في استرجاع صورة الشاعر العراقي سركون بولص، المنسي نسبياً في اغترابه الأميركي، تحضرني، بغرابة، تلك الكلمات الختامية لتنيسي ويليامز في مسرحيته"الحديقة الزجاجية"التي يسوقها على لسان بطله توم، والتي يقول فيها:"تنقّلتُ كثيراً. كانت المدنُ تتطاير حولي كأوراق ميتة، أوراق ساطعة الألوان، سُلِخَت عن أغصانهِا وتطايرت. كان يمكنني أن أتوقّف، لكنّ شيئاً ما كان يلاحقني. يهبطُ عليّ في غفلتي، ويباغتني. لعلّها مقطوعة موسيقية مألوفة. لعلّها مجرّد نثرةٍ من الزّجاج الشفّاف". لا أتصوّر أنني أتذكر الآن هذه الكلمات، عبثاً، ففيها الكثير مما يصف شعر سركون بولص، ويصف حياته أيضاً. ناهيك عن صلة القربى، أسلوبياً، التي تذكّرنا بكلام سبق وقرأناه يوماً ما للشاعر، حتى ليخيل للمرء أن سركون بولص، وليس تنيسي ويليامز، هو من كتب تلك الكلمات. والقارئ لقصائد بولص يجد أنها مكتوبة حقاً عن مدن لا تُحصى، أبطالها جوّابو أحلام، يتنقلون كثيراً، مطاردين بشتى الهواجس والأفكار. لعلها الحياة أيضاً وقد تحولت بين يدي سركون بولص إلى منحوتة زجاجية، مثله مثل بطل ويليامز، تتناثر بهدوء أمام أعيننا إلى شظايا ملونة، لا مرئية. ما يطارد بولص بالتأكيد هو القصيدة. القصيدة الشفافة، الحية، الغنية بأوكسجين الحياة. لا ذهنية ولا فلسفية. قصيدة رشيقة، غنية بالإيقاع الداخلي، إيقاع النثر الذي تحوّل بين يدي هذا الشاعر، في وجه خاص، إلى ندّ حقيقي لإيقاع التفعيلة. وهي قصيدة متحركة، تنام على حلم وتستيقظ على حلم. أقصد ليست قصيدة دوغمائية. ليست رهينة مقولاتها النظرية أو النقدية. وفيها الكثير من التجريب على صعيدي البنية والموضوع. إنها القصيدة - الرحلة journey poem بامتياز. القصيدة - الزورق التي تهب عليها الريح، ويأخذنا المدّ إليها، وتأخذنا، نحن، على حين غرة، وترمينا إلى شواطئ مجهولة. في إحدى قصائده يقول بولص:"هل أغرتكَ السفنُ إلى هذا الحدّ/ وسرتَ كما قلتَ/ على الماءِ؟"، كأنما للتدليل على شفافية الرحلة وصفائها، رغم أن السّيرَ على الماء مجازٌ بمجاز. والعنوان"إذا كنت نائماً في مركب نوح"الذي خصّ به مختاراته الشعرية الصادرة عن دار الجمل لا يوحي سوى بشغف هذا الشاعر بالرحيل والارتحال شعرياً. هذا إذا لم نذكر كتابه الأول"الوصول إلى مدينة أين"، المفتون بالسفر والموانئ والترحال. وإذا أردنا أن نبحث عن مرجعية جمالية للشاعر، فإننا لن نجدها في شعر أدونيس، مثلاً، أو أي من شعراء مجلة شعر. ولن نجدها في شعر سعدي يوسف، أقرب الأصوات الشعرية الى حساسية الشاعر. كما أننا لن نجدها في قصيدة أنسي الحاج الذي يجنح، ربما، إلى عذوبة إنجيلية نادرة، أو في كآبة محمد الماغوط الذي يحب أن يتضوّر وحيداً في عراء المفارقة. ربما كان بولص، من دون أن يدري، يقيم خارج النسق الشعري العربي، بفضل إقامته الطويلة في منفاه الاختياري، واحتكاكه بالثقافة الإنكليزية، وبشعراء يشبهونه كثيراً أو قليلاً من أمثال آلن غينسبرغ ومارك ستراند وجون آشبري، وغيرهم. ولن ننسى قرابته الأسلوبية، بحسب رأيي، مع المهاجر الآخر، وديع سعادة، الأكثر ميلاً الى كتابة القصيدة الصافية، القصيدة الخالية من القصد، ربما من فرط شفافيتها. أجل، وديع سعادة هو الأقرب. ولكن بولص مختلف أيضاً عن سعادة. ثمة ألم خفي في قصيدته، مردّه الشعور بعبثية الأشياء في الزمان والمكان، مما لا نجده بالقوة نفسها في شعر سعادة. ألم سعادة فلسفي وألم بولص تاريخي. ليس بولص بشاعر بلاغة مثلاً. لكنه أيضاً نحّات ماهر يجيد السطر الشعري المحكم، والضربة الموسيقية التي تجعل الشكل توأماً للمضمون. ثمة ما يطارد سركون بولص، إذاً. إنها قصائده المسكونة بألحان خفية، أو بنثرات زجاج شفافة ومشعّة. قصائد تتحدث عن مدن تتطاير في مهبّ الفتنة. تباغتنا بأصالتها وجدّتها، تماماً مثلما تباغتنا كلمات تنيسي ويليامز، من دون أن نجد تفسيراً منطقياً لذلك، سوى أن هذا الشاعر مطاردٌ أبداً بالشّعر.