عندما سئل الكاتب انطوني بارغس قبل نحو ثلاثين سنة، كيف تراه استساغ تحويل ستانلي كوبريك روايته الأشهر «برتقال آلي» فيلماً، مع ان كوبريك أخذ قدراً كبيراً من الحرية في اشتغاله على النص الروائي، بطريقة تغضب عادة، المؤلفين الأصليين للنص، أجاب: كان أول ما فعلت أنني نسيت روايتي وقلت لنفسي انني سأشاهد الآن فيلماً لكوبريك! واليوم، لو كان لويس كارول مؤلف «أليس في بلاد العجائب» حياً وشاهد «ما فعله تيم بورتون» بروايته الأشهر، لما كان رد على سؤال مماثل بإجابة مختلفة. ومشاهد اليوم بدوره، إن كان يريد ان يشاهد فيلم بورتون الجديد ويستمتع به، عليه ان ينسى الرواية الأصلية تماماً... حيث لا جدوى من تمضية الوقت في المقاربة بين النص المكتوب والعمل المصور. في اختصار، بورتون لم يؤفلم رواية لويس كارول، بل استوحاها ليحقق فيلماً جديداً له، فيلماً يدخل في فيلموغرافياه كمخرج، بالطريقة نفسها التي يخرج بها من لائحة روايات الكاتب الإنكليزي الكبير. ممتع حقاً، من الناحية البصرية، فيلم بورتون، بل تكاد تبدو ممتعة حقاً الإضافات والنواقص، بالنسبة الى الرواية الأصلية. الإضافات حيث ان بورتون وضع شيئاً من الفيلم من رواية أخرى لكارول – مكملة أصلاً لأليس – هي «عبر المرآة»... وأيضاً حيث ان بورتون أضاف سنوات عدة الى عمر الطفلة أليس: صارت هنا صبية تقترب من العشرين من عمرها، مقدمة على الزواج، أو تحاول في الفيلم – حتى وإن كانت الذريعة نفسها كما في الرواية: سقطة في وكر الأرنب – ان تزور أماكن طفولتها. وهنا لسنا ندري ما اذا كان تيم بورتون وفّق أو لم يوفق في اختياره... لكننا نعرفه انه، كما دأبه دائماً في أعماله السابقة، أعطى للعمل نكهة جديدة. وربما بخاصة نكهة ركزت على البعد البصري في العمل. ذلك ان فيلماً كلف عشرات ملايين الدولارات، في تقنيات – لونية وبصرية خاصة – وفي ألعاب وحيل سينمائية، وفي خلق أجواء مدهشة، ما كان ابداً في إمكانه ان يكون مجرد أمثولة أخلاقية فكرية. إذاً، مرة أخرى هنا، اهتم تيم بورتون بالجانب البصري، كما اهتم خصوصاً، بدلاً من ان يقدم فيلماً للصغار والمراهقين، بأن يقدم فيلماً يخاطب فيه الطفل داخل كل إنسان ومهما كانت سنّه، سواء كان من عمر أليس الرواية، أو من عمر أليس الفيلم. وفي هذا الإطار، للوصول الى هذه الغاية، اشتغل بورتون على النص كثيراً: ألغى شخصيات، وبدّل في شخصيات أخرى. بل انه أتاح حتى للشخصيات المختارة، فضاء أوسع ومشاهد أكثر مما كان يمكن ان يكون لو أنه نفّذ النص الروائي حرفياً. ومن هنا جاء «أليس في بلاد العجائب» على يديه، ومن جديد معرضاً للشخصيات. وهذه السمة هي التي تفرض السؤال التالي: تُرى، انطلاقاً من هنا، أو لم يكن اللقاء بين لويس كارول وبورتون مرتقباً منذ زمن بعيد. بل حتى في واحد من أكثر افلام بورتون واقعية من ناحية موضوعه، أي «السمكة الكبيرة»؟ إن ابن الرجل المحتضر في هذا الفيلم، إذ يأتي مع زوجته الفرنسية لزيارة أبيه في أيامه الأخيرة، أكثر مما يعيش موت هذا الأب، يعيش ذكرياته، الحقيقية أو المخترعة، وفي شكل يبدو متشابهاً مع زيارة أليس الصبية، في الفيلم لملاعب طفولتها، أو بالأحرى طفولة أناها الأخرى. ولئن كان بورتون يختم «السمكة الكبيرة» بمشهد يصوّر إيصال الأب الميت الى مثواه الأخير – وفي الفيلم الى بداية «حياته» الجديدة في عالم فانتازي، فإن الخاتمة تبدو بصرياً وخيالياً بالتالي، مليئة بكل الشخصيات الحقيقية والمخترعة، المنطقية واللامنطقية، التي كنا شاهدناها في الفيلم منذ بدأ الابن يطلع مباشرة أو بالواسطة، على ما يحكيه أبوه من ذكريات. في هذا المعنى، يبدو بورتون هنا وكأنه يقول ان لويس كارول، صاحب رواية فيلمه الأخير حتى الآن، كان من شأنه ان يغوص في فن السينما لو أن هذا الفن كان حاضراً وواعداً بكل السمات الجمالية، زمن كتابة رواية «أليس...» وبكلمات أخرى: يبدو بورتون هنا، بلجوئه الى فن السينما وكأنه يعيد الى لويس كارول حقاً بصرياً، كان سبق على أية حال، لرسامين أن أعادوه إليه، حين اشتغلوا على النص محوّلينه، صوراً ولوحات وشرائط مصورة. وفي هذا السياق هذه ليست المرة الأولى التي تقدم فيها السينما على اقتباس، مباشر أو غير مباشر، ل «أليس في بلاد العجائب»، بل ان ثمة اقتباسات لم تعلن ابداً عن نفسها، كما الحال مثلاً في فيلم «ماذا؟» لرومان بولانسكي. غير ان كل تلك الاقتباسات ظلت في معظمها عند مستوى الاشتغال على الحكاية، أي على المضمون والدرس الأخلاقي. أما هنا لدى بورتون، وفي فيلم يشاهد بطريقة ثلاثية الأبعاد، فإن المخرج حوّل العمل كله الى ما يشبه العالم الحي امام عيني مشاهده، حيث، حتى الشخصيات التي كان لها دور شرير في الفيلم، صارت شخصيات طريفة. وإذ تجسدت هذه الشخصيات وغيرها، في هذا البعد المجسد، ها هي الملكة الحمراء والأرنب القط... ولا سيما الشخصية الطريفة الغريبة التي يلعبها جوني ديب، ها هي تدب فيها الحياة امام أنظارنا، على الأقل كما قد يحدث على خشبة المسرح. ولعل هذا البعد هو الذي دفع بورتون الى جعل ممثليه يلعبون بطريقة لا تخلو من مسرحية مبتكرة، ما جعل لفيلم «أليس في بلاد العجائب» طابع الفن الشامل والأدب الشامل: الشعر والمسرح والسينما والموسيقى والألوان والأضواء والحركة المجسدة في بوتقة واحدة. فهل نضيف ان كل هذه الشمولية، هي التي أبعدت الفيلم كثيراً عن رواية الكاتب الأصلية وأثارت سخط الذين دون ان يكونوا ملمين اصلاً بتاريخ سينما بورتون، لا يستسيغون فيلماً انضم بقوة الى هذه السينما، كما فعلت من قبل أفلام لها أخرى، أُخذت من نصوص ادبية أحس معجبوها انه قد غُدر بها، أكثر من مرة مثل «سليبي هالو» و «تشارلي ومصنع الشوكولا» وحتى «كوكب القردة»؟