هناك ناحية في سينما تيم بيرتون يعاود المخرج التطرّق إليها كلما كانت المناسبة متاحة، وأحياناً يتطرّق إليها حين لا تكون هناك مناسبة متاحة. إنها ناحية متمثلة بعلاقة الإبن الذي هو عادة بطل الفيلم بالأب موجوداً او غائباً. نراها في"إدوارد سيزرهاند"1990 متمثل بذكريات جوني دب حول أبيه فنسنت برايس. وتطالعنا في"إد وود"1994 مجسّدة في كيف وجد المخرج إد وود جوني دب أيضاً في الممثل بيلا لاغوسي قام به مارتن لاندو بديلاً عن أب مفقود. ونجدها في"باتمان"1989 و"باتمان للأبد"1995 حيث غياب الأب في حياة باتمان يدفعه لاعتبار رئيس الخدم والخادم الوحيد واسمه ألفرد مايكل غوف بمثابة أبيه. كذلك هي متمثّلة بعودة الإبن بيلي كرودوب الى أبيه ألبرت فيناي بعد قطيعة طويلة في فيلم بيرتون"سمكة كبيرة"2003 حياة عائلية في رواية رولد دول التي نشرت سنة 1964، وهي قصة متوسطة الحجم، لا يوجد أب لويلي وانكا، صاحب امبراطورية الشوكولا المسمّاة باسمه. بيرتون، يُبدع شخصية أب يؤديه المخضرم كريستوفر لي ويبني مشاهد ذاكرة فلاش باك يعود بها ويلي جوني دب الى أيام ما كان ولداً يحرمه أبوه، وهو طبيب أسنان، من أكل أنواع الحلوى بما فيها الشوكولا. نتيجة ذلك أن ويلي الذي ترك بيت الأسرة أحب ما كان ممنوعاً عليه لدرجة إنشائه أكبر مصنع شوكولا في العالم. وفي النهاية، يعود ويلي الى حضن أبيه في لقطة عاطفية وبعد نحو ثلاثين سنة من الغياب. اذاً تيم بيرتون يحب العلاقة الحانية بين الإبن والأب فإذا لم تكن موجودة في العمل الأصلي، سيخلق لها مجالاً كما يفعل في فيلمه الأخير هذا. يستوقفنا"تشارلي ومصنع الشوكولا"في أكثر من ناحية، وناحية الأبوّة من أهمّها. والحقيقة أن الفيلم لا يخلو منها حتى ولو لم يبتدع بيرتون ذلك الخط الخلفي لشخصية ويلي وونكا. فتشارلي نفسه يؤديه هنا ولد موهوب اسمه فردي هايمور إبن عائلة يحب كل أفرادها بعضهم بعضاً. هناك والداه نواه تايلور وهيلينا بونهام كارتر - زوجة المخرج وهناك والدا أبيه ووالدا أمه والجميع يسكنون في كوخ مائل يكاد يسقط تحت وقع الثلج المنهمر، لكن الفقر لا يعنيهم. وحين يشتري تشارلي لوح الشوكولا الذي يحمل بطاقة تخوّله وأحد أفراد عائلته دخول مصنع الشوكولا الغامض، فإن ما يشعر به تشارلي هو أن عليه بيع تلك البطاقة الثمينة لمن يشتريها حت يستطيع مساعدة أهله. الأهم في النهاية: عندما يعرض ويلي على تشارلي المصنع بكامله شريطة أن يعيش فيه من دون عائلته يرفض تشارلي مفضّلاً العائلة والفقر على الاستقلالية الكاملة والثراء. وفي النهاية هناك ذلك التعليق الصوتي الذي يقول إن ويلي خسر المصنع لكنه ربح عائلة. الجريمة والعقاب يكاد"تشارلي ومصنع الشوكولا"يدور كاملاً على هذا الموضوع. والرواية تحويه من خلال حكاية تشارلي على أي حال. لكن ما يسترعي أيضاً الانتباه في جديد تيم بيرتون أن الفيلم قصة أخلاقية على أكثر من صعيد. تشارلي واحد من خمسة أطفال مع خمسة راشدين يصطحبونهم ربحوا البطاقات الذهبية التي تخوّلهم دخول المصنع. إنها فرصة نادرة حيث سيقوم ويلي كما يؤديه جوني دب ببراعة لافتة بالتجوال بهم في مصنعه الفانتازي حيث"كل شيء هنا شوكولا"يقول لهم ويضيف في مشهد آخر"كل شيء هنا يؤكل". إنه ليس مصنعاً من آلات طبخ الشوكولا وصهرها وتغليفها وتعليبها كما في المشاهد التمهيدية للفيلم بل أشبه بحديقة غنّاء ذات أشكال غريبة وطبقات متعددة وسراديب وأبواب ومداخل ومخارج لا نهاية لها وكل منها يؤدي الى جزء من عملية غير تقليدية لصنع الشوكولا. لقد استقطب ويلي من المجاهل شعباً من الأقزام كل أفراده يتشابهون يقوم بأدوارهم جميعاً ممثل اسمه ديب روي تم استنساخه على الديجيتال ووزّعهم في كل مجالات العمل. وكلما دخل قسماً من المصنع هبّ من فيه يقدم"نمرة غنائية استعراضية"في بعضها لمحات من ميوزيكالات هوليوود. اللفتة الموسيقية