كلّما فتحت أليسْ الصغيرة كتابها لتقرأ،"شهقها"الكتاب إلى أعماق أعماقه، وأدخلها"بلاد العجائب". ولم تكن أليس تفيق من حالة الاستغراق إلاّ عندما تناديها أمها لأمر ما. والصغيرة تحب القراءة والقراءة تحبّها، حتى أن بعض الشخصيات كان يخرج من الكتاب معها إلى واقعها، ليطمئن إلى أنها ستعود. وعلى عكس أليس، يتساءل الفتى البغدادي، وهو ممن شملهم مسح جامعي حول القراءة والمطالعة، عمّا جناه والده من القراءة."لا شيء"، يقول لنفسه، وينظر إلى محدّثه بحسرة ويشرح له أن عليه أن يساعد أباه في إعالة الأسرة... فما نفع القراءة، إذاً؟ والفتى الفقير الحال، كما يبدو ليس وحده في هذه القطيعة مع الكتاب، إذ يشاركه بها، وللمفارقة، نشء ومراهقون من عائلات ميسورة في العراق. وهؤلاء، وهم قلّة، متعلّقون بالتلفزيون والكومبيوتر، لأن كهرباء المولّدات تتوافر في منازلهم ليلاً، على عكس بقية أنحاء البلاد، حيث يمر التيار بالبيوت تباعاً لساعة واحدة، وهي مدة لا تكفي أحداً للمطالعة ولا لقضاء حاجة. تدور فينا الدورة لنحصد مزيداً من القطيعة مع الكتاب ومطالعته، فالأمر ليس أحسن حالاً في بلدان عربية أخرى، على رغم"تفاؤل"رئيس اتحاد الكتّاب في سورية، عدنان سالم، الذي يعدنا بأن المعارف ستسال إلى البيوت كالماء والكهرباء. وفي السعودية، يبدو أن الوسائط المرئية والرقمية تغلّبت على وسط النشر الورق، ما أفضى إلى انكفاء عن القراءة سببه أيضاً الكتاب المدرسي وطول وقت الدرس، مثلما في اليمن والعراق. إلاّ أن الواقع لا يطمئن، فلمعرفة القراءة علاقة مباشرة بالالتحاق بالتعليم واكتساب المعرفة والثقافة عبر المطالعة والبحث. وفي فقرة"معرفة القراءة والكتابة"، من الفصل الرابع من تقرير التنمية البشرية 2004، ورد أنه على رغم تقدّم التعليم بين النشء،"صمدت الأمية أمام محاولات القضاء عليها، ولذلك لا يزال الإنجاز التعليمي الشامل في البلدان العربية ضعيفاً في المتوسط... ولا تزال معدلات الأمية في العالم العربي أعلى من المتوسط الدولي وحتى أعلى من متوسطها في البلدان النامية، فضلاً عن أن عدد الأميين في ازدياد...". وتشير أرقام العام 2002 لمعدل الأمية بين من تبلغ أعمارهم 15 سنة أو أكثر، إلى أن الأمية في الاردن والبحرين في أدنى مستوياتها 9.1 و11.5 في المئة، وأعلاها في مصر والمغرب وموريتانيا 44.4 و49.3 و58.8. وبين 1990 و2002، زادت معرفة القراءة لدى الشباب بين 15 و24 سنة في المنطقة العربية، من 63.9 إلى 76.3 في المئة. وسجّلت دول مجلس التعاون الخليجي أعلى المعدلات، 94 في المئة. وأزمة الكتاب تطاول الغرب أيضاً لكن آلية الحلول موجودة وجاهزة. ونختار هنا مقتطفات من حديث نشرته مجلة"لابيل فرانس"الفرنسية، في نيسان ابريل 2000، مع دانيال بيناك، الروائي والأستاذ الفرنسي، من أصل مغربي، الذي اشتهر بمؤلفاته للأطفال. في مستقبل الكتابة والكتب، لا يعتقد بيناك، أن الكتاب، أو الكتابة بنطاق أوسع، تتهدد وجوده وسائل تعبير أخرى. وهو يثق بالكلمة المكتوبة لأنها تولّد صدمة قوية لا شفاء منها، وهذه الصدمة"توثقنا بالكتابة أبداً". وعن تأثير التكنولوجيا الحديثة، كالإنترنت وغيره، يقول إنها ليست المرة الأولى التي تنحرف فيها الكتابة عن خطها بفعل ممارسات بسيطة أو مفيدة. ولعلّ تأثير الرواية الرديئة أسوأ وقعاً في الكتابة من فعل التكنولوجيا فيها. وفي كتاب"كأنها رواية"، وضع بيناك عشرة حقوق نهائية للقارئ، ومنها حقه في ألاّ يقرأ. والهدف منها مصالحة النشء مع الكتب. وهو يحاول ذلك مع تلاميذه، فتارة يقرأ لهم الروايات بصوت عالٍ وطوراً يتحدّث معهم في الأدب، وأحياناً يروي لهم"الحكايات"... وكل ذلك"ضمن أداء حرّ لا يحكمه منهج تربوي". وللمدرسة دور في إعادة تأهيل التلاميذ. وعلى الأستاذ أن يعلّمهم حسن التصرّف وحسن الكلام، أي التواصل، قبل أن يعلّمهم القراءة والكتابة، وأن يحترموا وجود الشخص الذي يتحدّثون معه... وهذا عبء كبير على كاهل هيئة التعليم، يسبق العملية البسيطة لنقل المعرفة... وعليه، يكون التحدي الفكري أمام المعلّم، إيجاد علاقة ديناميكية بين التلاميذ، شرط أن يحترم فردية كل شخصية من الشخصيات التي تشكّل تلك المجموعة. لا يرتبط ذلك بما يتعلّمه الأساتذة، لكنه يتجلّى في الواقع اليومي لعملهم. فإذا رفض أحدهم معاملة التلميذ كفرد، أو على العكس إذا منحه انتباهاً زائداً، يختل توازن الصف... المسرح والسينما استلهما الكتب كشخصيات أو أوساط تدور فيها الأحداث، ومن الأعمال: مسرحية"قصص تُقرأ وقوفاً"للفرنسي جان ألاغْر، الشخصيات فيها كتب تروي شؤونها وشجونها لأمين المكتبة. وفيلم"أليس في بلاد العجائب"للأميركي كارول لويس، وفيلم"قصة بلا نهاية"، وغيرهما. أما فيلم"قصص الكتب"كرتون، 1999، للمخرج ريتشارد فرانسيس، فيُعتبر من محاولات تحفيز النشء على المطالعة التي تصبّ في ملف هذا العدد من ملحق"أسرة". وفيه أيضاً محاولات جدية لمصالحة نشئنا مع الكتاب والقراءة. محاولات حثيثة وصامتة، لكن فاعلة، تجرى في المكتبة العامة في بيروت، على سبيل المثال، فضلاً عن جهود الأهل وأولياء الأمور.