لم تخيّب الدورة الثامنة من «مهرجان أبوظبي السينمائي» (23 أكتوبر- 1 نوفمبر 2014)، التوقّعات، إذ كانت قد وعدت قبل وقت بأن لديها من المفاجآت ما هو جدير بتسميته ب «الاكتشاف»، واضعة الوثائقي المصري «أم غايب»، للمخرجة الشابة نادين صليب، في مقدم جديدها، بخاصة أن المخرجة صليب، سينمائية شابة، لم تنتسب بعد إلى نسق الأسماء المعروفة من صنّاع الأفلام الوثائقية المصرية، أو العربية، على رغم ما يقول متابعو تجربتها من أن لها أفلاماً قصيرة تنبئ بموهبتها المتميزة. بدايةً، لا بد من القول إن وثائقي «أم غايب»، في عرضه العالمي الأول، أحسن تقديم مخرجته الشابة نادين صليب، في شكل لائق، يتناسب مع طموحات هذه الموهبة الواعدة، القادرة على صوغ فيلم وثائقي طويل (95 دقيقة)؛ فيلم سلس متدفق حيوي، عابق بالحميمية والقدرة المدهشة على التعامل مع شخصياته القروية، على فطريتها وبساطتها، والذهاب بها إلى مستويات بوح غير معهودة كثيراً في الوثائقيات المصرية. صحيح أن وثائقي «أم غايب» اكتفى بجائزة النقاد الدوليين «فيبريسكي» لأفضل فيلم وثائقي عربي، تاركاً جائزة أفضل فيلم في «مسابقة الأفلام الوثائقية» للفيلم الفلسطيني المتميز «المطلوبون ال18»، للمخرجين عامر شوملي وبول كاون، وجائزة أفضل مخرج وثائقي، للمخرجة السورية الشابة ياسمين فضّة، عن فيلمها «ملكات سورية»، فيما نال فيلم «الأوديسا العراقية» للمخرج سمير، جائزة «نيتباك» (أفضل فيلم آسيوي)... ولكن الصحيح أيضاً أن «أم غايب» كان حاضراً بقوة، ومنافساً عنيداً، سواء لدى لجان التحكيم، والنقاد، والجمهور. حكاية متداولة ولعل من المثير في «أم غايب» أنه لا يأتي بجديد على مستوى الموضوع، بل ليس من المبالغة في شيء القول إنها حكاية مُتداوَلة ومُتناوَلة في الكثير من الأفلام الوثائقية، السينمائية والتلفزيونية، العربية. ولطالما قيل فيها الكثير، من جوانب وتناولات متعددة. لكن براعة «أم غايب» تبدّت في القدرة على إعادة تناول الموضوع ذاته (حكاية المرأة العاقر، ومحاولاتها المستمرة لسنوات طويلة في امتلاك القدرة على الحمل والإنجاب)، والانفتاح به على مسائل أكثر اتساعاً، لتشمل الواقع الاجتماعي والاقتصادي لناس الفيلم وشخصياته، وكذلك المعتقدات والأوهام والخرافات، وصولاً إلى ثنائية الحياة والموت، الوجود والاستمرار... وعلى رغم أن حنان (المرأة العاقر)، لم تجد نفسها في مأزق اجتماعي حقيقي، - إذ بدا زوجها متفهماً، وقابلاً بالمقادير، ورافضاً تماماً فكرة الزواج بامرأة ثانية، من المُفترض أن تكون ولوداً، كما لم يبدِ أيّ من أفراد أسرة زوجها تذمراً، قانعين بأنها مشيئة إلهية، مكتفين بما لديهم من أولاد وأحفاد، يعمّرون البيت، ويضجّون بالحياة المتناسلة من أرحام نسائهم، باستثناء حنان نفسها التي خابت محاولاتها على مدى 12 سنة من الزواج - على رغم هذا، فإن الفيلم لم يتراجع أبداً، بل تقدّم عبر مسارب درامية ذكية نحو مساحات أوسع، ساعده في ذلك التعاون التام (كما يبدو) من جانب حنان، وجمال إطلالتها أمام الكاميرا، بعينين صافيتين، وخطوط الزمن والحزن المرتسمة على ملامح وجهها. فضلاً عن استثنائية عمل زوجها وأبيه في مهنة حفر القبور وتعميرها. هذه امرأة ريفية، بسيطة التعليم، من بيئة اجتماعية واقتصادية متوسطة. كثيراً ما تبدو حنان وحيدة عزلاء، بعد موت الأهل، وانفضاض الصديقات، تنثني دونما انكسار على رحمها المُمعن الصدود عن جنينها المرجوّ والمُنتظر. وسنعيش معها أكثر من ساعة ونصف ساعة من السرد البصري المتقن، هي خلاصة زيارات وجلسات تصوير تفصل بينها أوقات، تمتد طويلاً أحياناً. أوقات تجري في نهرها أحداث ووقائع، لم نرها على الشاشة ولكننا أدركنا، سواء عبر شخصيات الفيلم، أو بعض الكتابات التي استعانت بها المخرجة، في إشارات مقتضبة وذات دلالة. مكانة للوثائقيّ يثبت «أم غايب» أن في إمكان الفيلم الوثائقي التألق في الإبداع، حتى لو كان يتناول قصة معروفة ومكررة، وحتى لو كان يتعامل مع بسطاء في قرية نائية. هؤلاء الذين بدوا هنا قادرين على كسب المشاهد، دونما ادّعاء أو تأنق أو فبركة. «هكذا نحن»... لسان حالهم، وحال الكاميرا، يتوافق في تناغم لقول ذلك، جاء نتاج حرص المخرجة على التواري وراء الكاميرا، والابتعاد مما يمكن أن يشي برغبتها القول «أنا المخرجة هنا»، والاختفاء تاركة المساحة لحنان، وناسها، وأهلها... وللحظات بوح رائعة، خفّفت من وقع المشاهد التي تقوم بها حنان من دحرجة قاسية، خضوعاً لما قيل لها من أنه يفك الانغلاق، ويطرح الخصب في رحمها الجاف. يبقى من الضروري الإشارة إلى ان فيلم «أم غايب»، هو أحد نتاجات مشروع «حصالة»، الذي سبق أن شاهدنا من إنتاجاته رائعة هالة لطفي «الخروج إلى النهار» (حاز جائزة أفضل مخرج عربي، وجائزة النقاد الدوليين «فيبريسكي» في الدورة السادسة من «مهرجان أبوظبي السينمائي» 2012)، وهو ما يثبت أن المشاريع الإنتاجية المستقلة، ذات الإرادة القوية، والاصرار والدأب، قادرة على الإضافة المتميزة لتاريخ السينما العربية، على ما فيها من محدودية إنتاجية، وقلة حيلة.