من لم يقرأ قصص (نبتة مريم) للقاصة نوف السمرقندي فقد خسر خسارة من وجد كنزا، ولم يغترف منه، فإذا استوقفه عابر ما، قائلا له: كان في طريقك كنز فأين نصيبك منه؟ ساعتها سوف يعض على أصابعه ندما. هذا الندم وجدته في نفسي، ولكي لا استأثر بحالة الندم تلك، قمت بتوزيع عدة نسخ على مجموعة من الأصدقاء، وضربت موعدا لمناقشة القصص، فنحن نفر من عشاق النص الأخاذ. وأثناء النقاش حول المجموعة تناثرت كلمات الإعجاب، والإطراء، وكان استغرابنا عدم شيوع مجموعة (نبتة مريم) بين المنشغلين بالسرديات. وقبل هذا النقاش، والإعجاب، والاستغراب، كانت بيننا جلسات دورية لتحديد عمل إبداعي يكون وجبتنا الرئيسية في الموعد القادم، أحد الأعضاء الرئيسيين اقتراح قراءة مجموعة قصصية بعنوان (نبتة مريم) لقاصة اسمها نوف السمرقندي، كان اقتراحه أشبه بالملاطفة مزكيا العمل القصصي بقوله: - ستجدون عملا قصص يا لائقا بمفهوم القص. مستعدا للمراهنة على جودة القصص، قبلنا باقتراحه على مضض، إذ كان أمامنا ثلاثة اقتراحات لقراءة: رواية (المزحة) لميلان كوندريا، ورواية (سيدة البورسلين البدينة) لازابيل الليندي، والديوان الشعري (مديح الظل العالي) لمحمود درويش، ومع الموافقة على اقتراحه، ولكي لا يعتذر أحد من أن المجموعة ليس في حوزته، وعد بإيصال المجموعة القصصية إلى كل فرد في منا، بأي شكل كان، سواء بنسخ (يقتنيها لنا) أو نسخة بي دي إف، ويرسلها إلى إيميل كل منا.ط. كان إلحاحه مزودا بتلك المراهنة بأننا سنجد عملا قصصيا رائعا. .. عدت إلى مكتبتي وفي البال أن تلك المجموعة حصلت عليها من معرض جدة للكتاب ولم أقرأها بعد، ولكي أبرهن على سلامة ذاكرتي، أخذت أتلمس أعقاب الكتب في مكتبتي (قسم المجموعات القصصية)، وأثناء التفحص انبثق إصرار زميلنا على قراءة هذه المجموعة، فما الذي وجدته في هذه القصص لكي يلح ذلك الإلحاح اللطيف، ولأني أثق بقراءته، وجنوحه إلى الجمال الإبداعي، عذرت إلحاحه، فقد ألفنا على تبادل جماليات الإبداع الذي لم يكشف، فهناك عشرات الأعمال القصصية والروائية نشرت ولم يلق لها بالا فدفنت داخل مكاتبنا حتى إذا قرأ أحدنا جمالا إبداعيا أصر على تبادله معا. مكتبي يلوح عليه الضخامة، وإن كان يحتل الجدار الأوسط من مكتبي الذي يروق لي البقاء فيه لأوقات طويلة، وقفت أناملي على كتاب معنون ب(نبتة مريم)، غلاف يغلب عليه اللون الرصاصي، مزين بلوحة لفتاة جميلة ثبت عليه اسم القاصة وتصنيف الكتاب (مجموعة قصصية)، وقد أخذت عدة أسطر من نصوص المجموعة توزعت في نصف الغلاف، وعلى جانبه الأيمن.. فتر فمي عن ابتسامة عريضة حينما تذكرت صديقتي شوق المبهورة بالشكل، فهي طالبة مطيعة الشكلانيين، إذ تبدأ رؤيتها النقدية من البوابات الأولى للكتاب، وتحرص على إعطاء الغلاف أولوية قصوى من الاهتمام حتى أنها في إحدى المرات قرأت رواية (العصفورية) للدكتور غازي القصيبي، وكان غلاف الرواية صورة للدكتور غازي مرتديا بدلة زرقاء، وفمه متسع في ضحكة واسعة، تلك الصورة أدخلتها في قراءة النقدية لرواية العصفورية، شكلانية، وسألتها: وكنت ممن ضحك من قراءتها.. - لو كانت صورة الدكتور غازي مرتديا ثوبا وغترة وعقالا هل سيثغر نقدك للرواية؟ لم تستقبل سؤالي بسماحة صدر، وإنما بتجهم، وربما قطمت كلمة (غبية) قبل استضاحها بصريح المفردة. ضحكت الآن وأنا أشرح غلاف رواية (نبتة مريم).. صدقا وجدت هذه المجموعة البديعة قادرة على جذبك من أول نص قصصي، وقادرة على إخضاعك لمواصلة القراءة. فما الذي حملني على كتابة مقدمة الطبعة الثاني لمجموعة (نبتة مريم)؟ هناك أسباب متعددة، قد يكون أهمها قاعدة نشر الجمال الإبداعي، بالرغم أنني أرفض كتابة مقدمات الكتب، كوني أرى أن المقدم يسلب المؤلف الرئيس قارئه عنوة، لو بدأ المقدم في كشف متع القص بسرد التفاصيل، فجمال النصوص قائم على متعة القارئ، تلك المتعة المنشئة للدهشة، والتي يؤسس لها القاص في غفلة عن القارئ، ليفاجئه باللحظة المرتبكة في مشاعره، ويتركه متسائلا: ما الذي أحدثه هذا القاص لينتزع مني هذه الشهقة، والقاصة نوف السمرقندي هنا تنتزع منك الشهقة في كل نصوص المجموعة.. وسوف أعد القراء أن لا أقوم بدور الكاشفة عما تحدثه القاصة لغزل قصصي لكي تتسرب إلى مشاعرك حتى تقطف منك شهقة الإعجاب. ومهما كان المقدم مدعيا أنه يمهد للقارئ فلن يكون إلا ذاك المدعي، فالنص غير القادر على تميزه فلن يتميز بأي تمهيد من أي كاتب يستهل بداية الإبداع بأي مقدمة كانت. وأعترف من البدء أن القصص تتفوق على أي تقديم، ولذلك أطلب من القارئ غض الطرف لما أكتبه هنا، وليتنبه لجمال القص المستحدث في هذه المجموعة. فاجأتني القاصة نوف باختلاق عوالم قصصية لم يسبق لي أن سرت بين تلك التعرجات المفضية إلى سهوب من تضاريس قص يكون استواء وتعرجات القص كل منها ينقلب على ما قبله من استواء ليس لتهشيم وإنما لإقامة مشهد مغاير لما بدأ في تأسيه، فالمؤلفة لم تسلك إضاءات المنظرين لفن القصة القصيرة، أو أنها لم ترتهن إلى وصايا المنتدبين لإضاءة دروب القص، فلم تشأ حمل (عقد) موبسان أو الركض خلف (طلقة) تشيخوف أو أن تتسلل من (معطف) غوغول لتظهر، وقد تجنبت (رشقة) يوسف إدريس، وتخلصت من مظلة بوريخس، أرادت أن تكون هي من غير أردية قصصية تطاردها بتهمة أنت أردتيتي فستانا غير فستانك، أرادت أن تكون هي، مجتهدة أن تكون لها بصمتها الخاصة. عمدت إلى اختزال التجربة القصصية الإنسانية بتجويد خطاها في كل أرض وعرة أو ممهدة، ولأن الفنان ليس بحاجة إلى الصراخ حين يفتح منافذ وجوده القصصي، وجدت أن القاصة نوف السمرقندي تنساب رقصا جذلا في تعطفات متناغمة من غير صراخ، كفرس النهر حين يلمع وينعطف لسرقة عينيك بلمعان توهجه، فمع كل شهقة سردية تتسع رئتها لأن تتعب من نسايم النفس الإنسانية في الحكي والسرد في طبقاته الدنى والعليا. فهناك نصوص، عمدت القاصة الى انقلاب النص على نفسه، وهذا سلوك سردي أجادت فيه، بحيث يتحول النص إلى جدلية متعاقبة (بناء ونقضا، ونقضا وبناء) هي جدلية الأفكار عند هيقل، وليست جدلية