأكراد، السريان والأرمن والآشوريون والمحلمية، المسيحيون والمسلمون واليزيديون، وقد كانت مدينة على شيء مؤكد من الجمال والنظافة والترتيب. كل ما أسمعه عنها خلال النوات الماضية هو نقيض هذه الصورة الجميلة. لذلك لا أريد أن أذهب إليها حفاظاً على شيء من نصاعة ذاكرة الطفولة. الإنسان هو مجموع أعماله وذكرياته، وأنا لا أريد أن أمحو واحد من منابع الجمال في قلبي. بين دمشقوباريس، ربع قرن من الغياب. هل مرت فكرة الوطن في تحولات ما؟ - أظن أن الأنظمة العربية دمرت الفكرة الحقيقية للوطن منذ زمن بعيد. فبدلاً من أن يكون الوطن ملجأ المواطن وحاملاً لأحلامه ومكاناً للعيش الكريم والعمل الكريم، أصبح مكاناً لا يجسر فيه الانسان على الكلام الصريح أو المخالف ولا يجد فيه عملاً كريماً ولا عيشاً آمناً. تمكن مراجعة طوابير السوريين الواقفين أمام السفارات الأجنبية طلباً للسفر لإدراك أين وصل معنى الوطن. وكلما أوغلت الأنظمة في إلغاء فكرة الوطن ارتفعت عقيرتها في وسائل الإعلام للتغني بالوطن. كل ذلك يجعلني حذراً كل الحذر من هذا التعبير، وأفضل عليه تعبير البلد لأنه تعبير أكثر حيادية من جهة كما لم يتم ابتذاله في الاعلام الرسمية من جهة أخرى. بهذا المعنى ستعود الى سورية الى"بلدك". ولكن بماذا يتحدد البلد الذي تحمل رغبة حارة في العودة اليها، الى أي بلد ستعود؟ - سورية التي أريد أن أعود اليها هي سورية أصدقائي. معهم تفتحت عيناي على العالم ومعهم تشكلت عواطفي وميولي الفنية وخيالاتي السياسية. لذا كنت أحملهم في كل السنوات الماضية في قلبي لأنهم جزء أساس من كياني. لذلك أعود, وأحمل اليهم أربعة وعشرين عاماً من الشوق. - 19 آذار موعد مفصلي في حياتك، كيف استعددت لهذا الموعد؟ - قمت قبل عودتي بإنجاز عملين كبيرين بالفحم أود عرضهما في معرضي في 5 أيار مايو في دمشق. لذا يبدو كل شيء غائباً في ذهني وعواطفي. كنت منغمساً فيهما، غير أن سؤالاً أو هاتفاً من صديق يسألني عن العودة يرد إليّ فجأة ضرورة التفكير في الموضوع وأخذه بما يستحق من الاهتمام. يبدو لي اني أجلت كل شيء الى لحظة اللقاء الفعلية. كأني عشت في حالة انعدام وزن. خوفاً من أي تصعيد زائد لعواطفي، كأن حالة الحياد الحالية تقوم بوظيفة الحماية لما أخاف من عصفه لاحقاً. تمتلك جنسيتين، وجوازي سفر، أحدهما سوري والآخر فرنسي. هل ستعود بصفتك مواطناً سورياً أم فرنسياً من أصل سوري؟ وأي الجوازين ستستخدم؟ - لا أملك إلا جواز سفر واحداً هو جواز سفري السوري، ولا أحمل سواه جوازاً للسفر ولم أتقدم في حياتي لطلب جنسية أي بلد آخر. وعلى رغم انني بقيت ست عشرة سنة من دون جواز سفر سوري، على مرحلتين خلال الثمانينات والتسعينات، فإني كنت مصراً دائماً على استعادة جواز سفري السوري. وليس في ذلك رفضاً لجواز السفر الفرنسي، الذي كان يمكن أن أناله منذ زمن طويل بحكم إقامتي الطويلة ودراستي العليا ودفعي الضرائب. بل ان الأمر مجرد عناد. اعتبرت دائماً من حقي كمواطن سوري أن أحمل جواز سفر بلدي، واعتبرت، دائماً، انه لا يجوز لأي سلطة وتحت أي ذريعة أن تنتزع مني هذه الوثيقة الأساسية. فانتمائي الى بلدي وثقافتي ليس مناطاً بها، انتمائي هذا ليس اذناً يسمح لي به أمين