كيف لمخرج أن يجمع في شريط سينمائي واحد، ثلاثة نصوص متفاوتة، لكُلّ كاتبه؟ وكيف له أن يقود كل هذا السرد الشعري والإيقاع الداخلي للنص، تحت حركة مشهدية لخاتم صغير يرن كبوصلة تقود إلى قلب الكاتب السوري جميل حتمل، أيام مرضه في مستشفى كوشان الباريسي، لتنطفئ هناك آخر كلمات مجموعته القصصية الأخيرة «سأقول لهم»، كما فعل قلبه عام 1994؟ لقد فعلتها المخرجة السورية هالة العبدالله قبل ذلك في شريطها الأول «أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها» (2006)، الذي حاز «جائزة اتحاد الوثائقيين في العالم» في «مهرجان فينيسيا الدولي»، وجال في نحو 55 مهرجاناً عالمياً، حين مزجت صورة شعرية واحدة من ديوان «كسرة خبز تكفيني» للشاعرة السورية الراحلة دعد حداد (رحلت عام 1991) بالجمل الإنسانية الدافئة لشخصيات الفيلم، وجملها الحياتية هي ذاتها، ففتحت نافذة مجاورة للشعر على حياة شريكها التشكيلي السوري يوسف عبدلكي وابنتها ليلة أيضاً. «لم أكن في المنفى ولم أعد لسورية، ما زلت مقيمة في باريس مع ابنتي، وكنت دائمة التنقل بين الشام وباريس، لم أحرم من هذا ولو لمرة» ترد هالة على قضية ملحة ظهرت في الفيلم، وهي مرافقتها عبدلكي في رحلة عودته إلى سورية بعد ربع قرن من البعاد. «هيه لا تنسي الكمون» ينادي حتمل، هالة، في لحظاته الأخيرة قبل غيبوبة طويلة، الفيلم – الجملة صُوِّرَ في أربعة أيام، وجُسِّدَ فيه مشهد لنص حتمل «نرجسية» خلال ثلاث ساعات فقط، مع ممثلات يقفن للمرة الأولى قُبالةَ الكاميرا، ولا يعرفن أنهن أمام تهويمات شاعر ضل طريقه، ليصف نساءه في قصة، استطاعت هالة أن تلتقط بكاميرا واحدة للمصورة الفرنسية سابين لانسلين ما يشبه ثلاثة أسراب عصافير، في زمن قصير للتصوير، ونتخيل بذلك كل سرب شخصيةً مملوءةً بالتفاصيل والحيوية، كل ذلك تأتّى لها من خلال دراية سينمائية كوّنتها أثناء عملها مع مخرجين أوروبيين وعرب، وحُلُمٍ جادٍّ بالاندماج سينمائياً بتجربة الآخر بدأته كسكريبت مع المخرج في الفيلم الروائي السوري «نجوم النهار» (1986)، وكان دورها يختلف بين فيلم وآخر، فهي تقوم بما يحتاجه المشروع تقنياً، أو حتى البحث عن تمويل وتأمينه» كما تقول، فتجربتها هذه سمحت لها الاستمتاع الطويل بالمغامرة السينمائية. قوة الصوت «تعبت يا الله وأريد أن أعود إلى مدينتي، أو إلى بيتي القديم» جملة حتمل في بداية الفيلم الثاني لهالة، تلحقها لقطة للفنانة دارينا الجندي؛ إنه منعٌ من العودة إلى الوطن. تنجز هالة أفلامها من دون أي التزام لأحد الآن، لا على صعيد التمويل أو الوقت: «أحرص على حريتي في بحثي وإنجازي لفيلمي، فأقوم بتحقيقه بأقل تكلفة وزمن، هذا هو سندي في محاولاتي صناعة أفلام بكامل الحرية أعمل اشياء حرة، وأريد أن أقوم بأفلامي بأقل ما يمكن من تكلفة وزمن، هذه قوتي». قوة أخرى في فيلم «هيه لا تنسي الكمون» تأتي من صوت الكاتبة البريطانية سارة كين (انتحرت عام 1999)، ومن نص مسرحيتها «هوس الساعة 4,48»، تساعد على ترسيخها صرخات دارينا الجندي بقوة: «صدرية المجانين»... في عرضها المسرحي «يوم توقفت نينا سيمون عن الغناء»... وترى هالة أن شخصية الجندي كامرأة أكثر تركيباً، من نساء مرت عليهن في شريطها الأول: «هي متمردة بالمعنى الاجتماعي، وتُعبّر عن هذا في حياتها اليومية، وانتفاضها