مفاجئة في البداية. وبيرتون يعلم أنها بعد المرتين الأولى والثانية ستتحول عبئاً إذا ما منحها وصلات طويلة، فاختصر منها وحسناً فعل متجنّباً منح الفيلم وقفات طويلة خارج القصة وتشتتاً في مهام الفيلم عموماً. أربعة من الأولاد الفائزين بالقسائم الذهبية هم إما من أولاد الأثرياء او من المدلّعين الى حد الإفساد. هناك الألماني أغوستوس يؤديه فيليب وايغاتز: صبي بدين جداً شره في الأكل لا يتوقف عن التهام الشوكولا. وهناك فتاة لا تتوقف عن مضغ العلكة وتفتخر بأنها فازت ببطولة مضغ علكة لأطول فترة ممكنة، لكن مشكلتها ليست في العلكة بل في أنها نموذج لعقلية برجوازية فارغة بمفهوم الرواية كما الفيلم من الجنوب الأميركي نسخة مطابقة من أمها، وهناك الفتاة الأخرى الآتية مع أبيها ذيالنفوذ جيمس فوكس والتي اكتسبت مزايا والدها في الترفّع والأنفة والاعتزاز الفارغ. الرابع هو صبي أميركي ورث من ثقافة ألعاب الفيديو العنف الذي تحمله وتشرّبه في مفهوم فاشي واضح. تشارلي هو أفقرهم ووحيد المجموعة الصحيح أخلاقياً. والفيلم يرينا كيف يصل كل واحد من الأولاد الى عقاب نتيجة أفعاله وعصيانه تحذير ويلي: البدين يتحوّل الى شوكولا يخرج ماضغاً أصابعه عندما يرمي نفسه في بحر الشوكولا من شدة شراهته. والدلوعة الأميركية تتحوّل الى ثمرة زرقاء بعدما مضغت حلوى قُدّمت إليها. الفتاة البريطانية المتعجرفة لا تستمع الى تحذير ويلي وتصرخ بأبيها طالبة منه شراء سنجاب مدرّب ما يؤدي بها الى مزبلة المصنع هي وأبيها. أما الصبي الأميركي المتيّم بلعب العنف فيلاقي نهاية مناسبة وهوسه. المخرج والممثل هذه الرسائل الأخلاقية تصل الى المشاهدين صغاراً وكباراً محلاّة بمتعة نادرة تخلفت عنها أفلام كثيرة قررت انها موجهة الى الأولاد لكنها في الحقيقة لم تكن مناسبة لهم ولم تحمل إليهم الكثير في خانة المضامين. لكن كون الفيلم موجهاً الى الأولاد لا يمنع تيم بيرتون من تلوينه بالرسائل الاجتماعية أيضاً. فالمجموعة المدانة هي من الأثرياء وأعالي الطبقة الوسطى. ثم أن امبراطورية الشوكولا لا تخلو من نقد يتصاعد من خلال الطريقة التي يتصرّف بها ويلي وونكا مع حياته الخاصة ومع الآخرين. هذا ثالث فيلم معروض حالياً لديه تعرض واضح للرأسمالية في مفهومها. الفيلمان الآخران هما"أرض الأحياء - الموتى"لجورج أ. روميرو الشرير الأول ذو إسم يهودي ويسيطر على المدينة مستنزفاً كل ما فيها و"باتمان يبدأ"لكريستوفر نولان، حيث المؤسسة الإنسانية التي بناها أب صالح تحوّلت الى إمبراطورية تجارية ذات أطماع ومشاريع مادية بحتة. القصة ذاتها لم تكن تحتوي على أحداث درامية ويجب منح بيرتون وكاتبه جون أوغوست الذي كتب أيضاً"السمكة الكبيرة" علامات عالية كونهما غذّيا الأصل بهذا المزيج من الكوميديا والترفيه والحس الأخلاقي معاً. والأهم هو أن كل ذلك نابع من مخيلة مخرج لا يزال طفلاً في الداخل قادراً على تأليف عالم يثير العين والخيال موظّفاً كل الإمكانات المتاحة في تكنولوجيا اليوم من دون أن يجعل الفيلم قطعة منها. الى ذلك لا يفوتنا استيحاء المخرج المقصود من"متروبوليس"فريتز لانغ و"أوديسا الفضاء"ستانلي كوبريك و"ساحرة أوز"لفكتور فلمينغ الى جانب"الميوزيكال الأميركي". الشيء الوحيد الذي حرص الفيلم على الابتعاد عنه هو"ويلي وونكا ومصنع الشوكولا"لميل ستيوارت المأخوذ عن المصدر نفسه. أخيراً هذا رابع لقاء بين بيرتون وممثله المفضل جوني دب من بعد"إدوارد سيزرهاندز"،"إد وود"،"سليبي هولو". لكن إذا كنت تبحث عن صورة واحدة لجوني دب في كل هذه الأفلام فإنك لن تجدها. هذا الممثل يحرص على الخروج عن النمط وعن التكرار في كل ما يؤديه ويفعل ذلك بأداء يستحوذ الاهتمام تلقائياً. يبدو أداؤه في هذا الفيلم لامعاً، لكن تحت تلك اللمعة هناك دراسة عميقة لكل حركة وانصهار في شخصية تحبّها وتكرهها في الوقت نفسه.