المادة عند ماركس... وهي الكيفية التي يمكن للقصة أو فكرتها العمل بتوازٍ غير مخل (مع وضد)، والتوازي مرحليا، إذ سرعان ما تتشابك الأحداث مكونة مركبا تتولد منه عدة عناصر كل منها يعمل على توالد أحداثه بتنوع مميز لكل تشجر من تلك الأحداث لتفضي إلى جدلية النص مع الواقع تشكلت هذه الخاصية في قصص: (نوايا تفلق الأرض اليباس، نبتة مريم، والكحل)، فتشكل منحنيات القص لم يفقد تماسك الحدث فنياته، وإن كان هناك انقلاب النص على نفسه ليس تفككا بل لتصعيد درامي للحدث وإيصاله إلى ذروة عالية، مع الحرص على فكفكة الأحاديث لكي تكون لحظة التنوير ذات إنارة تفضي إلى خلق تراكم الدهشة الفنية: (لا تنسي قوت الحمام، ونكايات صغيرة، مأوى في قلب الماء)، وإن كانت الدهشة مؤسس لها منذ البدء في نصوص المجموعة. ومغزى النص لدى القاصة نوف السمرقندي يتوزع باختلاف ذائقة القارئ، يحدث ذلك من غير استجداء التعاطف مع النص أو مباشرة إيصال المغزى المخبوء بين الكلمة وتموجات حدث القصة، في ربط بين حنكة القص وذكاء المتذوق لما يقرأ. يحدث ذلك من خلال تمازج الواقع مع فكرة القصة، بحيث تعمد على تحريك العنصرين كمجدفين يعملان بتناغم لكي لا يبطأ الحدث عن الفكرة.. وفي حركيّة القص تمسك المؤلفة بحقها في تسيير المركب وإن أحدثت فوضى، وهي فوضى مقصودة لا تخرج القارئ من المركب، فاتساع رقعة النهر تمكن المؤلفة من فتح نوافذ الاستمتاع بتلك الفوضى. وهذا النهج يمثل فوضى الحياة، فما يحدث فيها هو أفعال فوضوية تتناسق في نظام يقبل الفوضى، وإن كانت تلك الفوضى وعدم إتزان الأحداث بعضها مع بعض تمثل لدوران الأحداث في كل نقطة من الأرض، فالأحداث تحدث في كل مكان بصيغة واحدة المتغير فيها الزمان والمكان، فالحدث الذي تقرأه داخل النص الذي بين يديك، يحدث له مثيل في مكان آخر وفي التوقيت ذاته، فهذا لا يعني إسقاط زمنية القص بل تأكيد امتزاجه بواقع الحياة، والاختلاف بين الواقعين، هو اتقاد ذهنية القارئ. للقصة أنامل لطيفة تجذب من أول ملامسة تحدث بين النص ولهفة القارئ لاكتشاف ماهية ما يقرأ، ببداية مغرية لارتقاء درجات النص حتى إذا بلغ الردهات الواسعة أخذت ذهنية القارئ تتجول بين منحنيات القاص فإذا استرخى كان حاق بالقاصة إلى، حيث أنثنت بالسرد إلى فضاءات تصعيد الأحداث غير متواقع فتجد في مخيلة القارئ الإصرار للمغايرة لما كان يتوقع (قصة لو نطقت الصورة) حتى إذا بلغ القارئ لحظات التنوير وكشفها توقفت القاصة عما يشبعه من لهفة إضافية، وهذا ذكاء سردي لا تسلم فيه القاصة حيلها السردية القادمة في نصوص أخرى من المجموعة القصصية. إدماج الحوارية في السرد بحيث يتحول إلى وحدة سردية يمكن لها النهوض بالنص من غير السرد بتاتا أو تجفيف السرد لإسناد المهمة للحوار في إقامة عمود القص، عندها يتحول الحوار إلى قيمة سردية (أعشق نون) وإن خاتلت القاصة القارئ بإيجاد سر ما يسكن الحوارية، فهي أحد الأساليب السردية أثناء القص. - وحين تدخل إلى نفسيات (قصة فانشيستا) فهي تؤكد