فرع حزب ما أو ضابط في جهاز أمن ما. كان الأمر بالنسبة إلي عسفاً ضد حقوقي كمواطن، وكنت مصراً أن أستعيد تلك الحقوق مهما حدث. ولقد استعدتها من دون أن أقدم تنازلاً لأي كان. ان مسألة استخدام جوازات السفر، كأداة للضغط السياسي ولى زمنها تماماً، وولى زمن الكثير من وسائل الضغط الأمنية المنتهكة لحقوق المواطنين، فنحن يفترض بأننا مواطنون في دولة, ولسنا مواطنين عند حزب حاكم أو سلطة سياسية. ماذا ستحمل معك من باريس، وما الذي تفكر أن تعود به من دمشق. ما هو حجم حقيبة الذهاب وحقيبة الإياب؟ - لن أحمل معي أي شيء خاص. سأحمل بضع هدايا لأطفال العائلة، وأطناناً من الأشواق لعائلتي، وأصدقائي ورفاقي الذين قضى بعضهم في السجون ثمانية عشر عاماً، وهم يدافعون عن الحريات لمواطنيهم، والديموقراطية لبلدهم. وهنا يجب أن أذكر أن السفر أنقذني من تجرع كأس السجن مرة ثانية فيما لو كنت بقيت في سورية، وإذا لم يكن للسفر من ايجابية إلا هذه، فشكراً للسفر وشكراً للغربة، ذلك لأن عقوداً في الغربة لا تقارن بساعة واحدة في سجن تدمر. ترسم فردتي حذاء الأولى لرجل والثانية لامرأة هما أكبر لوحتين رسمتهما في السنوات الأخيرة. ما تعليلك لذلك؟ - اشتغلت في السنوات العشر الماضية على موضوعات هامشية. واشتغلت على عناصر توحي بما هو أبعد من دلالاتها المادية المباشرة كالعظام ورؤوس الأسماك المقطوعة والعلب الفارغة. كان جاذبي في بداية العمل على الأحذية هو القوة الغرافيكية التي وجدتها في أشكالها. لكنني مع استمرار العمل على الموضوع راحت الأحذية تنطق بشيء يشي بأصحابها مثل أناقتهم، جمالهم، أو تعبهم... وأظن أن الحذاءين اللذين أرسمهما الآن يقعان في هذه المنطقة ولا يوجد سبب للربط بين فكرة العودة وفكرة الحذاء كأداة للسير. إذ سيكون ذلك من قبيل الفذلكة الفلسفية ليس إلا. لقد سبقتك الى دمشق لوحاتك ذات القطع الكبير. ماذا عن المعرض الذي ستقيمه في دمشق؟ - دعتني وزارة الثقافة المصرية لإقامة معرض لأعمالي ذات القطع الكبير، عام 2003 بواسطة الناقدة فاطمة اسماعيل المسؤولة عن قصر الفنون في القاهرة، بغية جمع أكبر قدر من الأعمال التي تشكل حصيلة السنوات الثماني الماضية، عصارة المجموعة التي ما زلت أخوض في تلافيفها المسماة طبيعة جامدة. أقدم معرض لتلك الأعمال في مجمع الفنون في الزمالك بعناية من رئيس قطاع الفنون التشكيلية الفنان أحمد نوار، واهتمام الفنان أحمد فؤاد سليم، وجاء العرض أكبر مما توقعت، ونال صدى أوسع مما تصورت، وكان هذا الصدى القاهري الجميل محرضاً لي كي ألبي دعوة المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب في الكويت فانتقل المعرض، مع بعض الاضافات الى قاعة الفنون برعاية بدر الرفاعي الأمين العام للمجلس، وكان من الطبيعي بعد ذلك ذهاب الأعمال الى دمشق. وعليه لبّيت دعوة غاليري أتاسي، وسيقام هذا المعرض هناك في السادس من أيار في خان أسعد باشا في دمشق القديمة وقررت أن أترك كل الأعمال، بعد انتهاء العرض في دمشق، لترتاح في المدينة التي شكلت مصدر محرضاتي وأشواقي الشخصية والفنية. هكذا تبدو لي مسألة عودة أعمالي الى دمشق، كمحطة نهائية لها ? وعلى سبيل المداعبة ? كأنها عودة أوليس الى ايثاكا.