على ما هو مفروض. استطاعوا القبض على دارينا مرة، فزجت في مستشفى المجانين في بيروت»، هالة تتوقف عند مرحلة حياة الجندي الحقيقية من دون أيّ فصلٍ بين المسرح والواقع والتسجيل لهما، فالفيلم حُبِك مرافقاً لتدريبات الفنانة اللبنانية على عرضها المسرحي واستعدادها لتقديمه في قاعة «لي هال» من مهرجان المسرح في مدينة آفينيون الفرنسية، نُقِلَت دارينا إلى البيمارستان العائد إلى القرن الثاني عشر الميلادي في حلب، على نحو مشهدي فقط، بينما لم تتحرك شخصياً من فرنسا. منذ عام 1978 (دراسة علم الوراثة والأنثروبولوجيا والسينما)، إلى 2006 عام تصوير فيلم «أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها» مع المصور السوري عمار البيك بكاميرا غير احترافية، فترة متنوعة وملونة لهالة مع الأفلام: «لم أكن مأخوذة بدايةً بإنجاز فيلمي الشخصي، إنما بالسينما كمهنة». هو سعي إلى تبادل داخلي وجداني مع الآخر، اكتشفت فيه الحالمة بالسينما، الصوت والصورة بنفسها ولو عبر مشاركتها بإنجاز أحلام الآخرين، هو إذاً ليس تأخراً، بل متعة في إيجاد مساحة ضمن منجزات جماعية. تشابه في عمر الخمسين أحبت المخرجة أن تهدي سنوات عمرها فيلماً، لكن ماذا لو فعل ذلك كل شخص يعمل في السينما بعيداً من التأليف والإخراج؟ مؤكد أنه لن يظهر هذا الترسيخ القوي للكلمة الشعرية خلال المشهد، وهذا القلب والنبش لتفاصيل كثيرة، خبأتها المخرجة من مشاريعها لأفلام عدة، أهمها فيلم عن دعد، لكن «كل شيء وجد في الفيلم يشبه دعد وهي أصبحت تشبهه» تجيب هالة متأملة حالة شخصيات النساء المقهورات في فيلمها «رولا وراغدة وفاديا أو أم يوسف» بأن كل ما فعلته هي في حياتها خارج سورية، إضافة إلى لحظات الاستطلاع وحركة الداخل هناك يُلخّص الإحساس بالخيبة والوحدة، يتبع هذا تأكيد في كل لحظة على القوة الموجودة لديهن. في بدايات القرن العشرين وأثناء مجازر العثمانيين غادر الأرمينيون نحو حدود الدول المجاورة لسورية. قصة موت وضعف ترويها هالة في «أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها»، لتحك الصدأ عن رأسها، فيما تتبع قصة ملكة الفيلم دعد مع الشاعر السوري نزيه أبو عفش، وترى هالة أن دعد دفعت ثمن التمرد، في عيشها على الهامش، بعيداً من قوانين اجتماعية لا تؤمن بها، ويبدو أن المخرجة وضعت دعد ضمن فيلم كان يحوي الكثير من الرغبات ومشاريع الأفلام العالقة. يقبع فيلما هالة على مسافة من الروائية والوثائقية والتجريبية السينمائية، ضمن خلط وتداخل موسيقي وروائي، هكذا تصف أسلوبها: «ضد الحدود، ورسم مناطق مفصول بعضها عن بعض». فالتسميات للآخرين لو شاؤوا، ولها فيلم «المؤلف» بحريته: «أتنقل كما أرغب بين الأنواع السينمائية في أفلامي، وأستدعي النص، وطبيعة الفيلم حتى اللحظة الأخيرة من المكساج»، إذاً منهج هالة ضد الموضة المنتشرة لمدارس تتوافر في بلدان من دون غيرها، هو مطلق وحر، لكنه بالتأكيد يتأثر بما حوله. رحلة هالة الفيلمية القادمة في بورتريهات عن نساء من العالم، أولها بورتريه للكاتبة والسينمائية اليونانية لوكيا ريكاكي، ثم فيلم عن الكاريكاتور ورجاله في العالم العربي: محيي الدين اللباد من مصر، وعلي فرزات من سورية، وسليم من الجزائر، فهل سيكون لصورة شعرية جديدة سيطرة كلية على المشاهد تُبكي كاتبها من شدتها؟