غياب النفس أو تلوثها بما تجد من مغريات زائفة، وتذهب نصوص المجموعة إلى النفس الروائي في جل القصص، بدءا من تجييش المشهد القصصي بغرائبية واستثارة لذهنية القارى (مأوى في قلب الماء)، و(فندق المقبرة)، وتجربة البدء من منتصف القصة، ومن منتها وهي بهذا تحيل القص إلى مفهوم دائري (نكايات صغيرة)، و(الجروح قصاص). وفي قصة (نبتة مريم) التي ارتضتها القاصة عنوانا لمجموعتها استخدمت أسلوبا لغويا وتدرجا في القص من غير إفشاء لأفكار البطلة أو الشخوص المساندة حتى أن المونولوج الداخلي ظلت تواري أفكارها حتى تصل إلى الذروة لتكون النهاية هي الكاشفة لكل ما كان في دهاليز نفسية البطلة، وهو أسلوب سردي يكثف الغموض ليشع في نهاية القص، مع أن ذلك الغموض المستنكر وإنما الغموض المحبب والذي له مفاتيح لفكفكة رموز الغموض الذي تسير عليه القصة. والمكان في بعض القصص تشعر أنه خارج المدينة بصخبها وتفرعاتها وأصواتها المتنافرة، بل يميل إلى القرية أو الريف، حيث تصفو اللغة كنغمة خارجة من آلة وترية عذبة العزف. في كل قصة يمكنك الخروج بعدة توصيفات، فقصة (ن) تبدأ ذهنية المتلقي استحضار (النون) هل هو المعبود القرشي، أو (النون) الملتقم من الحوت أو أنها دلالة لبدء اسم القاصة بهذا الحرف، وإذا استطردت مخيلتك سوف تكمل (وما يسطرون)، وهي إشارة لكل مدون ومسطر، ولهذا فلكل نص قصصي انطباعات عديدة تدخلك القاصة في البحث عن الماهية خلف الكلمة والحرف أو أنها تتعمد أو ترتكز على تجارب القارئ بأن يفيض على القصة من تجاربه حتى يلتحم بالقصة المكتوبة، وهو أسلوب قصصي يشرك القارئ في إضفاء إبداع خاص به، أو أن ذلك من الحيل السردية القائمة على توازي القراءة والكتابة معا. ونوف القاصة تمارس لعبة الاصطياد بمخيلة السرد العجائبي كاستثارة لمخيلة القارئ. - لم تنس وصية الجدة لها: حين تشرق الشمس اتبعي بذرة النور حيث مشرقها (قصة: نوايا تفلق الأرض اليباس) ولما للصياد من صبر فهي تغزل بصبرها اللغوي رداء القصة ما بين إشارة هطول المطر وانهماره على بذور النوايا، من هناك انداحت اللغة السردية شاعرة، وتشجرت أحداث انبثقت من تلك النوايا المزروعة التي استحالت إلى وجود من البطلة اسما حين يتصاعد صوت شيخ مسن لم يكن حاضرا لسجدتها.. ملقيا عليها اسم بركة، أي أن كل المشاهدت تولدت عن كائن له البركة والنوايا البيضاء. نوف السمرقندي سارت بنصوصها على قضبان الشكل الأصيل للقصة القصيرة. وهي مجموعة ويمكن للقارئ تصديق هذا القول حين يتمم قراءة هذه المجموعة التي تعد من المجاميع القصصية مظلومة الإصدارات كونها صدرت في فترة زمنية تهافتت بحيث لم يتم مراجعة الكم المهول من القص، لذا لم يلتفت إليها النقاد.. من عمى النقاد ومن يكتب بهذا السرد الأخاذ لن يبتئس، فالنفس القصصي يراهن على وصول القاصة الى مبتغاها الفني، الإبداعي وانتشارها وإن كانت من إشارة ترحيب بنوف السمرقندي وتشوق لما تكتب، فقد امتد شوقنا كانتظار متلهف لروايتها (سيدي كامل) الموعود نشرها قريبا.